التجربة الحزبية في مصر تجربة ثرية وطويلة، وهي أكثر ثراءً وأعمق من تجربة بعض الدول الأوروبية. اعتمدت التجربة الحزبية المصرية في كل مراحلها على الصحف ليس فقط كلسان حال لها، بل ووسيلة أساسية لكسب الأنصار. وهذا ما يكسب الصحافة الحزبية المصرية طابعًا سياسيًا بامتياز. وكان هذا الطابع السياسي للصحف المصرية هو الذي يطغى باستمرار على الطابع المهني للصحافة المصرية بشكل عام، وليس للصحافة الحزبية فقط، وذلك على اعتبار أن الصحف غير الحزبية كانت تستعين بالصحفيين الذين تشربوا بأفكار الأحزاب ونشأوا في صالات تحرير هذه الصحف.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
بل إن المفارقة التي تكاد تميز الصحافة الحزبية في مصر هي أنها سبقت الحياة الحزبية نفسها. فقد صدرت جريدة 'اللواء' في سنة 1900م، وبعد صدورها بسنوات تأسس الحزب الوطني سنة 1906م بزعامة مصطفى كامل. مع الأخذ في الاعتبار، بطبيعة الحال، تجارب حزبية غير مكتملة خلال فترة الثورة العرابية، تمثلت فيما اصطلح على تسميته بالحزب الوطني القديم. وحتى الحزب الوطني الذي تزعمه مصطفى كامل، وإن تأسس كجمعية سرية سنة 1893م، إلا أنه لم يتحول إلى حزب سياسي بالمعنى الصحيح إلا بعد تشكيل لجنة إدارية للحزب تكونت من 30 عضواً، بعد أن هدأت الأوضاع المرتبكة في مصر عقب الاحتلال البريطاني للبلاد. وصدرت صحيفة 'اللواء' باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية لتكون لسان حال الحزب، إلا أن ذلك لم يمنع من صدور صحف أخرى تعبر عن الحزب الوطني ويمكن وصفها بالصحف الحزبية، ومنها صحف 'الدستور' و'القطر المصري' و'وادي النيل' و'ضياء الشرق' وصحيفة حملت اسم 'مصر الفتاة' ولكنها كانت تعبر عن الحزب الوطني وليس لها صلة بحزب 'مصر الفتاة' الذي تأسس بعد ذلك بعقود، بالإضافة إلى صحيفة 'البلاغ المصري'
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وقد تكون مصر هي الدولة الوحيدة التي بدأت فيها الحياة الحزبية تأسيسًا على الإصدارات الصحفية، ولم يقتصر ذلك، كما رأينا، على الحزب الوطني فقط، بل إن حزب الأمة الذي تأسس في سبتمبر سنة 1907م بدأ كشركة لإصدار صحيفة هي صحيفة 'الجريدة'، ثم ما لبثت الشركة التي أصدرت الجريدة برئاسة تحرير أحمد لطفي الصفتي أن قررت تحويل نفسها إلى حزب سياسي هو حزب الأمة. وهي نفس التجربة التي تكررت مع جريدة 'المؤيد' التي صدرت برئاسة تحرير الشيخ علي يوسف، ثم ما لبث الشيخ علي يوسف أن أنشأ حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، وكان من الطبيعي أن تكون صحيفة 'المؤيد' لسان حال الحزب الجديد.مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وحتى حزب الأحرار الذي تأسس في البداية باسم الحزب الوطني الحر، فلم تظهر فكرة تأسيسه إلا بعد ضجة حدثت أثر نشر جريدة 'البروجريه' مقالًا هاجمت فيه مصطفى كامل وحزبه الوطني. فاتفق محمد بك نشأت مع محمد بك وحيد على تأسيس حزب الأحرار الذي تدعو مبادئه للاستفادة من الاحتلال الإنجليزي في مصر بدلًا من الدعوة إلى رحيل الإنجليزمُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وبعد انتصار ثورة 1919م وإعلان مصر مملكة دستورية، فقد فتح انتصار الثورة الباب لموجة من الإصدارات الصحفية الحزبية، وصدر لحزب الوفد صحف ناطقة باسمه هي صحف: الأخبار، ووادي النيل، والنظام، والأهالي، والمنبر، والبلاغ، وكوكب الشرق، والجهاد، والوفد المصري، والمصري، وروز اليوسف، ومجلة 'آخر ساعة'، بالإضافة إلى صحف ناطقة باللغات الأجنبية، خاصة باللغة الفرنسية وكانت هذه الصحف مؤيدة للوفد مثل صحف 'الليبرتي'، و'لمون كاسترو'، و'الريفو إجيبسيان'، و'لوبوار'. وعبرت صحف مثل 'الشعب' و'الشعب المصري' عن خصومة سعد زغلول، وبعد الانشقاق الكبير بين سعد زغلول وعدلي يكن تأسس حزب الأحرار الدستوريون وصدرت باسمه جريدة 'السياسة'. وبعد انشقاق محمود فهمي النقراشي عن زعامة مصطفى النحاس خليفة سعد زغلول في رئاسة حزب الوفد، أسس النقراشي حزب الأحرار الدستوريين وكانت صحيفة 'الأساس' هي الناطقة باسمه.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وبعد الخلاف بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد أسس الأخير 'الكتلة الوفدية' التي أصدرت صحيفة الكتلة ، وكان من الطبيعي أن تصدر صحفا تعبر عن كل تيار سياسي أو حركة سياسية تظهر في مصر خلال الفترة التي سبقت سقوط الملكية في سنة 1952 م، وخلال الفترة من 1952 وحتى 1976توقفت الحياة الحزبية في مصر واختفت بطبيعة الحال الصحف الحزبية ، وتاريخ الصحافة الحزبية في مصر وهو مجال كبير للبحث التاريخي ليس محله هذا الكتاب ولكن كان هذا الموجز التاريخي مهما لفهم العلاقة التاريخية بين الصحافة والعمل الحزبي في مصر.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وبعد عودة الحياة الحزبية إلى مصر في سنة 1976م، كان من الطبيعي أن يكون للأحزاب العائدة صحف تعبر عنها. وبعد تجربة قصيرة للمنابر، كانت بداية الأحزاب المصرية العائدة في عهد السادات حزب الأحرار الاشتراكيين وحزب التجمع الوطني التقدمي الاشتراكي ثم حزب مصر الاشتراكي الذي أعلن اندماجه في الحزب الوطني الديمقراطي بعد أن أعلن الرئيس الراحل السادات تزعمه للحزب الجديد الذي أوْعز السادات بتشكيله بعد أن رفض فؤاد باشا سراج الدين أن يحقق للسادات حلمه القديم بأن يكون خليفة لسعد زغلول ومصطفى النحاس ويكون السادات هو رئيس حزب الوفد الجديد العائد للحياة السياسية في سنة 1978م. وكان رفض فؤاد باشا سراج الدين لطلب السادات مبررًا تاريخيًا لأن السادات نفسه هو الذي قتل وزير مالية الوفد أمين عثمان باشا ولم ينكر السادات ذلك بل اعترف به في كتابه الشهير 'البحث عن الذات'. لكن مع ذلك، فإذا صحت هذه الرواية عن رفض فؤاد باشا سراج الدين تولي الرئيس الراحل السادات لرئاسة حزب الوفد، فهي فرصة من فرص مصر الضائعة، لأن الوفد تحت رئاسة السادات وهو رئيس الجمهورية كان يمكن أن يجعل الظروف التاريخية للتطور الديمقراطي في مصر أفضل من المسار الكارثي الذي قاد السادات نفسه لحادث المنصة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وفي الحالة الحزبية الراهنة، لا شك أن الحياة الحزبية السياسية في مصر تحتاج إلى حجر يرمى في المياه الحزبية الراكدة حتى يفيق القائمون على هذه الأحزاب من حالة سبات غريبة ومدهشة. بينما تعاني الحياة الحزبية المصرية من حالة زيف واضحة، حيث تظهر أدلة متطابقة على ظهور مرض سياسي خطير يضرب الحياة الحزبية في مصر، وهو مرض معروف في الأدبيات السياسية باسم 'الأحزاب الزائفة'. ومصطلح 'الأحزاب الزائفة' ليس مصطلحًا وصفيًا يستخدم بغرض الانتقاد، بل هو مصطلح علمي يعرفه الباحثون في علم السياسة. وهذا المصطلح يشير إلى أحزاب سياسية يرى البعض أنها تفتقر إلى التماسك الأيديولوجي والبرامج الواقعية، وتهدف بشكل أساسي إلى دعم النظام الحاكم أو تحقيق مصالح خاصة لأعضائها.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن الفرص الضائعة والديمقراطية المستحيلة
وتتنوع مبررات وصف بعض الأحزاب بـ'المزيفة'، لكن أبرز هذه المبررات هي غياب التماسك الأيديولوجي، حيث تفتقر بعض الأحزاب إلى رؤية واضحة أو أيديولوجية محددة، وتتغير مواقفها بشكل متكرر حسب الظروف السياسية. وفي الوقت نفسه، ضعف التمثيل الشعبي للأحزاب التي ينظر إلى معظمها على أنها مجرد واجهات للتعبير عن مصالح مجموعات خاصة. ومن المظاهر التي تعبر عن الأحزاب الزائفة في مصر هو أن مواقف بعض الأحزاب تتغير بشكل مفاجئ ودون مبررات واضحة، مما يثير الشكوك حول مصداقيتها والتزامها بمبادئها المعلنة. وفي الوقت نفسه، تعلن بعض الأحزاب التزامها بأيديولوجية معينة، بينما تمارس سياسات تناقض هذه الأيديولوجية بشكل صريح. بالإضافة إلى غياب الرؤية المستقبلية، حيث تفتقر بعض الأحزاب إلى رؤية واضحة لمستقبل مصر، وتكتفي بردود الفعل على الأحداث دون تقديم حلول استراتيجية طويلة المدى.