بينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديق عزيز لي في ليلة قائظة من ليالي هذا الصيف، على إحدى مقاهي وسط البلد القديمة، إذ به يحدثني عن قريب له من الأقاليم يعمل طبيبا في أحد مستشفيات القاهرة، وبسبب ظروف عمله فإن الأخير يضطر للمبيت معه بضعة أيام متقطعة على مدار الأسبوع.
قاطعت صديقي وسألته بفضول: ولماذا لا يوفر المستشفى إقامة لقريبك الطبيب؟، أم أن الإقامة هناك غير مناسبة له؟، ابتسم الصديق وأجابني: "بالتأكيد المستشفى يوفر له إقامة جيدة لكن بشرط أن يعمل خمسة أيام في الأسبوع، لذلك فإنه يفضل العمل يومين فقط متعللا بظروف السفر، وبهذه الحيلة يستطيع أن يكون متواجدا في القاهرة بصفة مستمرة، وفي نفس الوقت يعمل يومين بدلا من خمسة".
وإن تعجب فعجب ردّ الطبيب عندما سأله صديقي: "وما الذي يمنعك من العمل خمسة أيام، خاصة أن الناس يمرون بظرف وبائي خطير، وهم في أشد الحاجة إلى جهودك أنت وزملائك؟"، ليرد عليه بكل أنانية وجحود: "وهل هذا بلد يستحق العمل والتضحية من أجله؟.. وهل هؤلاء الناس يستحقون أن أُرهق نفسي في معالجتهم بهذه الملاليم التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟".
في هذه اللحظة، كاد عقلي أن يتوقف أمام تفكير هذا الطبيب الشاب الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره!، وبدأت أسأل نفسي: ما عسى المجتمع أن يحصد من هذا الشخص سوى الإهمال وضياع حياة المرضى؟!، وماذا سيفعل هذا الشخص بحياة المرضى عندما يتقدم به العمر، وتعرض عليه السبل غير المشروعة وهو بهذا التفكير؟.
هذا النموذج ليس الوحيد بين أرباب هذه المهنة السامية، فهناك مئات النماذج مثله وربما أكثر أنانية وجشعا، حينما يصبح الطبيب سمسارا لشركات الأدوية والصيدليات الكبرى، لتكوين ثالوث انتهازي خطير يهدد صحة المريض، ويمتص دمه بعد أن يستنزف أكبر قدر ممكن من أمواله، دون مراعاة لحالته الاجتماعية أو تقديرا لفقره واحتياجه الشديد لهذه الأموال.
طبيب آخر من هذه النوعية، متخصص في أمراض النساء والولادة، يتعامل مع شركات مافيا الأدوية مجهولة المصدر "بير السلم"، والتي لا تحمل أي تصريح من وزارة الصحة ولا من أي هيئة دوائية، ويصف أدويتها للنساء الحوامل على أنها فيتامينات مفيدة لها وللجنين!، بالاشتراك مع إحدى الصيدليات التي تدفع له إيجار العيادة ورواتب الممرضات والعاملين لديه، في مقابل نسبة ربح يحصل عليها الطبيب من بيع هذه الأدوية، وبعض المميزات الأخرى من رحلات ترفيه مجانية، وكل ما يحتاج إليه هو وأسرته من أدوية سليمة مرخصة.
وبالرغم من ذلك، فإن كثيرا من المرضى لا يعلمون هذه الحقائق المؤسفة، لأن هذه الأمور تُدار بخفاء شديد وذكاء غير عادي، وتظل في مخيلتهم هذه الصورة المزيفة للطبيب على أنه سراب بقيعة يحسبه المريض معالجا، حتى إذا جاءه لم يجد سوى الإهمال والانتهازية ووجد عنده المعاناة وأدوية شركات "بير السلم"!.
كنت لا أحب أن أذكر هذه النماذج المأساوية لهذا النوع من الأطباء، خاصة أننا إزاء ظرف وبائي عالمي خطير يهدد البشرية، استشهد على إثره داخل مصر مئات الأطباء والممرضين من جيش بلدنا الأبيض الذي سطر ملحمة وطنية فريدة في مواجهة فيروس كورونا، وواجه بكل بسالة تداعيات هذه الأزمة الطاحنة، بل أنه في مختلف التخصصات الطبية نجد آلاف الأطباء الذين يعملون على راحة المرضى دون تفكير في عرض دنيوي زائل، لكن عندما تصل الدرجة ببعض الأطباء إلى هذه التهاون والتفكير المادي البحت، دون مراعاة لقيم ومبادئ هذه المهنة العظيمة، لا بد أن ندق ناقوس الخطر، لعل الله أن يوقظ ضمائرهم من سباتها العميق.
إن الطب لمهنة من أعظم المهن، وإن القيام على معالجة آلام الناس وتخفيفها لشرف إنساني كبير، لكن حينما تتحول هذه المهنة إلى تجارة، والصيدلية إلى مخزن لبيع منتجات "بير السلم"، وينقلب الطبيب إلى سمسار يلهث خلف المادة ويتاجر بآلام المرضى دون مبالاة بصرخاتهم وأوجاعهم، فإنه يكون قد فرّط في سلاحه وتنازل عن شرفه بمحض إرادته.