هكذا تكلم طاهر عبد العظيم .. الدخول من باب السردية البصرية باتجاه السيرة الذهبية

طاهر عبد العظيم
طاهر عبد العظيم

غالباً ما تأتينا عبارة 'هكذا تكلم...' لتحيل إلي حكيم أو أديب أو كاتب أو فيلسوف لتتحدث عن أهم مقولاته وأقوى تعبيراته، ولتكشف – ربما بدرجة من الكثافة والاختصار أو التفسير والتفصيل – عن مدرسته الفكرية أو رؤيته المعرفية أو رسالته الفكرية أو الروحية التي تخللت أعماله ونصوصه وكتاباته...

الأمر يختلف تماماً مع الفنان والتشكيلي المبدع والمعلّم المثابر والمعطاء ’طاهر عبد العظيم‘. لعل السبب ببساطة – بحسب ما رأيته منه وقرأته من أعماله وسمعته من خلال الخط واللون والمساحة في أعماله – هو أن جميع لوحات طاهر عبد العظيم ناطقة؛ لها لغة ومفردات ونطق ونبرة صوت ورنين حرف وموجات أثيرية مسموعة تجعل العين أداة استقبال، تنفعل بعدها حواس المشاهد / المتلقّي فتصدر من عمق روحه أصوات تسمعها الأذن وأنغام تطرب لها النفس وكلمات ومفردات وعبارات تنطق بها شفاه المتلقي وكأنه يقرأ بصوت عالٍ ما وجده أمامه من حروف وكلمات في مساحة طول وعرض اللوحة.

تتكلم لوحات طاهر عبد العظيم وتنطق، تترنم، وتنشد، وتغني، ويستبد بها الوجد فتتوالي وتتتابع الأهازيج والنغمات بألف ألف لغة، تحمل ألف ألف تأويل، وتنطق بالآلاف من الجمل والعبارات متزامنة ومتناغمة في النفس الواحد واللحظة الواحدة... إنه استحضار المشهد، معاينته والانفعال به والتواصل معه...

إنها لحظة 'كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة'... نعم... 'كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة' بنفس ذات تلك الشهادة التي نطق بها محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري في ’المواقف والمخاطبات‘... ثم جاء طاهر بن عبد العظيم ليدونها بيده في صورة لوحات ... لا كلمات...

اللوحة تخرج من إطارها

لوحة لطاهر عبد العظيم

لوحة لطاهر عبد العظيم

لماذا يحدث لي هذا؟! ... لماذا لا أستطيع أن أري الإطار أو البرواز أو الحد الحسي المكاني المادي للوحة عند طاهر عبد العظيم... لا أري اللوحة في صورة شكل رباعي الأبعاد تحدده أربعة أضلاع وأربعة زوايا قائمة... شوف تندهش عندما تدرك أنك تجد اللوحة لديه بالفعل تتجاوز الإطار المفترض أنه يحددها من أجل أن تدخل روحك عبر عدسات عينيك، تخترق ذهنك لكي تدخل بك إلى عالمها... لكنه ليس دخولاً إلى عالمٍ افتراضي مثل ما تجده في عدسات البعد الثلاثي 3D في السينما؛ بل هو دخولٌ إلى عالم الحقيقة... عالم الوجود الحق... والشهود الحق... والمعرفة السالكة والواصلة إلى الحقيقة، من الحقيقة، وبالحقيقة، ولأجل الحقيقة...

إنها تعطيك من الضوء ما يجعل الروح تبصر

إنها تنطق، تتكلم، تتحدث وتقول لك:

'شاهد ... ثم كن شاهداً ... ثم اسرد الرواية ... ولا تكتم الخبر ... كن أنت الراوي لحديث الروح ... وكن أنت الراوي للروح بعد ظمأ...

إنه هو ذلك الذي لا يشبه أحداً ... ويشبهه كل أحد ...

لوحة لطاهر عبد العظيم

لعله من النادر، الذي صار بحكم تزايد ندرته بمثابة ما هو مهددٌ بالانقراض، أن نجد الفنان المصري والعربي المعاصر قادراً على الثبات على درجة قوية وعميقة من الأصالة وسط موجات التغيير والتحول العاتية التي لا منطق لها ولا معنى فيها وسط عوالم الفن الما بعد حداثية، وأن نجده في الوقت نفسه منفتحاً على كل ما حوله، يقدّر جماليات كل فعلٍ فني جديد ومبتكر، ويستفيد منه ويستضيفه ويضيف إليه... وأن نجده يطوّر أدواته ويجددها، ويعتني بالموروث منها ويحتفظ به ويحافظ عليه... ونجده واحداً في ذاته، ولكنه ليس غريباً على ما حوله أو على من يقفون معه في ذات الزمان والمكان...

ولنا أن نسأل السؤال المشروع هنا؟ أين طاهر عبد العظيم من تلك الإشكالية؟

ولعلي أجدني قائلاً هنا أن طاهر يجيب ويستجيب لتلك الأمنية الغالية على قلب كل فنان وكل متلقٍ للفن ومحب له... لأنه الجامع بين هذا وذاك؛ والمدرك لهذا وذاك، وهو المتجاوز أيضاً لهذا وذاك.

لوحة لطاهر عبد العظيم

وإن السبب العجيب في ذلك هو أن طاهر عبد العظيم 'هو ذلك الذي لا يشبه أحداً' لأنه ليس يشبه أحداً من حيث تفرّد تجربته، وخصوصية طبيعة إدراكه لأدواته، كما أنه لا يشبه أحداً في قاموس جمالياته وعباراته التشكيلية، ولا يحتاج أن يتشبّه بأحد رغم أنه يستوعب الكثير مما سبقه ومما يعاصره...

كما أنه يشبهه كل أحد ... من حيث أن التعابير والجماليات، والصور والعبارات، والمضامين والتشكيلات التي يتردد عليها ويتعامل بها ويشتغل من خلالها كل الفنانين تتوافر عنده بأقدارٍ منسجمة ونسبٍ محسوبة وأثقالٍ متوازنة.

لعلنا إذا أسقطنا معيار الزمن وتجاوزنا معايير من هو من السلف السابقين ومن هم من الخلف اللاحقين من المصورين والفنانين أن نقول أن له نصيب في أنه 'لا يشبه أحداً من هؤلاء وهؤلاء' لأنه يتفرّد بعناصر وتكوينات وتشكيلات وجماليات خاصةٍ به... وأنه 'يشبهه كلُّ أحد' لأنه استطاع أن يتلقي ويستوعب ويتفاعل مع ويتداول ويستخدم الكثير من العناصر والتكوينات والتشكيلات والجماليات التي استخدمها أو ابتكرها أو طورها أو تفاعل معها غيره من السابقين واللاحقين بطريقته هو وأسلوبه هو ووفق تجربته هو ومن خلال خلاصة روحه ونفسه وقدراته وموهبته...

طاهر والتجربة ... والحكي من خلالها... والسرد منها وعنها...

لعل كل من شاهد طاهر عبد العظيم وهو يرسم أمام الناس، ويحول الألوان والأصباغ الميتة إلى صور وأشكال ولوحات حية قد شعر – ولو من بعيد وبشكلٍ مبهمٍ وخفيفٍ وشفاف – بشئ من المشاعر والأحاسيس، واختبر بعض الإدراكات والتصورات التي يراها انعكاساً للتجربة والمكابدة والارتحال في الزمان والمكان لحين الوصول مرةً أخري إلى المكان المتعين الذي هو سطح اللوحة بعد أن تغيرت وتحولت من فضاءٍ خالٍ باهت إلى أشكالٍ وألوان، وشخوصٍ وأشياء، بعد تجربة ذهنية فسيحة صريحة، طموحةٍ ورائدة، فاعلةٍ ومتفاعلة عاشها الفنان وتحركت بها أنامله لتصنع ما صدق التجربة ومنتج معايشتها والتفاعل معها عبر ممارسة الرسم والتصوير.

تحملك لوحات طاهر عبد العظيم فوراً نحو هذه التجربة... تجري عيناك علي اللوحة وكأنك ترسمها بنفسك من نقطة إلى نقطة، ومن لونٍ إلى لون، ومن مساحةٍ إلى مساحة، ومن فضاءٍ إلى فضاء... إنها تجعلك تقول: 'لقد كنت معك يا طاهر وأنت ترسم هذه التفصيلة... وأنت تضع هذه الرتوش... وأنت تسكب هذا اللون... وأنت تخرج هذه القطعة الفنية من العدم إلى الوجود، ومن الفراغ إلى التحقق'... بينما يقف طاهر معك ليخبرك بما كان فيه وبه ومنه ومعه في هذه التجربة، وهو يبوح لك بالأسرار كلها...

'هكذا أرى ... وهكذا أسرد وأروى لكم ما رأيت'...

عندها ... تسمع من داخلك حديثاً يسرد ما تراه ... وتجد نفسك تنطق بمواجيد وأدعية وأهازيج، وتنطلق منك تمتمات وأوراد وألحان جاءت عفو الخاطر، وكانت مولودةً بلحظتها المقدورة والمكتوبة في لوح محفوظ منذ الأزل، لكن مفتاح تحققها وباعث مجيئها هو لوحة طاهر عبد العظيم...

إنها دفوف وإيقاعات تشغل السمع حين ترى العين ما تراه، وأهازيج وذكر ينطقها اللسان، حين يتلو ما يجده أمامه ويصير معه، وحين يُخبر بما رآه من جلالٍ وجمالٍ في معية طاهر عبد العظيم...

هكذا تكلم، لا هكذا رسمَ ولوّن ... ولا هكذا صاغ وشكّل، لا هكذا خطّ وخطّط، أو صوّر ولوّن ... هكذا جاءت ’السيرة الذهبية‘ في صورة بناءٍ حي؛ يسرد وينطق، يحكي ويقول، يعلّم الناس ويرشدهم إلى سواء السبيل...

عندها عرفنا...

كيف يأتي التكوين

كيف يتحرك الفضاء

كيف يحتوينا ويستوعبنا ذاك الاتساع

كيف نتطهر بك يا طاهر،

ونذكر معك الحي القيوم ... العليّ العظيم

ها أنت...

من باب آل البيت أتيت...

وفي ظلال السيرة مشيت...

وفي محراب الصدق وقفت...

وفي أرض البيان تكلمت...

وعلى حال الوجد نطقت...

وعلى صدق الحق شهدت...

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً