اعلان

د. محمد غنيم يكتب: "عرباوي".. من العِشَّة إلى العمارة ومن حلَّاق إلى شاعر كبير

د. محمد غنيم
د. محمد غنيم

المتأمل في أغنية "عرباوي"، للمطرب الراحل محمد رشدي، يجد فيها كثير من المعاني، والدلالات، وربما الرموز، في إطار عاطفي، وفي ثياب ريفي أصيل. فعرباوي ما هو إلا إنسان بسيط يعيش في قرية أو كَفر أو نجع، يخترق قلبه سهم "كيوبيد" ليقع في غرام شابة حلوة "سنيورة"، ويجاهد أن يظفر بها، ويتحدى في سبيلها كل الظروف، من فقرٍ، ومستوى اجتماعي متدنٍ، ويتحمل ما يواجه من صعاب من أجل الانتصار لحبه، والظفر بمحبوبته، ويصمم فوق هذا أن يجعل من حياتها وحياته عالماً جديداً فيصمم على بناء البيت الذي سيجمعه بها وسيعيشان في ظله، فيبدأه بعِشَّة من الطوب اللبن أو الطوب الأخضر "الني"، وشيئاً فشيئا "وحبَّة حبَّة تصبح عمارة"، هكذا حلمه ينمو ويكبر، ليتجاوز طموحه ذلك إلى اعتزام أن يجعل من الصحراء جنَّة خضراء فيبذر الصحراء بالماء والخضرة "أبدر الصحرا خضرة ومية".

فهل كان هذا الشاعر البسيط، الفلاح والأسطى الحلَّاق، حسن أبو عتمان (1929-1990) هذا المجهول الرائع، له رؤية قومية، أظن والله اعلم أنه اثناء كتابة هذه الاغنية لم يكن يرمي إلى هذه الرمزية، ولم تكن في ذهنه هذه الدلالات التي نستنبطها من كلماته، ولكني أجزم انه كان متأثراً بالمدِّ القومي الناصري الذي ملأ الأفق العربي في هذا الوقت من المحيط إلى الخليج.

ولم تكن كلماته أقل روعة من صوت محمد رشدي، بل ربما كانت هي التي أكسبت صوت رشدي هذا التألق غير العادي في هذه الاغنية الاستثنائية في تاريخه الغنائي، والشاعر في هذه الاغنية من أولها لآخرها يأخذنا، بل يشدنا شدَّاً، ليبحر بنا في نزهة تصويرية بالغة الجمال، أو يتجول بنا في متحف من متاحف الفنون الجميلة يأخذنا من بابه إلى قاعاته قاعةً قاعة، وفي كل قاعة منها تحفاً تسحر العيون وتسلب اللب. والأغنية، بعد مقدمة استهلالية تشجيعية تعرض مشكلة هذا الفلاح العرباوي وأنه يجب عليه أو يظهر إن كان عنده رغبة في محبوبته أن يظهر عزيمة ليظفر بها ويقدم ما يجعله جديراً بها

وله ياوله يا عرباوي ارمي بياضك خط القناوي

وإن كنت شاري يا أدهم زمانك

المهر مركب وأنت معدَّاوي

عرباوي .. عرباوي

ويستوقف السامع، أو القارئ هذا التسبيه البليغ الخارج من رحم البيئة (المهر مركب وأنت معداوي).

ينتقل بنا الشاعر إلى الأغنية التي قسمها إلى ثلاثة مقاطع أو بالأحرى إلى ثلاث صور كلّية مركّبة، كل منها بمثابة قاعة متحفيه كما قلت، هذه الصورة الكلية تتألف من صور فردية كلآلئ العقد أو كقطع الفسيفساء في جدارية رومانية، أو كوجوه الفيوم الأثرية.

وجميعها، كلّية كانت أم جزئية، هي انعكاس لأصالة بيئته التي حملها معه طوال حياته فجاءت الصور والألفاظ، مفعمة بالمشاعر الدافئة، نابضة بالحياة والألوان والخيال، معبرة عن بيئة مصرية أصيلة.

الصورة الأولى (التتيم بالجمال):

يصور فيها جمال محبوبته، التي تشغل باله، (شغلاه الشابة الحلوة السنيورة). إنه مغرم ومتيم بسيدة شابة، وحلوة، وسنيورة (لفظ غربي ربما أسباني للدلالة على السيدة المكتملة النضج). ويأخنا إلى مبررات غرامه بها، وحيثيات حبه لها، من خلال وصفها لنا، فيسهب في رسم صورتها ووصفها، فهي (أم التربيعة بترسم ضلّاية على القُورة) ذات تربيعة لمنديلها فوق رأسها، تلقي بظلها على جبينها الوضاء، وينتقل إلى تفصيلية ثانية في محبوبته، فيقول: (وضفاير غارت من القُصَّة رقصت على رن الخلاخيل) ضفائرها في مؤخرة شعرها أصابتها الغيرة من مقدمة شعرها (القُصَّة) التي تتقافز فوق جبينها، مع كل هبَّة نسيم، فصارت ترقص وتهتز هي الأخرى على رنة خلخال قدميها (حُلي القدم).

ثم ينتقل إلى عيونها، ليصفها وصفاً غير عادي، ويسهب فيه، فيقول:

"وعيون يا صبايا ما تتوصى غِيَّه وبتطير زغاليل

بتبصّ بصَّه .. الله عليها.. الشمس تخجل قدام عينيها

والبدر يسهى لما يراعيها" وشبهها تشبيهاً بليغاً في صورة متداعية، بإضافتها إلى المُشَّبَة به، فصارت "غِيّة" حمام ونظراتها كأنها زغاليل تطير منها هنا وهناك بكرم لا يحتاج إلى توصية. ويستمر مع هذه العيون الآسرة، فيركز مع نظراتها، فكل نظرة من عيونها تخجل الشمس منها؛ لبهائها، ودفئها، وتوهجها، كما أن القمر في اكتماله (البدر) يصيبه السهو عندما يراعيها. ويكفي أن يعلق على هذه النظرة بقوله "الله عليها" لتصلنا كم هي جميلة وكم هو متأثر بها وواقع في هواها.

وهو أمام هذا الجمال وأمام هذا الشموخ الأخاذ، يعبر في جملة واحدة عن تواضع حالة: "وش حال أنا يا أبو قلب غاوي".. ماذا سأفعل، وكيف سيكون حالي وماذا سأفعل مع قلبي الذي تغويه ويريدها.

الصورة الثانية (الأمل والطموح):

ينقلنا الشاعر في هذا المقطع، إلى صورة أخرى، صورة من يحدوه الأمل، ويحفزه الحب، فيقسم أنه سيسعد قلبه الذي صار رمزاً للحِيرة وأباً للحيارى ويصير شارع وحارة للحيارى التائهين (قلبي يا قلبي يا أبو الحيارى.. والله لأعملك شارع وحارة)، وسوف ينبي لمحبوبته بيتاً صغيراً أو (عِشَّة) بالطوب النيَ الأخضر (اللبن)، وشيئاً فشيئاً ستصير هه العشة عمارة كبيرة (وأبنيلها عِشَّة بالنَّي الاخضر.. وحبَّه حبَّه تصبح عمارة). ثم يتسع حلمه، ويتضخم طموحه، لينتقل به إلى الصحراء القفر الشاسعة، ليبذرها بالماء والخضرة، وساعتها سوف يتقدم لخطبتها وتكون ليلة الحِنَّاء، حيث توضع الحنَّاء في يديه ويديها (وأبدر الصحرا خضره وميَّه ... وازرع الحِنِّة في ايدها وايدي). وجميل الفعل أزرع الحِنَّة، فلا ندري أيقصد بالحِنَّاء نبات الحنَّاء أم حِنِّة الفرح؟

ويختتم هذه الصورة الكلية كالعادة بتساؤل، لقلبه الذي يشاركه الحلم عمَّاذا يشتهي من أحلام أخرى ويطلب منه أن يهدئ قليلاً ويصبر: "اهدى يا قلبي صبرك عليه؟ .. ولكنه يعود من حلمه إلى الواقع، فلا يجد إلا الصبر الذي يتسلح به، فالصبر مطيَّة لا تكبو، فــ "الصبر هو .. هو المداوي".

الصور الثالثة (مواجهة الواقع)

يعترف أنه مغرم بتلك السنيورة، ومتيم بها، وهو يعلم أن أهل الهوى حالهم لا يسر (والله يا هوى مغرم صبابه ... وقالولي أهل الهوى غلابه)، وانه شاري، ويريد الظفر بها، وأنه سيتحمل في سبيلها كل المتاعب، وسيتجاوز كل صعب، وأنه سيجعل من قلبه لها مأوى ووسادة (أنا قلت شاري وما دمت شاري ... لو كانت نغم قلبي ربابهة).. كم جميل هذا التعبير "لو كانت نغم قلبي ربابة".

ويستولى عليه الحلم، ويتحدى طموحه الواقع، فيعزم على أن يجمع هناه مثل صُرَّة في طرحة من الحرير، وسوف يبذر الياسمين والفل في العش الذي سيجمعه بها (وأصرُّ الهنا في طرحة توللى ... وابدُر عشنا ياسمين وفوللى) ... ولسوف يخلف ظن من يتوقع من الهوى أن يكون تباكي وشكوى ولوعة، بل الهوى في نظره أن يحظى بمحبوبته ويفوز بها ليهنأ معها في عشة أو عش مبذور بالفل والياسمين (واخلف ظنكم في الحب ياللي ... فاكرين الهوى ده دمع و شكاوي).

وعن "عرباوي" يقال أن الشاعر حسن أبو عتمان، فشل في مقابلة رشدي، فكتب كلمات الاغنية ورماها في سيارة رشدي، ومعها نمرة تليفونه، وأعجب بها الملحن حلمي بكر فلحنها وأقنع رشدي بها. ومن أغانيه الأخرى لرشدي "يا عبد الله يا أخويا سماح" من ألحان بليغ حمدي. وكما كان حلمي بكر السبب في جمع الثنائي عتمان ورشدي، يقال إنه كان سبب التفرقة بينهما بعدما أقنع رشدي مرة أخرى ألا يستمر في العمل مع هذا الشاعر الفلاح الحلَّاق بدعوى عيب أن يستمر في العمل مع حلاق، وكان عتمان يعتز بمهنته. وخسره رشدي، من وجهة نظري، بينما تلقفه أحمد عدوية ليكوِّنا ثنائياً مميزاً، فألَّف له أبو عتمان ما يقرب من ثلاثة أرباع أغانيه ومن أشهرها "زحمة يا دنيا زحمة"، و "كله على كله"، و"سلامتها أم حسن"، و"راحوا الحبايب" ، و"يا بنت السلطان"، و"والله ولعب الهوا"، و" قلق في قلق جابوا لنا القلق"، وغيرها .. وغيرها.

وتوفي حسن أبو عتمان عام 1990م، رحمة الله تعالى عليه، وتوفي رشدي عام 2005م، رحمة الله عليه، وبقيت الأغنية لتشهد لهما أو عليهما.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً