ما أن هدأت نيران الحرب الساخنة في غزة، حتى اشتعلت حرب من نوع جديد، حرب خفية سوداء لا يعرف أحد على وجه التحديد من يقف خلفها، لكنها حرب تحمل في طياتها رسائل وأهدافًا واضحة لا تخطئها العين. فبين ملايين الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، تنتشر حسابات وهمية ومشبوهة تقوم بترويج مقاطع فيديو أو صور أو حتى أخبار كاذبة لا أساس لها من الصحة، وذلك بهدف وحيد هو دفع المستخدمين الذين يصدقون هذه الأخبار إلى نفيها أو التعليق عليها، وبالتالي ترسيخ معلومات مشوهة ومضللة في الأذهان. هذه المعلومات، وإن بدت للبعض غير ذات أهمية، قد تجد لنفسها في نهاية المطاف تأثيرًا وتراكمًا لدى المتلقي، خاصة مع استمرار التعرض لها وتكرارها، وهو ما يعرف بـ 'تأثير التكرار' في علم النفس.
هذه الحرب تعتمد على استراتيجيات دعائية بدائية، ولكنها فعالة، وهذه الحرب السوداء يعرفها جيدًا كل من يعمل في مجال الدعاية والإعلام، وتعتمد على نشر الأكاذيب، و يتم نشر معلومات كاذبة أو مشوهة، بهدف تضليل الجمهور وخلق حالة من الفوضى والارتباك. وفي نفس الوقت استغلال المشاعر والعواطف الجياشة لدى الجمهور، مثل الغضب أو الخوف، من أجل التأثير عليهم وتوجيههم نحو هدف معين. مع تكرار المعلومات الكاذبة أو المشوهة بشكل مستمر، حتى يتم ترسيخها في أذهان الجمهور. واستهداف فئات معينة من الجمهور، مثل الشباب أو النساء، من أجل التأثير عليهم بشكل أكبر.
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
لن نقع في فخ الترويج لمثل هذه الحسابات المشبوهة، ويكفي لتوضيح حقيقتها تتبع بعض النماذج لما تروجه من محتوى. للوهلة الأولى، قد تخدعنا هذه الحسابات بمظهرها العربي، فمعظمها يحمل أسماء عربية، وبعضها يرتدي أصحابُه العقال، وبعضهن يرتدين الحجاب والنقاب في بعض الأحيان. لكن المضمون يكشف زيف هذا المظهر. تمارس هذه الحسابات، في الحد الأدنى، ما يمكن وصفه بأنه ممارسات مخلة بالشرف والأخلاق، من نشر للشائعات والأكاذيب، إلى ترويج لمقاطع فيديو وصور مسيئة. وفي الحد الأقصى، تنتحل بعض هذه الحسابات صفة 'المحلل السياسي' لتمرر معلومة وحيدة، هي معلومة زائفة ومضللة، مفادها أن المقاومة الفلسطينية في غزة قد هزمت، وأن ما قامت به كان مجرد 'قفزة في الهواء'، وأنه لا سبيل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. تزيد هذه الحسابات دناءةً وانحطاطًا لتخلص إلى نتيجة وحيدة، هي أنه لا مجال ولا يمكن أبدًا مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وأن أفضل ما يمكن أن يقوم به الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية هو العيش في هدوء واستسلام تحت نير الاحتلال. تسعى هذه الحسابات إلى تزييف الحقائق وتشويه الوعي لدى الشباب الفلسطيني والعربي، وإيهامهم بأن المقاومة لا طائل منها، وأن الاستسلام هو الحل الوحيد.
أهداف خبيثة وغايات مشبوهة
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
ولعل هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي نشهد فيها مقاومة ضارية تقدم أرواح قادتها في حرب غير متكافئة، ولكنها مشروعة وعادلة. ولا يوجد شك في أن كل من شارك في الحرب ضد إسرائيل من الفصائل الفلسطينية كان يعلم أن الموت احتمال قائم، لكن لم تكن كلمة 'الموت' هي الرائجة على ألسنة الأبطال الذين ضحوا بحياتهم من أجل قضية عادلة. فجميعهم كان بمقدورهم أن يعيشوا في رفاهية، يملكون بدلًا من المنزل منازل، وبدلًا من السيارة سيارات. ولكن هؤلاء قوم ينطبق عليهم قول الله تعالى : مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {الأحزاب:23}.
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
إنّ المتورطين في 'الحرب السوداء' يستغلون جهلَ أو عدمَ درايةِ معظمِ مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بدروس التاريخ في الحروب، ولا بمعايير النصر والهزيمة. فدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية فقدت أكثر من 61 مليون قتيل، وخسرت دولُ المحور أقل من 12 مليون قتيل فقط، ودُمِّرَتْ مدنُ فرنسا وبريطانيا بشكل مأساويٍّ، حتى إنّ رئيسَ الوزراء البريطاني الأسطوري ونستون تشرشل طرحَ نفسَ فكرةِ التهجير التي يطرحها الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب على شعب غزة، وطالب تشرشل بوضع خطط إجلاء لكل الشعب البريطاني إلى كندا، بعد أن جعلتِ الغاراتُ الألمانيةُ الحياةَ في المدن البريطانية مستحيلة. وخلال الحرب العالمية الثانية، تحطمتِ البنيةُ الإنتاجيةُ لدول الحلفاء من طرق مواصلات وأراضٍ زراعية، وتبخرت 70 بالمئة من القيمة الكلية لاقتصاد دول الحلفاء، وهي خسائر لم تتحملْ ربعَها، ولا حتى أقل من ربعها، ألمانيا وإيطاليا. فهل معنى ذلك أن دولَ ألمانيا النازية هزمت دولَ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
في الجزائر، قدم الشعب الجزائري مليون شهيد وأكثر في حرب غير متكافئة مع فرنسا. كان الاحتلال الفرنسي يفرض حصارًا صارمًا على وصول أي شكل من أشكال الأسلحة النارية للمقاومة الجزائرية، وكان قادة المقاومة الجزائرية يُرسلون شبابًا بالسكاكين، وهو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يصنعوه بأيديهم، ليُهاجموا ثكنات عسكرية وهم يعلمون أن هؤلاء الشباب لن يعودوا، ويعلم الشاب الذي يتسلح بسكين أنه سيُقتل حتمًا في نهاية المطاف، ولكن أمله أن ينجح في قتل جندي فرنسي قبل أن يستشهد. وعندما مَثُلَ أحد قادة المقاومة الجزائرية في تحقيق أمام قائد عسكري فرنسي بعد أن وقع في الأسر، سأله الجنرال الفرنسي: لماذا أنت تُرسل شبابًا بسكاكين وأنت تعلم أنهم سيموتون؟ فكانت الإجابة من قائد المقاومة: إني أجعل نيران المقاومة مستمرة بوقود الثأر للشهداء!
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
وعلى مرمى حجر من غزة، هناك في السويس وبورسعيد ومدن القناة، دكت قوات العدوان الثلاثي منازل هذه المدن، ومات عشرات الآلاف من المصريين وهم يدافعون بشرف عن بيوتهم ضد الجيوش الثلاثة لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وشنّ الطيران البريطاني من قواعده في قبرص غارات وحشية على القاهرة ومنطقة القناة والإسكندرية. وبمقاييس القوة، لم تكن هناك أي مقارنة بين جيوش بريطانيا وفرنسا، وحتى إسرائيل، وبين قوات المقاومة الشعبية التي تصدت ببندقية لترد العدوان. ودفع المصريون من أرواحهم ومن سلامة مدنهم مثلما دفع أبناء غزة في مقاومتهم العادلة ضد إسرائيل. وانتهت الحرب بنهاية بريطانيا العظمى نفسها كواحدة من القوى العظمى في العالم. فهل انتصرت بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر؟ وهل خرجت مصر مهزومة من هذا العدوان؟
الحرب السوداء .. تشويه المقاومة الفلسطينية وعندما تصبح الخيانة وجهة نظر
لقد دفعت غزة ثمنًا باهظًا للحرية، وهو ثمن يدفعه كل الأحرار. وما فعلته الحرب الأخيرة في غزة هو أنها أحيت فكرة المقاومة بعد أن ظنّ كثيرون أن الاستسلام لإسرائيل هو قدر محتوم لا فكاك منه. وطال الزمن أو قصر، سوف تنتصر غزة، لأن التاريخ لم يعرف أبدًا مقاومة انتهت دون أن تنتصر. حدث هذا في كل حركات المقاومة وفي كل عصر، وفي كل زمان ومكان تنتصر أي مقاومة ما دامت قضيتها عادلة. دلوني على أي مقاومة لم تنتصر في أي مكان وزمان؟ حتى دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بدأت في شكل دعوة مستضعفة تقاوم جبروت المشركين، ومن قبله دعوة نبي الله عيسى الذي واجه طغيان الرومان، ودعوة نبي الله موسى وهو يواجه فرعون. فهل سمعنا عن مقاومة انتهت بلا انتصار؟ الانتصار هو اليقين الذي يؤمن به المقاومون، يؤمنون بالانتصار في نهاية المطاف حتى وإن استشهدوا قبل أن يروا هذا الانتصار ويعايشوه. فهؤلاء يختلفون عن آخرين يزعجهم أي مقاوم، فالمنزعجون من المقاومة والذين يشككون فيها هم من فريق يختلف فيما بينه، لكن يتفق على شيء واحد فقط، هو أن الخيانة وجهة نظر!