ما يكتبه الكاتب قد يصير مصباحاً يضيىء أو ظلمة تنتشر، غرساً يثمر أو بذرة تتعفن وتموت، ترياقاً يشفي أو خنجراً يدمي، بستانَ زهورٍ أو أشواك دامية، ما يكتبُ الأنسان، يُسجَّل له .. أو عليه.
ومع إيماني بأن الأدب قد يكون محاكاة للواقع وتوثيقاً، أو تسجيلاً له، بجماله وقبحه، وطهره وتدنسه، وسموه وتدنيه، وبما له وما عليه، إلّا أن للأدب وسائله، وأساليبه، وله رسالته، التي ترفع الوضيع وتسمو به، وتعلي من قيم المجتمع، وتحترم تراثه وتقاليده وموروثه، وتميط الغبار عن جواهره، وتبرز محاسنه وتغض الطرف عما يشينه.
ومن خلال قراءاتي لعدد لا بأس به من الروايات في السنوات الأخيرة، وجدت ما يدفعني للتوقف عن تكملة بعضها، لما أصابني من غثيان ورغبة ملحة في القيىء كلما تعمقت في القراءة فيها، كانت من نوع الأدب المثير أو الإباحي "الإيروتك" الرواية فيه أشبه بوجبة للذباب، والذي أوشك لا تخلو منه رواية، إلا ما رحم ربي، جاءت رواية "متاهة تسكن جسداً" للكاتبة الدكتورة إنجي البسيوني لتعطي بصيصاً من النور، وأملاً في أدب نظيفٍ، راقٍ، واعٍ، خالٍ من "قلة الأدب". رواية أشبه بوجبة تحتوي على أطيب وأشهى ما يشتهي القارىء من لغة أنيقة، وحوار عميق، وتصوير ملفت، وحبكة محكمة، وسرد متوازن، وفلاش باك مثير، وأحداث منطقية، كل هذا مع تناول لقضايا نفسية، واجتماعية، ومشاكل أخلاقية، وعاطفية، وسلوكية عديدة. وصدق جوته حين قال: "الفن تشكيل قبل أن يكون جمالاً".
والقارىء لرواية "متاهة تسكن جسداً" يجد نفسه أمام ملاحظات لا تخطئها ذائقته، ولا تتوارى عنها أو تستر منها. وفي نظري إن أول ما يلفت نظر القارىء، بعيداً عن العنوان ودلالته، والتصدير الذي يلوّح لما هو آت، الإلتزام بلغة الفصحى، تلك التي ترفع رأسها، وتتربع على بساط الرواية وكرسي عرشها، ولا تترك مكاناً للعامية فيها؛ لتعيد لنا الرواية ما كان للفصحى من بريق، وأناقة، وتوهج، مترفعة عما ينال من كبريائها ويُخفت من بريقها.
وكما كان للفصحى من سطوة الملاحظة، كان للحوار نصيب منها، فالحوار في الرواية يتجاوز البساطة والمباشرة في الكثير من المواقف إلى العمق، والامتداد، فيسبر غور الشخصية، ويكشف عن الكثير مما تخفيه، يتجمل بالوصف حيناً، ويصير في بعض المواقف حواراً تشريحياً، بل وتشريحياً ممتداً في بعضها، كما في حوار د. جاسر مع زوجته إلهام، وهو حوار سجالي، أشبه بمباراة للملاكمة، أو المصارعة، متلاحقة الجولات، وفيه تصير اللكمات اتهامات متبادلة، ويصير العراك قذف متبادل بالنيران والحصى، ويتخللها تمزيقٌ للمشاعر لا للملابس، وتعرية للنفس لا للجسد.
كما قد يصطبغ الحوار بالصبغة التحليلية، كما في حوار د. مجدي التحليلي الطويل مع د.فتنة، الذي يأخذنا إلى الطب النفسي كما ياخذنا إلى التاريخ في توأم الشعلة، واسطورة نارسيس ابن حورية النهر في الأساطير الإغريقية.
وقد يكون الحوار مباشراً وكاشفاً عن الشخصية، أو عن المكنون الداخلي، فما اللسان إلا بريد القلب، وكما يقول المثل العربي"كفى برغائها منادياً"، هذا ما نلاحظه في حوارات د. مرفت مع د. جاسر، أو حوار د. جاسر مع والده في دار الرعاية، أو حوار د. جاسر مع د. فتنة في السيارة، وفي وصف د. جاسر لرقصة التانجو التي يحبها دون أن يعلم ما هو سببه حبه لها. كما يلاحظ القارىء ان الحوار في الرواية أيضاًً محكم البناء، متين البنات في الكثير من المواضع.
برعت الكاتبة في تصوير الحالات النفسية، والعاطفية لشخصيات الرواية، والخوالج، والدواخل، فيها، ونقلتها نقلاً حيَّاً إلى القارىء كما في حالة د. ميرفت وحبها للدكتور جاسر، وحالة معاذ وحبه للدكتورة نهاد، وعن الأم الضعيفة التي تظهر الطاعة لزوجها وهي تهيل عليه السباب واللعنات في سرها "آلاف المرات"، وحالة إلهام زوجة الدكتور جاسر وضعفها، والتي على الرغم من الحيز الضيق الذي ظهرت فيه، إلا أنه كان حيّزاً كاشفاً ومضيئاً، وكأن إضاءة المسرح، أو بالأحرى الحلبة، قد تركزت واقتربت " Close" بوضوح عليها وعليه، كما كان هناك High light قصير على الخادمة الغامضة، أو الأم، التي دست السم للدكتور جاسر وثأرها لابنها الذي راح ضحية الفقر، وضحية المجتمع، وضحية والد وضحية الدكتور جاسر.
أما عن التصوير الفني في الرواية فهو تصوير يستلفت النظر، ويشد الأذن، وتتعثر فيه الأقدام ونحن تتجول في حدائق النص، يسبر أغوار النفس في إيجاز وحكمة وبلاغة، ويرتقي إلى قصيدة شعرية مونولوجية في نهاية الرواية. والقارىء يقف أمام هذا "المونولوج" الأخير، إن جاز لي التعبير، وكأنه أما قصيدة شعرية رائقة"، خلاصة تجربة شاعر، عركته الدنيا وخبرها، ولا ندري لمن من شخصيات الرواية هذا الصوت، أم أنه صوت الراوي، أم الرواي المؤلف.
ومن الأمثلة على ذلك:
"كان يخلع رداء الخوف على أعتاب حنانها" "سيأكل بقسوته من طمأنينة روحه"
"بعينية الزرقاوتين الصافيتين صفاء الزبرجد الأزرق" "بعينين زجاجيتين"
"رموشها السوداء بدت كجناح فراشة ترفرف كلما هب النسيم"
"وأن قلبه قد ارتطم في الأرض مع جسدها"
"كيف للمرء ان بحن ويقسو، ويتلهف ويكابر، ويشتاق ويجفو، للشخص نفسه في اللحظة ذاتها
"كان من الواضح أنها ترفض كل الكئوس الممدوة إليها لتظل وفية لعطشها الشديد"
ولا شك أن للكلمات والأسماء دلالاتها، وايحاءاتها، هذا ما نلحظه في عنوان الرواية المثير للتساءل قبل القراءة الواضح الدلالة عنها بعد القراءة، وكذلك الحال في التصدير لمقولة الفيلسوف نيتشه. ولا شك ان اسم فتنة معبر عن مضمونه، وكذلك مؤنس، الذي ياتنس به الجميع، وجاسر الذي يجسر على فعل كل هذا دون أن تستوقفه رحمة أو يردعه حياء ويثنيه علم وأدب.
تناولت الرواية في ثنايا أحداثها، مشاكل إجتماعية، وقضايا عاطفية ونفسية، وسلوكية وأخلاقية، اخذتنا الكاتبة بسلاسة في أراضيها الوعرة وفي تشعباتها العديدة، منها: الحياة الزوجية التي لا ترتقي أن توصف بالحياة بين د. جاسر وزوجته، أو بين والد جاسر وأمه، وقهر المرأة الزوجة، والطفولة المعذبة، والفقر الذي يضطر الشاب لبيع كليته، والغنى الذي لا يمنع طبيباً ثرياً أن يتاجر في الأعضاء البشرية، والاستغلال العاطفي والمادي، والحب المذل (معاذ) (د. ميرفت) أو اشكالية الحب والكرامة، ومرض الرياء أو حدة التباين ما بين الظاهر والباطن، أو المظهر والجوهر. وعبّرت الكاتبة عن كل هذا تعبيراً صادقاً وبمنطقية غير مخلة في إطار من التشويق والإثارة.
في النهاية ، يمكن القول أن هذه الرواية يمكن تصنيفها ضمن ما يمكن وصفه بـ "الأدب النظيف"، أو الأدب الراقي الذي لا يجنح إلى الإسفاف أو الابتذال أو اللعب على الغريزة والتلوث الأخلاقي، فهي رواية تحترم القارىء، تحترم مشاعر القارىء، وأخلاقياته، وتقاليده، كما تحترم لغته، وفكره، وعقله وذائقته. هي رواية من الأدب الحقيقي، الذي يأخذ بيد القارىء إلى عالم يستشعر فيه الجمال والذوق، ويلهم وجدان القارىء ويرتقي بعقله، وينير فكره ويهذِّب سلوكه، "مازال في صحوننا بقيةٌ من العسل".