في قلب شارع فيصل الشهير بمصر، شاهدتُ مشهدًا مؤثرًا. امرأة سودانية، في عقدها الخامس على الأقل، تجلس على رصيف مقابل لمستشفى يرتاده الكثير من السودانيين. أمامها 'رصة' بسيطة: أكواب زجاجية، أباريق، ومشعل صغير. لم يسترع انتباهي بساطة المشهد، بل ما أضفى عليه رونقًا خاصًا، هيئتها الواثقة، وجلستها التي تشي بالرضا، وابتسامتها التي لم تفارق محياها. لم يكن هذا المشهد غريبًا عليّ، فقد اعتدت رؤية 'ستات الشاي' في السودان، وهن يفترشن الأرصفة والطرقات، ليقدمن الشاي والقهوة للمارة. لكن هذه المرأة، كانت تحمل في نظراتها قصة مختلفة.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
كان جيرانها من أصحاب المحلات يتعاملون معها بود واحترام، وكأنهم يقدمون لها نوعًا من الحماية. لم يساورني الشك في أنهم يرحبون بوجودها، ولا يمانعون في تقديم أي تسهيلات لها. حتى حملات البلدية التي تجوب شارع فيصل لم تكن لتزعجها، فقد كانت تحظى بدعم وحماية جيرانها.
لم يقتصر زبائنها على المارة وعابري السبيل، بل كان أصحاب المحلات والعاملون فيها يقصدونها لتناول الشاي. لم يكن الأمر مجرد تعاطف أو تضامن، بل كانوا يقدرون مذاق الشاي الذي تعده 'ست الشاي' بمهارة وإتقان.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
'ست الشاي' هو مصطلح شعبي سوداني يطلق على المرأة التي تبيع الشاي في الشوارع والأزقة. إنهن جزء لا يتجزأ من المشهد السوداني، ورمز للكفاح والعطاء.
هذه المرأة، في شارع فيصل، كانت تحمل بصمة 'ست الشاي' السودانية. كانت تجمع بين بساطة الحال، وعزة النفس، ورضا بما قسم لها. كانت تبعث الأمل في نفوس من حولها، وتذكرهم بقوة الإرادة، وقدرة الإنسان على التكيف مع الظروف. في ذلك اليوم، لم أرتشف كوبًا من الشاي، لكنني ارتويت بقصص الكفاح التي رأيتها في عيني تلك المرأة.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
أعادني مشهد 'ست الشاي' ورفاقها السودانيين الذين يتجمعون حولها إلى الوراء نحو 15 عامًا، عندما صادفتُ 'ست الشاي' في أول رحلة لي إلى الخرطوم. وصلتُ الخرطوم فجر ذلك اليوم، وكان سائق سوداني شاب ينتظرني ليقلني إلى فندق في وسط المدينة. كانت تباشير الفجر لا تزال في الأفق، والوقت مثالي لتناول كوب شاي من 'ست الشاي'، كي أستعيد توازني بعد رحلة جوية بدأت بعد منتصف الليل.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
بعد أن حطت الطائرة في مطار الخرطوم، وهو أسهل مطار يمكن أن يعبر من خلاله أي زائر، شعرتُ بحاجة إلى رشفات ساخنة من أي مشروب، لأعيد ترتيب أولوياتي في الزيارة الخاطفة التي كان من المفترض أن أقوم بها للخرطوم. كانت زيارة لم يكن مخططًا لها أن تستمر طويلًا، لكنها أوقعتني في عشق الخرطوم، المدينة الوادعة البسيطة، الفقيرة في معمارها، ولكنها غنية ببشاشة أهلها وتراحمهم، سواء فيما بينهم أو مع الغرباء. أتذكر جيدًا تلك 'الست' وهي تعد الشاي بمهارة وإتقان، وتلك الأكواب التي كانت تقدمها بحب وكرم. كان الشاي الذي تعده 'ست الشاي' له نكهة خاصة، لا يمكن أن تجدها في أي مكان آخر. كان طعمًا يمزج بين الدفء والحنين، ويجعلك تشعر بأنك في بيتك.
لم تكن 'ست الشاي' مجرد بائعة شاي، بل كانت جزءًا من نسيج المدينة، وملتقى للناس من جميع الخلفيات. كان الجميع يتجمعون حولها، يتناولون الشاي، ويتبادلون الأحاديث والضحكات. كانت 'ست الشاي' رمزًا للكرم والجود، وقصة كفاح ونجاح. في ذلك الصباح، في الخرطوم، تعلمت درسًا قيمًا عن الحياة. تعلمت أن السعادة لا تكمن في المظاهر، بل في القلوب الطيبة والأرواح النقية. تعلمت أن الكرم والجود هما صفتان أصيلتان في الشعب السوداني. تعلمت أن 'ست الشاي' هي أكثر من مجرد بائعة شاي، إنها رمز للأمل والعطاء.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
تعد 'ست الشاي' ظاهرة فريدة من نوعها في السودان، وإن كانت موجودة في بعض الدول العربية الأخرى. ورغم أنني رأيت نساءً يبعن الشاي بنفس الطريقة تقريبًا في شوارع مدن عربية أخرى، فإن 'ست الشاي' في السودان تعبر عن ثقافة ونسق اجتماعي فريد يتميز به السودان. في الماضي، كانت مهنة ست الشاي حكرًا على النساء المسنات الفقيرات، مثل الأرامل والمطلقات. وللأسف، فقد عانت 'ست الشاي' من نظرة دونية في المجتمع السوداني. ولكن تصدى عدد من المثقفين السودانيين لهذه الظاهرة، مدافعين عنهن بكل قوة واستماتة. وكان من بين هؤلاء المدافعين البارزين الشاعر السوداني الشهير محجوب شريف، والشاعر هاشم صديق، والفنان الكوميدي جمال حسن سعيد، وفرقة الهيلاهوب المسرحية. لم يقتصر دور هؤلاء المثقفين على الدفاع عن ستات الشاي، بل سعوا أيضًا إلى تغيير النظرة المجتمعية إليهن. فقد قاموا بتسليط الضوء على أهمية الدور الذي تقوم به ستات الشاي في المجتمع، من خلال توفير مصدر دخل للنساء المحتاجات، وتوفير فضاء اجتماعي يلتقي فيه الناس من مختلف الخلفيات.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
والحقيقة أن ست الشاي ردت التحية بأحسن منها للمثقفين الذين انخرطوا في الدفاع عنها اجتماعيًا، فعندما ثار الطلاب وباقي فئات الشعب السوداني ضد نظام جعفر النميري، كانت 'ست الشاي' مشاركة بقوة في صناعة هذه الثورة. ومن بين الأسماء التي برزت وعززت مكانة ست الشاي، وأصبحت الأشهر في السودان، نذكر عوضية محمود كوكو التي عرفت باسم 'أم الكنداكات'، التي قامت بدور تاريخي في توفير الاحتياجات المعيشية في فترات الاعتصام خلال انتفاضة 1985 ضد نظام الرئيس جعفر نميري، التي انتهت بسقوطه. بل إن 'أم الكنداكات' نجحت بعد ذلك في تشكيل «الاتحاد التعاوني النسوي لبائعات الأطعمة والمشروبات»، ووصل عدد أعضاء هذا الاتحاد إلى 8000 بائعة. وحصلت هذه المرأة القادمة من كردفان، والتي لا تعرف القراءة والكتابة إلا بالكاد، على جائزة «المرأة الشجاعة» الأميركية، التي سلمها لها، بعد استقبالها في البيت الأبيض، وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
مَن يعرف بعض جوانب الثقافة السودانية، يعلم أن كلمة 'ست' هي كلمة مُوَلَّدة في اللهجة السودانية الدارجة. وغالبًا، فإن الشعب السوداني التقط كلمة 'ست' من اللهجة الدارجة المصرية، من خلال فترات الاحتكاك التاريخي الطويلة بين مصر والسودان، وبشكل خاص بعد أن قرر محمد علي باشا غزو السودان وضمَّه لحُكمه، في محاولته لمواجهة تهديد الحبشة لمصر بتحويل مجرى نهر النيل، ولرغبة محمد علي أيضًا في تجنيد السودانيين في جيشه. وتسبب هذا الاندماج في شيوع بعض الكلمات من اللهجة المصرية في اللغة السودانية الدارجة. فاستخدم السودانيون كلمة (ست) مُجرَّدةً فقط على المعلمة أو المُدَرِّسة. وبعدها تطور استخدام نفس اللفظ بشكل يناسب الثقافة السودانية، فأصبحت عبارة (ست الشاي) تشير للمرأة التي تبيع الشاي، و(ست الخُضار) لتشير إلى المرأة التي تبيع الخضروات، و(ست اللبن) للمرأة التي تبيع اللبن وهكذا. ورغم أن الاسم يشير إلى الشاي، فإن ستات الشاي يقدمْنَ مجموعة متنوعة من المشروبات الساخنة الأخرى، مثل القهوة والحلبة والكركدي والحرجل. وقد يكون مشروب الحرجل غير معروف في مصر، ولكن مشروب الحرجل، لمن لا يعرفه، يعالج القولون العصبي واضطرابات المعدة، ويخفف من فرصة الإصابة بسرطان القولون واضطرابات المعدة. ويؤثر الحرجل على عمل البنكرياس وتنظيم الأنسولين.
محمد مختار يكتب عن ست الشاى .. السودانية التي منحت المصريين الاطمئنان مع أكواب الشاي
والحقيقة أن ما أسعدني هو أن ست الشاي نجحت، بطيبة قلبها وابتسامتها التي لا تفارق وجهها، في أن تبعث برسائل اطمئنان ليس فقط للسودانيين الذين تركوا بلادهم ونزحوا إلى مصر، بل إن ست الشاي أصبحت مصدرًا للاطمئنان للمصريين أنفسهم الذين وجدوا في أكواب الشاي الساخنة والرخيصة التي تقدمها لهم مرفأ للراحة وسط الغلاء، وبعد أن أصبح مجرد الخروج من المنزل للبحث عن عمل ورزق هو مغامرة يومية يصعب ضمان نتائجها في نهاية اليوم. ولعل احتضان أصحاب المحال الذين احتضنوا ست الشاي السودانية في شوارع القاهرة، قدموا بهذا الاحتضان للمجتمع المصري فرصة جديدة ليس لشرب الشاي بمذاقه السوداني المشهور، بل للاقتراب أكثر وأكثر من ثقافة شعب شقيق هو أقرب الشعوب لكل مصري، وهو الشعب السوداني.