تُولي الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أولوية قصوى لملف «الأمن الفكري المصري»، وهو ملف عماده بناء الإنسان، وأساس هذا البناء يكمن في إعادة إحياء العقل الجمعي ليعود - كما كان - رائدًا في شتّى مناحي العلوم، ومُبدعًا في مجالات الثقافة والفكر والآداب والفنون، ومتفوقًا في مختلف الألعاب الرياضية، وقائدًا لركب المحبة، وسباقًا في مضمار التسامح والتعايش، وحامل مشعل التجديد في الفكر الديني، وحصنًا آمنًا يلوذ إليه ويحتمي به الخائفون من الاحتراق بنيران الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (1 - 3)
إعادة إحياء العقل الجمعي هو طريقنا إلى بناء الإنسان، وهذا البناء هو ضمانة تشكيل مجتمع رائد في شتى مناحي الحياة. وعصيٌ على أي غزو فكري - ثقافيا كان أم أيديولوجيا -، والأهم أن هذا البناء وذاك الإحياء هما دعامتا الحفاظ على «مصر الحديثة» التي يُشيّد بنيانها رجالُ الكنانة الشرفاء بقيادة الرئيس السيسي، والذين استطاعوا خلال فترة وجيزة لم تتجاوز السنواتِ الستَّ تدشينَ مشاريعَ قوميةٍ كنّا نظنها عصية على التنفيذ.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (2 - 3)
ولا يخفى على أحد أن العقلية المصرية تعرضت منذ سبعينيات القرن المنصرم لغزوات فكرية ممنهجة بدلت - بقدر كبير - مفاهيمها ومسخت ثقافتها وشوّهت تسامحها وتغوّلت على سعة تقبلها، وسعت إلى وأد ريادتها في شتى مناحي الحياة، وهى المتغيرات التي جعلت من ملف «الأمن الفكري المصري»، ملفًّا متشعب الروافد ومعقد الأبعاد.
أقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (3 - 3)
وطريقنا نحو الحفاظ على الأمن الفكري المصري، يجب أن يبدأ من المجابهة الفكرية للإرهاب، والعمل الدؤوب على تطهير التربة المصرية من بقايا بذور جماعة الإخوان الإرهابية، ومن ثَمَّ تحصين العقل المصري من الوقوع في براثن هذا الفكر الظلامي، وهي عملية أشبه بحرث التربة وتطهيرها حتى تكون صالحة للزراعة وقابلة لاحتضان بذور الفكر الجديد.
أقرأ أيضًا.. الوصاية الدينية.. و"برنيطة" الإمام
والمجابهة الفكرية للإرهاب، دور لا يصلح للقيام به سوى المؤسسة الدينية؛ لأن الإخوان وباقي الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية التي وُلِدت من رحم هذه الجماعة الإرهابية، استقطبوا الشباب وزيّفوا وعي العامة معتمدين على نصوص تراثية رفعوا مرتبتها من «الرأي البشري» إلى «النص المقدّس»، وراحوا يؤولون الآيات القرآنية تأويلًا خاطئًا يخدم أجنداتهم ويحقق أطماعهم.
أقرأ أيضًا.. «غزوة الأقصر» ورفع «الصليب» داخل المسجد النبوي!
نقل «البشري» إلى مرتبة «المقدّس» وتعمّد تأويل النص القرآني وفق الهوى، وبالعموم استخدام الدين لتحقيق مكاسب شخصية، هو نوعٌ من التزييف، ولكنه على الجانب الآخر (جانب النظرة الشعبية) يستهوي البعض للحد الذي يجعلهم يرون عناصر هذه الجماعات الإرهابية دعاة إلى الله ومجاهدين في سبيله. وكثير من الواقعين في براثن هذا الفكر الظلامي معذورون؛ لأن تزييف الوعي وغسل الأدمغة والفتنة باستخدام الدين واستغلال حاجة الفقراء بضاعة أجاد المضللون ترويج أنفسهم خلف ستارها.
أقرأ أيضًا.. رفاعة الطهطاوي.. رائد تحرير المرأة (1 - 2)
بضاعة التكفيريين المزجاة استطاعت أن تجد لها سوقًا في البلدان الإسلامية بصفة عامة، وفي مصر بصفة خاصة، والسبب الرئيس وراء هذا هو ذاك الميراث الثقيل من الجمود والتقليد وإغلاق أي باب للاجتهاد وتجديد الفكر الإسلامي منذ أواخر القرن الرابع الهجري وحتى اليوم، ولهذا فكشف رداءة هذه البضاعة والتدليل على خسة مروجيها والسعي إلى تحصين العقول من الوقوع في براثنها أمرٌ لن يتحقق إلا بالمجابهة الفكرية المستندة إلى الرأي الشرعي الصحيح، والقائمة على إظهار الوجه الحقيقي للدين، ولن يقوم بهذه المجابهة إلا المؤسسة الدينية لما تتمتع به من ثقة في نفوس العوام، وثقل يخشاه ويخافه جماعات العنف والتطرف.
أقرأ أيضًا.. رفاعة الطهطاوي.. رائد تحرير المرأة (2 - 2)
المجابهة الفكرية للإرهاب، هي السلاح الأول والحصن الحصين في الحرب التي تخوضها مصر ضد الإرهاب منذ ثورة 30 يونيو 2013؛ فالمواجهات العسكرية لها أهميتها لكنها وحدها لن تكون مُجدية إذا لم نعمل على تجفيف مستنقعات الفكر الإرهابي، وهذا الدور الأخير هو ما تقوم به دار الإفتاء المصرية منذ ست سنوات.
أقرأ أيضًا.. "هارب من الأزهر": صفحات من حياة الإمام محمد عبده (1)
فمنذ بزوغ فجر ثورة يونيو المجيدة ونجاح مصر في التخلص من الفاشية الإخوانية، كان الوطن وحماية عقله الجمعي من الوقوع في براثن التطرف واستقطاب جماعة الإخوان الإرهابية - والجماعات التي ولدت من رحمها - هو شغل علماء الدار وشاغلهم الأكبر، وتحملوا في هذا الطريق مسؤولية جسيمة، ضاعف من مهامها ومشقتها تخلّي غيرِهم عن القيام بدورهم؛ فكانوا بهذا - وما زالوا - صمام الأمان الفكري لمصر.
أقرأ أيضًا.. وحيد حامد.. وطنٌ احتوى شعبا
وقفتْ دارُ الإفتاء بقيادة الدكتور شوقي علام، في طليعة المدافعين عن الوطن ضد إرهاب جماعة الإخوان، وتصدّوا - دون تردد أو خوف - لمسؤولية تفكيك ألغام العقلية الإخوانية الكارهة لمصر - الوطن والشعب -، فكانت الدارُ أولَ مَن وصفَ الإخوان بـ«الجماعة الإرهابية» و«خوارج العصر»، ولم تكتفِ بهذا بل أفتت بِحُرمة الانضمام إلى صفوفهم، وفكّكتْ بالأدلة الشرعية المعتبرة ألغامًا فكرية عانينا منها عقودًا طويلة، في مقدمتها: المظلومية، وجاهلية المجتمع، والولاء والبراء، وأرض الإسلام وأرض الكفر، ودولة الخلافة، وتكفير الحُكام والمحكومين... إلخ.
أقرأ أيضًا.. انفراد لـ أهل مصر.. شوقي علام مفتيًا للجمهورية حتى أغسطس المقبل بعد رفض مرشحي الأزهر
لم تخشَ الدارُ مواجهةَ جماعة الإخوان وما وُلِد من رحمها من جماعات إرهابية، ولعلّ السبب وراء ثبات الموقف هو وطنية صانع القرار في دار الإفتاء؛ ففضيلة المفتي ومن حوله من علماء الدار لم يتلوثوا بسابقة انضمام - فكري أو تنظيمي- للجماعة الإرهابية، وهذا ما جعلهم أول من لبّى نداء الوطن حين اشتد وطيس المعركة.
في معركة المجابهة الفكرية لجماعة الإخوان وما تمخّض عن فكرها التكفيري من جماعات وتنظيمات إرهابية؛ دشّنت دار الإفتاء عدة مراكز بحثية متخصصة في تفنيد الأفكار المتطرفة والردّ عليها، وتكاملَ الدورُ بإنشاء مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة الذي أعَدَّ على مدار السنوات الست الماضية 1000 رسالةٍ تردُّ وتُفنّد وتدحض أباطيلَ الإرهاب وأكاذيبَه، كما أصدرَ المرصد مجلة «Insight» باللغة الإنجليزية للرد على مجلتي «دابق» و«رومية»، التي يصدرهما تنظم داعش الإرهابي.
أقرأ أيضًا.. انفراد.. مجلس النواب يُعيد طرح قانون تنظيم دار الإفتاء خلال أسابيع
ولم تكتفِ الدارُ بما سبق؛ بل أصدرت المئات من الدراسات المتضمنة لمباحث وآراء شرعية من شأنها تفكيك الفكر المتطرف ودحض دعاوى الإرهابيين، وفي معرض التجفيف التام لمستنقعات الفكر الإرهابي والقضاء عليه من جذوره أولَى الدكتور شوقي علام أهميةً قُصوى لمسألة تفنيد الكتب والمراجع التي تعتمد عليها الجماعات المتطرفة والتنظيمات التكفيرية لشرعنة فكرِهم؛ حيث حذَّرَ من 13 كتابًا ومرجعًا - بصفة خاصة - وردَّ على ما تضمنته هذه الكتب والمراجع ردًّا شرعيًّا يُثبت زيفَ ما جاء فيها.
قطعت دار الإفتاء - خلال السنوات الست الأخيرة - شوطًا كبيرًا في طريق تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، وما بُذل من جهود أكبر من أن يُحصى في مقال واحد، وأكاد أجزم - من خلال متابعة دقيقة للجهود التي تُبذل في هذا المنحى - أن قيادات الدار قادرون خلال فترة زمنية وجيزة قادمة على وأد هذا الفكر الشيطاني بالكلية، وتخليص مصرنا الغالية من ويلاته.
أقرأ أيضًا.. جنايات الجيزة تنظر محاكمة الزميل محمد أبو العيون بتهمة إهانة الأزهر وخدش رونقه المعنوي
وفي مجال تجديد الفكر الإسلامي، لم تغفل دار الإفتاء دورها في هذا المنحى، وهو دور محمود تحمّل - وما زال - فيه فضيلةُ المفتي ومن معه من قيادات الدار مشاقَّ كثيرةً وكبيرةً، ويكفي أنهم يتعرضون كل يوم لهجمات شرسة من ثلاث جبهات: الأولى: جماعات التطرف والتكفير، الذين لا يكفون عن شن الهجمة تلو الأخرى بغية إرهاب مفتي الديار ومن معه لإثنائهم عن أداء مهمتهم الوطنية والدينية، ليكونوا مثل غيرُهم ممن اختار التخلي عن هذا الواجب المقدّس، والثانية: دعاة الجمود والتقليد، الذين ينفثون سموم شائعاتهم لتشويه جهود الدار والتقليل منها، والثالثة: بعض العوام، ممن استعذبوا الرجعية وباتوا يرون الإصلاح هدمًا لأركان الدين.
وما زلنا ننتظر الكثير والكثير من دار الإفتاء في مجالات عدة، أهمها: استمرار جهود المجابهة الفكرية لجماعات التطرف والتكفير والتوسع في القيام بهذا الدور بالحد الذي يعوض غياب الآخرين، والمضي قُدمًا وبخطوات ثابتة في مجال تجديد الفكر الإسلامي والسعي إلى إخراج موسوعة فقهية تلبّي آراؤها احتياجات الناس وتواكب واقعنا المعاصر، والانفتاح على المفكرين والمثقفين بما يُنهي عقودًا من القطيعة بين المؤسسة الدينية والنخبة المثقفة، ويُوحّد الجهود وصولًا إلى الاستفادة من كل الأفكار الرامية إلى إحياء العقل الجمعي، واحتواء الشباب ومحاورتهم بطرق حديثة ومبتكرة تتماشى مع مخرجات الحداثة والثورة التكنولوجية المُشكّلة لعقول هذه الأجيال.
ولستُ مبالغًا في هذه الآمال، بل أرى تحقيقَها أمرًا ممكنًا وواقعًا سيشاهده الجميع قريبًا خاصة بعد رفض الشخصيات الثلاث الذين رشحهم الأزهر لتولي منصب المفتي، وزوال مخاوف القضاء على «مدرسة الإفتاء» التي أسسها في العصر الحديث العلامة الدكتور على جمعة، والتأكد من بقاء الدكتور شوقي علام في منصبه مفتيًا للديار، بعد قرار التمديد له حتى 12 أغسطس المقبل والذي سُيعلن رسميًّا خلال الأيام المقبلة.