هناك نوع من المهاجرين لا تراه المطارات، ولا تسجله القنصليات، لأنه يرحل بجسده فقط، بينما يبقى قلبه مشدودًا إلى وطنه بخيط غير مرئي. من هؤلاء أحمد الجوهري، الصحفي المصري المهاجر، الذي يمثل حالة خاصة من الهجرة المهنية لا السياسية، والهجرة العاقلة لا الغاضبة، والهجرة التي تصنع النجاح بدل أن ترمي بكل همومها على كاهل الوطن الوطن.
أحمد الجوهري لم يترك مصر لأنه لا يرغب في العيش بها، بل لأنه أحبها أكثر مما احتمل. أحبها حتى أراد أن يرى فيها وجهًا أكثر عدلًا للمهنة التي يعشقها، الصحافة. وعندما شعر أن سقف الفرصة المهنية يهبط عن طموحه ، لم يختَر الهروب، بل اختار أن يمد جناحيه في فضاء أوسع. وفي رحلته تلك، أثبت أن الطائر المصري إذا خرج من عشه، لا يفقد انتماءه، بل يحمل تراب العش في ريشه أينما طار.
الصحافة، كما كان يصفها أحمد الجوهري نفسه، ليست مهنة للرزق، بل مهنة للموقف. ومن هذا الباب يمكن أن نفهم مسار أحمد الجوهري. فهو لم يغادر بحثًا عن راحة الجسد، بل عن أفق للروح المهنية. في كل سطر يكتبه تشعر أنه يبحث عن معنى العدالة في الكلمة، وعن احترام العقل في المعلومة. إنه من أولئك الذين يؤمنون بأن الصحافة ليست صراخًا في الميكروفونات، ولا تسابقًا في العناوين، بل هي عقلٌ يمسك بالقلم، وقلبٌ يتحدث بضمير.
أحمد الجوهري جمع بين مدرستين في الصحافة: المدرسة المصرية التي ربّته على الدقة والعراقة والاحترام للمهنة، والمدرسة الخليجية التي منحته الانضباط والسرعة واحترام المؤسسة. وهو بهذا المزج، صار مدرسة ثالثة قائمة بذاتها، فيها الصرامة بلا جفاف، والدفء بلا فوضى. ومن هنا نفهم لماذا يصفه كثيرون بأنه “مؤسسة صحفية تمشي على قدمين”.
في زمن صار فيه الصحفي مجرد موظف أمام شاشة، تراجع فيه الحسّ الإنساني لصالح الآلة، يذكّرنا الجوهري بالزمن الذي كانت فيه المهنة رسالة. يؤمن أن الصحفي الحقيقي لا يكتب فقط، بل يفكّر، ويصمّم، ويدير. وأن التحرير والإدارة جناحان لطائر واحد، إذا كُسر أحدهما، سقطت المؤسسة. وهو هنا يعيدنا إلى تلك الفكرة التي دافع عنها أحمد بهاء الدين طويلاً: أن الصحافة الحديثة لا تعيش إلا إذا وُجد توازن بين الفكر والتنظيم، بين الإبداع والانضباط.
ولعل أجمل ما في تجربة الجوهري أنه لم يتعامل مع الصحافة بوصفها مجرد حرفة، بل كعلاقة حب واعية. فهو لا يقدسها تقديسًا أعمى، ولا يهاجمها حين تعجز، بل يحبها “حبًا عاقلًا”، كما يقول. حبّ يعرف أن العطاء لا قيمة له إذا لم يُتوّج بالنجاح. ولذلك فهو من عشّاق النجاح، لا نجاح الذات فحسب، بل نجاح المؤسسة والفريق والعمل المشترك. ومن يتأمل مسيرته، يجد دائمًا خلف كل إنجاز فريقًا صعد معه، لا تحته. وهذه هي أخلاق المهنة حين تبلغ نضجها.
الهجرة في حياة الصحفي ليست مجرد انتقال جغرافي، بل انتقال فكري وثقافي. من بيئة تتعامل مع الكلمة كترف، إلى بيئة تراها أداة بناء. من نظام يَحسب خطوات الصحفي، إلى فضاء يمنحه الثقة. لكن هذه الحرية – كما يعرف الجوهري جيدًا – ليست منحة مجانية، بل مسؤولية مضاعفة. فالنجاح في الخارج لا يرحم المتكاسلين ولا يبرّر الأخطاء باسم “الظروف”. وربما لهذا السبب، صار أحمد الجوهري من أبرز الخبراء العرب في مجال الإصدارات المتخصصة، وهو مجال لا يحتمل الهواية ولا المجاملة. عمله في هذا الميدان يشبه عمل الجراح: كل رقم يجب أن يكون صحيحًا، وكل معلومة يجب أن تُراجع، وكل قرار تحريري يجب أن يستند إلى فهم للسوق والناس والاتجاهات.
في حواراته وكتاباته القليلة، يظهر دائمًا وجهه الآخر: وجه المثقف الذي يرى في الصحافة وسيلة للفهم لا للنجومية. لا يهوى الظهور ولا يسعى إلى الضوء، لكنه حين يتحدث، يضع أمامك تجربة رجل عاش المهنة من كل زواياها. من قاعات التحرير الأولى التي تنبعث منها رائحة الحبر، إلى مكاتب الإدارة التي تحسب فيها التكلفة والعائد. ومن هذا الجمع بين التحرير والإدارة، بين الفن والاقتصاد، يخرج جوهر فكره: أن الصحافة الناجحة اليوم لا تُبنى على الإبداع فقط، ولا على الإدارة فقط، بل على التناغم بين الاثنين.
في شخصية أحمد الجوهري تتجسد تلك الثنائية القديمة بين الحلم والواقعية. فهو يحلم بمؤسسة صحفية عربية قادرة على المنافسة العالمية، لكنه يدرك أن هذا الحلم لا يتحقق بالشعارات بل بالعمل الجاد. يرى أن التحرير بلا إدارة هو قصيدة جميلة بلا قارئ، وأن الإدارة بلا روح تحريرية هي ماكينة باردة بلا نبض. لذلك يوازن دائمًا بين الجانبين، كمن يمسك بكفتَي ميزان، لا يسمح لإحداهما أن ترجح على الأخرى.
الهجرة، كما عاشها الجوهري، لم تكن فراقًا، بل امتدادًا. فالوطن عنده ليس مجرد جغرافيا، بل فكرة تستمر معه. لا يتحدث عن مصر بلغة الحنين العاطفي، بل بلغة العارف بمكانتها ومشكلاتها. يقول أصدقاءه إنه كلما حقق نجاحًا في الخارج، شعر بمسؤولية أكبر تجاهها، كأنه يكتب سطرًا في سجلها لا في سيرته. هو من أولئك الذين يرفعون اسم بلادهم بعمل صامت، بلا ضجيج ولا شعارات. ومن هنا تأتي رمزية قصته: أنها حكاية جيل كامل من الصحفيين الذين اضطروا إلى أن يغادروا ليحققوا ما عجزوا عن تحقيقه في الداخل، لكنهم لم ينسوا أن جذورهم هناك، تحت شمس القاهرة.
يبدو أن ظاهرة “الصحفي المهاجر” لم تعد استثناءً في عالمنا العربي. صارت جزءًا من مشهد أكبر، يضم علماء وفنانين ومهندسين. لكن الفارق أن الصحافة، بخلاف كل هذه المهن، ترتبط ارتباطًا عضويًا بالمجتمع واللغة والبيئة. لذلك فإن نجاح صحفي عربي في الخارج لا يعني فقط نجاح شخص، بل نجاح نموذج ثقافي في التكيف والبقاء. وأحمد الجوهري واحد من هؤلاء الذين أثبتوا أن الصحفي العربي، إذا توفرت له الفرصة والاحترام، يمكن أن ينافس ويبدع أينما وُجد.
إننا، حين نتأمل مسيرة الجوهري، لا نقرأ سيرة فرد، بل سيرة مهنة تبحث عن نفسها في زمن متغير. مهنة تتأرجح بين الورق والشاشة، بين المبدأ والسوق، بين الحلم والواقع. ورغم كل ذلك، يبقى هناك من يحمل شعلة الأمل، من يؤمن أن الصحافة ما زالت قادرة على أن تكون ضمير الأمة إذا وُجد فيها من يحبها حبًّا واعيًا.
وأحمد الجوهري، في هذا المعنى، ليس فقط صحفيًا مهاجرًا، بل شاهدًا على مرحلة، ودليلًا على أن الكلمة لا تموت إذا وجدت من يصونها.
فهو نموذج لذلك الجيل الذي لم يهاجر هربًا من الوطن، بل ليصون كرامة المهنة، ويبرهن أن النجاح لا وطن له إلا في عقول من يؤمنون بالعمل، وأن حب الوطن لا يُقاس بالبقاء فيه، بل بما تهديه له من إنجاز أينما كنت.
إنه — باختصار — طائر من طيور مصر المهاجرة... لكنه طائر يعرف دائمًا طريق العودة.