د.غانم السعيد يكتب: أصبوحة الجمعة

د. غانم السعيد
د. غانم السعيد

عندما يحكي لنا - رسول الله عليه وسلم - قصة حدثت لفرد أو لجماعة من أهل الأمم السابقة، فهي بلا شك قصة حقيقية ليس للخيال فيها مجال لأن الذي أخبره بها رب الأرض والسماء، وإخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا بمثل هذا القصص من أهدافه وغاياته أن نتأسى ونقتدي، فإن كانت تهدي إلى عمل خير وبر اقتدينا واهتدينا، وٱن كانت تحذر من سوء وشر تجنبنا وانتهينا.

ومن القصص النبوي التي كلما قرأتها وتأملتها أخذتني الدهشة، وأذهلتني القدرة الإلهية حينما تتجلى بالنعم، وتمنح العطاء، وأن على العبد حينها أن لا يسأل عن كيف جاءت النعم؟ ولا يندهش من تلاقي عجائب الأسباب التي قامت بمهمة توصيل العطاء، لأن الذي يدبر أمرها رب أمره بين الكاف والنون، إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

هذه القصة رواها مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بَيْنا (بينما) رَجُلٌ بفَلاةٍ (صحراء)مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ ( الحرة: حجارة سوداء ملساء لا تتتشرب الماء)، فإذا شَرْجَةٌ (أي فتحة، مثل قناة الري عندنا) مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ (أي: بفأسه) فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ.

فالقصة النبوية - كما هو واضح - تخبرنا أن رجلا من أهل الأمم السابقة، كان يعبر الصحراء في حاجة له، وبينما كان في سيره حدث معه شيء غريب مدهش، فقد سمع صوتا في سحابة كانت تمر فوق رأسه، يأمر هذا الصوت السحابة أن تسقي حديقة(بستان) فلان، سمع عابر الصحراء: اسم هذا الرجل وتيقن منه.

وهنا نحتاج إلى وقفة نتساءل فيها - قبل أن نسترسل في سماع بقية القصة - من هذا الذي أمر السحابة بأن تسقي حديقة الشخص الذي سماه لها؟!، إنه بلا شك مَلَك السحاب، الذي جاءه الأمر من رب السماء، ثم يأتي التساؤل الآخر، لماذا كان الأمر للسحابة بأن تسقي حديقة هذا العبد فقط ولا تزيد؟؟ لا شك أن هذا تكريم للرجل صاحب الحديقة يفوق نعمة الغيث والسقاء، فهل هناك مكرمة للعبد أفضل من أن يذكره ربه باسمه، ويردد ذكره ملك السحاب، وتسمعه السحابة فتستجيب لأمر ربها لترضيه.

ثم تتوالى عجائب وغرائب القصة، حينما تسمع السحابة أمر آمرها وتستجيب له، بل وتعرف مكانا محددا في الصحراء هو الذي سيحتفظ بمائها فلا تتشربه الرمال (فتنحى ذلك السحاب) أي تحول في سيره ومساره إلى (حرَّة) من الأرض دون أي مكان غيرها لأن الحرة بحجارتها السوداء الملساء التي تمنعها من امتصاص الماء تشبه صحنا أو طبقا كبيرا في وسط الصحراء اختاره السحاب ليسقط فيه ماءه، وبعد أن سقط ماء السحاب، إذا بشرجة (بقناة ري) صنعتها القدرة الإلهية لتمتد من (الحرة) إلى الحديقة لتستوعبت الماء كله فلم تنقص منه نقطة واحدة لا بالتبخر، ولا بامتصاص رمل الصحراء.

كل ذلك يحدث أمام عين وسمع عابر الصحراء، ففرضت عليه تلك العجائب التي يشاهدها ويسمعها أن يتابع الأحداث حتى تصل إلى نهايتها، فسار مع الماء حيث يسير، فإذا هو برجل قائم على رأس حديقته يستقبل الماء ليحوله بمسحاته إلى حديقته، فسأله عابر الصحراء ، يا عبد الله! ما اسمك؟؟ وكانت الدهشة التي عقدت لسانه، وأعجزت بيانه، وهزت كيانه، أن يكون اسمه هو ذات الاسم الذي سمعه في السحابة حينما أمرها آمرها أن تسقي الحديقة، وهنا يسأل صاحب الحديقة عابر الصحراء:،يا عبد الله لم سألتني عن اسمي؟!، فيحكي له العابر في دهشة واستغراب: أنه سمع صوتا في السحاب الذي ماؤه في الشرجة، يقول للسحاب: اسق حديقة فلان، الذي هو اسمك.

ثم سأل العابر صاحب الحديقة في اندهاش أكثر، وتعجب أكبر، فماذا تصنع فيها؟! أي في خراجها.

ونحن هنا أكثر عجبا واندهاشا من ذلك العابر حينما يسخر رب الكون، كثيرا من مفردات الكون ( الملائكة - السحاب - الصحراء، الحجارة - الشرجة - ثم الإنسان العابر) ليحملوا نعم الله ورحماته إلى إنسان في جوف صحراء.

ولا تزال القصة تحمل كثيرا من الدهش والاستغراب من هذه الفضائل والنعم التي تتجلى على صاحب الحديقة، مما يستدعي أن نسأل سؤالا يحمل معنى الدهشة والاستغراب مع ما يحمله - أيضا - من معاني التقرير والتوكيد: مالذي يفعله صاحب تلك الحديقة القابعة في جوف صحراء قاحله في كل يوم يريد أن يسقيها فيه ، إنها ليس لها مسيل ماء بجري إليها، ولا بئر مشيد يفيض عليها ، إن كل ما يفعله الرجل أنه يأخذ فأسه ويذهب إلى حديقته ثم يقف عند مدخل الشرجة (قناة الري) وعيناه شاخصتان إلى السماء، وقلبه يخفق انتظارا لرحمات ربه، ونزول غيثه، وربه من فوق سبع سماوته، لا يخلف معه وعده، ولا يمنع عنه غيث، وهو سبحانه أعلم بحاجات العباد قبل أن تهم بها نفوسهم.

ولكن لماذا كل هذا العطاء وهذه النعم والمنح؟!

لقد سأل العابر صاحب الحديقة هذا السؤال، فقال له: ما تصنع فيها، أي ما تصنع في ثمرها حتى يحدث معك كل هذا، فقال له صاحب الحديقة، أما إذا ما سألتني ( ويبدو أنه كان حريصا أن لا يعلم أحد بما بينه وبين ربه، ولكنه هذه المرة سيقول)، وقد قال: ( إنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ).

ولو تأملنا في هذه القسمة نجد أن ثلثيها يعودان إلى الرجل وحديقته، والذي يخرج منها لله هو الثلث فقط ، ذلك الذي يخرج للفقراء والمساكين والمحتاجين.

يا الله، يا الله ، يا الله.

إنها رحمات الله التي تستمطر بالعطاء.

إنها نعم الله التي ينزلها الإنفاق مدرارا مدرارا..

علينا ألا نتعجب ولا نندهش إذا تجاوب الكون بسمائه وأرضه، وملائكته وإنسه، وسحبه ومفاوزه في تنزيل الرحمة الربانية على عبد من عباده جعل للفقراء من خلقه نصيبا معلوما من عطاء الله له.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً