مع اقتراب شهر رمضان الكريم يطيب لكل من يرزقه الله بهذا ببلوغ هذا الشهر الكريم أن يستدعي سيرة كل من قدم لهذا الدين العظيم ما يعزز وجوده ليس بيننا فقط، بل على مستوى تاريخ الفكر الإنساني، و يعتبر الفيلوسوف السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، واحد من أبرز المفكرين الذين أسهموا في تقديم تفسير فلسفي لفكرة الوجود من خلال منهج إسلامي يعتمد على القرآن الكريم ، وهو الفيلسوف الذي حمل على عاتقه مهمة إعادة صياغة الفكر الإسلامي في قالب عصري، متجاوزاً بذلك كل ما سبقه من محاولات. في ربوع السودان، ولد بجزيرة مقرات في عام 1942م، وفي عمر مبكر وهو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية ذاق مرارة السجن، وهى المرارة التي لم تستمر في حلقه كثيرا، بل تحولت لدافع له في الحياة، ثم حملته رياح التغيير إلى إريتريا، حيث اكتسب الجنسية والصفة الدبلوماسية. وفي الولايات المتحدة، عمل مستشاراً علمياً، ما أتاح له فرصة فريدة للاطلاع على مختلف التيارات الفكرية العالمية.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
و يمثل الفيلسوف محمد أبو القاسم حاج حمد علامة فارقة في المشهد الفكري الإسلامي المعاصر، إذ قدم رؤية فلسفية مبتكرة تسعى إلى تجاوز الأزمات الحضارية التي يعيشها العالم. لقد طرح حاج حمد، في كتاباته العديدة، وخاصة في عمله الضخم 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة'، مشروعًا معرفيًا طموحًا يهدف إلى بناء تصور شامل ومتكامل للوجود الإنساني، مستندًا إلى النص القرآني كمرجع أساسي. كان حاج حمد يرى أن الإسلام ليس مجرد مجموعة من الشرائع والأحكام، بل هو منظومة فكرية شاملة تشمل كل جوانب الحياة. ومن هنا انطلق في مشروعه الفكري، الذي سعى من خلاله إلى بناء إطار نظري متكامل لـ 'أسلمة المعرفة'، أي دمج المعرفة العلمية الحديثة مع الفكر الإسلامي. لم يكتفِ حاج حمد بهذا، بل حاول أيضاً أن يقدم رؤية إسلامية شاملة لعلاقة الإنسان بالكون والوجود، رؤية تتجاوز الصراعات العقائدية والطائفية، وتدعو إلى الوحدة والتسامح.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
رحل عن عالمنا في عام 2004م، تاركاً خلفه إرثاً فكرياً غنياً، سيظل يلهم الأجيال القادمة. فكان، ولا يزال، أحد أهم المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين. ولكن على الرغم من أن القدر اقتصر على عمرٍ نسبيًا قصير للمفكر الراحل، إلا أن بصماته الفكرية ظلت راسخة في ذاكرة المكتبة العربية والإسلامية، بل تعدت آفاقها لتصل إلى العالمية. فقد قدم إسهامات جليلة في حقل الفكر المعاصر، حيث تناول قضايا جوهرية تهم الإنسان في صميم وجوده. إن أفكاره التي تناولت حقيقة الوجود الإنساني وعلاقة الإنسان بالكون، والتي تعد من أعمق الأسئلة التي شغلت الفلاسفة والمفكرين عبر العصور، قد شكلت إضافة نوعية إلى الحوار الفكري المعاصر. فقد سعى الراحل إلى تقديم رؤى جديدة ومبتكرة لهذه القضايا، مستنداً إلى تراثنا الإسلامي الأصيل، وفي الوقت نفسه متجاوزاً بعض القيود التي فرضتها التفسيرات التقليدية. لقد كان هذا المفكر يدرك تمامًا أهمية الفكر في تشكيل حاضر ومستقبل الأمم، ولذا فقد حرص على أن يكون فكره منارة تضيء الدروب، وتوجه الأنظار نحو آفاق أرحب وأوسع. وبتلك الإسهامات القيمة، يكون قد ترك لنا إرثًا فكريًا ثريًا، يستحق الدراسة والتحليل والتعمق
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
ومن أبرز مؤلفاته في هذا المجال كتابه الأكثر شهرة: 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة'، ثم كتابه 'أبستمولوجيا المعرفة الكونية: إسلامية المعرفة والمنهج'، بالإضافة إلى كتابه حول 'منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية'، الذي صدر قبل وقت قصير من وفاته. ويمكن اعتبار هذا الكتاب الأخير بمثابة عصارة أفكاره . قدم الفيلسوف محمد قاسم في مؤلفه الرصين 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة' نموذجًا تفسيريًا للوجود الإنساني، سعى من خلاله إلى فك شفرات اللغز الكوني الذي يحيط بالإنسان. وقد توصل في تحليله إلى أن الوجود الإنساني، في سعيه الدؤوب لفهم ذاته والعالم من حوله، غالبًا ما يجد نفسه أسيرًا لتفسيرات جزئية ومحدودة.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
إن هذه التفسيرات الجزئية، والتي غالبًا ما تكون نتاجًا لتأثيرات ثقافية أو دينية أو اجتماعية، تحصر الوجود الإنساني في إطار ضيق، وتقيد حركته نحو الحقيقة المطلقة. فالإنسان، في هذا السياق، يصبح أسيرًا لأصناف من الإسقاطات والأحكام المسبقة التي تحول دون بلوغه إلى رؤية فلسفية شاملة وقادرة على استيعاب تعقيدات الوجود. يرى قاسم أن قضية الوجود هي القضية المحورية التي تشغل الفلسفة منذ بداياتها، وهي القضية التي يجب على الفيلسوف أن يعود إليها باستمرار، محاولًا تجاوز القيود التي فرضتها التفسيرات السابقة. ويشير إلى أن الفلسفة الحقيقية هي تلك التي تستطيع أن تقدم رؤية متكاملة للوجود، ترى فيه وحدة متناقضة، وتجمع بين المادي والروحي، والجزئي والكلّي. وعند منعطف من تاريخ البشرية شهد تاريخ الفكر البشري انشقاقًا حادًا بين مدرستين عظيمتين: المدرسة اللاهوتية والمدرسة الوضعية. وقد انحدر كل منهما في منحى دوغمائي ضيق، سعى لتفسير الوجود الإنساني وفق رؤيته الخاصة.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
في مواجهة هذا الانشقاق الحاد، قدم القرآن الكريم رؤية متوازنة وشاملة للوجود الإنساني. فبدلاً من الانحياز إلى أحد الطرفين، طرح القرآن رؤية وسطًا، تجمع بين البعدين المادي والروحي، وتؤكد على أهمية التفاعل بين الإنسان والكون.
لقد قدم القرآن إطارًا فلسفيًا جديدًا لفهم الوجود الإنساني، أطلق عليه الفيلسوف محمد قاسم 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة'. هذه الجدلية تعني أن الإنسان ليس كائناً معزولاً، بل هو جزء لا يتجزأ من الكون، وأن وجوده يتأثر بواقعين متكاملين: الواقع المادي والواقع الغيبي. كما أن الإنسان ليس مجرد عبد مطيع، بل هو كائن فاعل، قادر على التأثير في العالم من حوله وتغييره.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
إن هذه الرؤية القرآنية ترفض كل أشكال الاستلاب التي تحاول أن تقلل من شأن الإنسان أو أن تحرمه من حريته. فهي تدعو إلى التوازن والاعتدال، وإلى فهم عميق لعلاقة الإنسان بالله وبخلق الله. لقد قدم الفيلسوف محمد أبو القاسم حاج حمد قراءة فلسفية عميقة للقرآن الكريم، مستخلصًا منه رؤية كونية شاملة للوجود الإنساني. يرى حاج حمد أن القرآن، بوصفه نصًا سماويًا، يتجاوز الحصر في الزمان والمكان، ويتناول القضايا الوجودية الكبرى التي تشغل الإنسان منذ الأزل.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
ومن أبرز الأفكار التي أبرزها حاج حمد في قراءته للقرآن، هي فكرة 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة'. هذه الجدلية تعبر عن التفاعل المتبادل بين الإنسان والعالم من حوله، وبين الإنسان والغيب. فالإنسان ليس كائناً معزولاً، بل هو جزء لا يتجزأ من الكون، يتأثر بتفاعلاته المختلفة ويتأثر بها. إن هذه الرؤية الفلسفية تمثل نقلة نوعية في التفكير الإسلامي، حيث أنها تتجاوز القراءات التقليدية التي تركز على الجوانب الأخلاقية والتشريعية للقرآن، لتصل إلى عمق الفكر الفلسفي. فحاج حمد يرى أن القرآن ليس مجرد كتاب مقدس، بل هو أيضًا مصدر للإلهام الفكري، وقاعدة لبناء رؤية فلسفية متكاملة.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
لقد تجسدت هذه الرؤية الفلسفية بشكل واضح في مشروع حاج حمد الضخم 'جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، العالمية الإسلامية الثانية'. في هذا المشروع، قدم حاج حمد نقدًا إبستمولوجيًا عميقًا للرؤى الفلسفية السابقة، سواء كانت غربية أو شرقية. يرى حاج حمد أن هذه الرؤى قد فشلت في تقديم رؤية شاملة للوجود الإنساني، وذلك لأنها إما انحدرت في المادية المفرطة، أو انحصرت في الغيبية المطلقة. أما الرؤية القرآنية، فهي تجمع بين هذين البعدين، وتقدّم رؤية متوازنة وشاملة للوجود.
شعاع علم ونور من السودان الحبيب .. هكذا تحدث محمد أبو القاسم حاج !
وفي هذا الطرح يرى حاج حمد أن العالم المعاصر يعاني من أزمة عميقة ناجمة عن الانقسام الحاد بين الرؤى المادية واللاهوتية. فمن جهة، نجد المادية الوضعية التي تركز على البعد المادي الملموس، وتقلل من شأن القيم الروحية والمعنوية. ومن جهة أخرى، نجد اللاهوتية التقليدية التي تحصر الإنسان في إطار ضيق، وتفرض عليه قيودًا تعوق تطوره. وللتغلب على هذا المأزق، يقترح حاج حمد بناء براديغم معرفي جديد يستند إلى الرؤية الكونية الشاملة للقرآن الكريم. هذه الرؤية تتجاوز الانقسامات التقليدية، وتجمع بين الأبعاد المادية والروحية، وتؤكد على أهمية التفاعل بين الإنسان والكون. يرى حاج حمد أن المعرفة الحقيقية ليست مجرد اعتقاد، بل هي اعتقاد مبرر. أي أنها تتطلب وجود أدلة قوية تدعمها. ويشمل ذلك البحث عن الحقيقة، وتحديد المعايير التي يمكن من خلالها تقييم صحة المعرفة. كما يرتبط مفهوم التبرير ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الحقيقة، فكلما زادت قوة الأدلة التي تدعم اعتقادًا ما، زادت قربه من الحقيقة. وفي هذا السياق تناول حاج حمد بعمق مسألة مصادر المعرفة، مستعرضًا مختلف المصادر التي يمكن للإنسان أن يستمد منها معرفته، مثل الإدراك الحسي، والعقل، والذاكرة، والشهادة. وقد أشار إلى أن كل مصدر من هذه المصادر له مميزاته وقيوده، وأن المعرفة الشاملة تتطلب الجمع بين هذه المصادر المختلفة، حيث لم يغفل حاج حمد عن تناول الشك الفلسفي، ذلك الشك الذي يشكك في إمكانية المعرفة اليقينية. وقد طرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الشك، ومدى تأثيره على حياتنا اليومية. كما بحث في إمكانية دحض الشك، ووضع أسسًا منطقية يمكن من خلالها بناء معرفة قوية ومستقرة .