في مصر، تبدو النظارات أكبر من مجرد عدسات داخل إطار. هي 'العين الثانية' التي يعتمد عليها ملايين المصريين في عملهم وحياتهم اليومية. ومنذ بدايات القرن العشرين، انتشرت محال النظارات في القاهرة والإسكندرية، لتكون شاهدًا على رحلة طويلة من الحرفة والابتكار، سرعان ما أفرزت ظاهرة خاصة بالروح المصرية: ورش إصلاح النظارات.
هذه الورش الصغيرة، التي ربما لا تزيد مساحتها على بضعة أمتار، صارت ملاذًا سريعًا للمضطرين. ففي قلب القاهرة، وبالتحديد في حي عابدين العريق، تجد المشهد حيًّا متدفقًا. هنا يقصد المحامون الذين فقدوا نظاراتهم فجأة قبل جلسة مهمة، وموظفو المصالح الحكومية والشركات والمكاتب القريبة الذين لا يملكون رفاهية الانتظار أو شراء بديل جديد. وفي دقائق معدودة، تعود النظارة كما لو خرجت للتو من واجهة محل فاخر.
اسامة سبع
المثير أن هذا المشهد يكاد يكون مصريًا خالصًا. في رحلاتي لعدد من الدول العربية، لم أعثر على ورش متخصصة لإصلاح النظارات كما في مصر. القاهرة وحدها تحتضن تلك 'المصانع الصغيرة'، العامرة بشباب بارع، ينطبق عليهم المثل الشعبي 'سبع صنايع'، لكن بخلاف المثل، فإن حظهم ليس ضائعًا، بل عامر بالشرف والمروءة.
ومن بين هؤلاء الشباب، برز أمامي اسم أسامة سبع. شاب لم يبلغ منتصف عقده الثالث بعد، لكنه يملك من الشهامة ما يكفي ليمنح مهنته بعدًا إنسانيًا خاصًا. قابلته في ورشته المتواضعة بأحد شوارع عابدين الجانبية. كان يتعامل مع النظارة باعتبارها مسألة حياة، ينجز إصلاحها بسرعة ودقة، وكأنه يرد لصاحبها بصره.
أسامة يختلف عن كثير من الباعة. لا يساومك على السعر، بل يفاجئك بتخفيضه. وقد اختبرت ذلك بنفسي: أصلح نظارتي التي أراها امتدادًا لعيني، فناولته مبلغًا متواضعًا مقابل عمله السريع. لكن المفاجأة كانت في إصراره على أن آخذ الباقي. وحين حاولت أن أترك له ما دفعته باعتباره مثل ابني، أصر بإلحاح نادر على أن يعيد إليّ ثلث المبلغ على الأقل.
هنا أدركت أن قيمة أسامة سبع، وأمثاله من الشباب المصري، لا تكمن في مهارتهم الحرفية وحدها، بل في التزامهم الأخلاقي وحرصهم على الشرف في المهنة. هو نموذج حي يرد على كل من أدمن ذم الناس أو التشكيك في معدن الشباب.
إنها حكاية صغيرة، لكنها تعكس جوهرًا كبيرًا: شباب مصر هو رهان المستقبل. شباب نبيـل، شهم، واعٍ، يحمل القيم على كتفيه كما يحمل أدواته البسيطة. وحين تبحث عن مصر الحقيقية، ستجدها في ورشة ضيقة بشارع جانبي في عابدين، حيث يجلس 'أسامة سبع' ليعيد إلى الناس أبصارهم، ويعيد إلينا نحن ثقتنا في معدن هذا الجيل.