لما تكن عيناه الفاحصة الخبيرة لتمر على كومة مهملة من الأسلاك وسط مجموعة من الصفائح فوق سطح إحدى البنايات مروراً عابراً كغيره من البشر.لقد رأي فيها ما لم يره غيره، رأى فيها غزالة، لها رأس دقيق الملامح، وساقان رشيقان، وجسد منساب.
كان هذا ما قاده إليه خياله الخصب، وما أنتجته يداه الماهرة، من هذه الكومة المهملة. عمل فني مكتمل الأركان، يحمل التشخيص، والتكوين، والحركة، مع بساطة معبرة واختزال موحي، عمل فني كان قبل أيام قليلة مجرد شيء مهمل.
وكما قال الجاحظ، منذ أكثر من ألف ومائتي عام: "الأفكار ملقاة على قارعة الطريق لكنها بحاجة لمن يلتقطها"، خلق الله الفنان ليلتقط الأشياء المهملة، التي لا يتلفت إليها غيره، بعينه الفاحصة الخبيرة، يلمح الجمال الكامن فيها، يلتقطها،يكسيها حُلَّة الفن الجميلة، فيصيغها عملاً ملفتاًفي جماله وتكوينه، ووقد يكتب لها بيديه الخلود. وهكذا يفعل الفنان "جلال جمعة" مع حجر غلف، "زلطة" مهملة، وسلك لا يهتم به إلا النجار المسلح، وخشبة قديمة، وفرع شجر جاف قد تتعثر فيه القدم في الطريق، وقد يكون مصيره أكوام المخلفات، ليأتي دور الخيال، وحسِّ الفنان، ومهاراته، فيصنع منها تكوينات تجمع بين الخيال والطبيعة، وتجسد تجربته الخاصة وأسلوبه الفني المميز.
في مكان يطل التاريخ عليك فيه من النافذة، ويلقي عليك السلام، في حي عابدين العريق، كانت زيارتي لـ "بيت جلال"، واحة فنية صغيرة، أشبه بمتحف صغير يضم أعمالاً فنية، أغلبها للفنان جلال جمعة، الظاهرة الفنية الفريدة، وأحد رواد فن التشكيل بالسلك في مصر والعالم العربي، إن لم يكن هو الرائد الحقيقي له، وبعض الأعمال الفنية الأخرى المهداة له من أصدقائه الفنانين. ومما أضاف على الزيارة مذاقاً خاصاً أن التاريخ يطارد عينيك منذ أن تطأ أقدامكالحي القديم حيث يوجد "بيت جلال" الفني، وينفذ إلى رئتيك عبر هوائه،فهذه قصور عابدين،ترفع هاماتها من بعيد، ولا زالت تفيض هيبة وبهاء رغم عزها الذي ولَّى، تذكرك بالخديوي إسماعيل، وأيامه الخوالي النيّرات، والقاهرة الإسماعيلية الحالمة، وأيام مصر الملكية التي رحلت.
والمكان على صغره، معطَّر بالفن وبروح من تتردد فيه أنفاسهم،يستقبلك صاحب المكان، ذو الوجه المبتسم الودود، بشعره المتحرر من قيود التصفيف، وروحه الطيبة النقية، التي ورثها من طفولة لم يمر عليها الزمان، ويصحبك في ودٍّ بالغ للتعريف بأعماله. وما أن تشاهد أعماله وتتأملها، تستشعر أنك أمام فنان يغزل بالسلك عالماً من الفن والإبداع والخيال، ويعزف به تكوينات بشرية وحيوانية تتسم بالبساطة في التعبير، والبساطة روح الفن الحقيقي القادر على الوصول والاستيعاب والتذوق، كما تمتاز بالاختزالالموحي فى الشكل،وهو يجمع في تكويناته بين التجريد والتشخيص مع عدم إغفال التشريح.
يقدِّم الفنان جلال جمعة أشكالاً مدهشة لطيور وحيوانات وبورتريهات لشخصيات عامة ومشهورة،فهو فنان عازف ماهر بالسلك، كما هو عازف ماهر على البيانو، فقد تفضل وأسمعنا عزفاً رائقاً لموسيقى أغنيات لأم كلثوم، وعبد الوهاب، وشادية، وفيروز، في جمال لا يقل عن جمال فنه التشكيلي وهو ما اضفى على الزيارة حسَّاً فنياً مضاعفاً.
وعلى الرغم من عمله كمهندس ديكور عقب تخرجه في كلية الفنون التطبيقية عام 1974، "قسم التصميم الداخلي والأثاث"، وحصوله على منحة لدراسة الفن بإيطاليا 1975،فإن تساؤلاته عن علاقة الكتلة بالفراغ لم تكف عن طرق رأسه وخياله، إلى أن جاءت تلك الصدفة التي جعلت منه رائداً لفن التشكيل بالسلك، وليقدم لناحالات تشخيصية وتكوينات مجسَّدة من الكائنات، والبشر، والحيوانات، والطيور، والحشرات،من أشياء مهملة، فى مضمون جديد، يتصف بالحيوية والانطلاق في التعبير،وإن ظل تخصصه فى مجال الديكور يلح عليه، ويطارده، فيحن إليه، ويستسلم له فيضفي لمسة من الجمال والحيوية والارتقاء بالذوق على أعماله وتجربته الإبداعية.
يتربع السلك كخامة أساسية كخيط ممتد دون لحامات، يغزل به جُلِّأعماله الفنية وتشكيلاته، وهو ما يزيد من جماليات العمل الفني ويجعله متميزاً عن غيره، وقد يشارك السلكَ"الزلط"، أو أفرع الشجر الجافةعلى استحياء، في إطار من احترام الخامة دون إضافات تفسد طبيعتها،حتى يكون عملاً مختلفاً عن الأعمال الأخرى، وهذا يزيد من جمالية العمل ويؤكد براعته في إنتاج أعماله الفنية.
ربما لم يلق الفنان جلال جمعة التقدير الذي يستحقه من المؤسسات الثقافية والفنية المعنية، كظاهرة فنية فريدة، وصاحب أسلوب فني متميز، ولأنه بسيط وجميل، تماماً كأعماله، دائما ما يكفيه رضا جمهوره، وتذوقهم لفنه، ونظرة الاستحسان في عيونهم لأعماله والإشادة دائماً بها.