في مساء خريفي من أمسيات القاهرة التي تخلط بين الدفء والبرد كما تخلط المدينة بين الجد والهزل، التقيت 'بقلظ' لأول مرة. كنت في طريقي إلى شارع عماد الدين، ذاك الشارع الذي لم يعد كما كان، لكنه ما زال يحتفظ بروحه القديمة، بروائح الكواليس، بأصداء التصفيق، وبأحلام من عبروا فوق خشبته قبل أن تصعد أرواحهم إلى مسرح آخر في السماء. الحقيقة لم أخاطر بالحديث له مباشرة بما يدور في عقلي، لا أعرف كيف سيكون رد فعله على ما يدور في عقلي تجاهه، فقررت أن أكتب هنا أسئلة تروادني تجاه وأن أتوقع رده عليه في خيال ليس علميا ولكن خيال إنساني، فهذه الإجابات لم يقلها بقلظ، ولكنها الإجابات التي سوف يقلها كل بقلظ يعيش وسط هذه المدينة التي تتلون كالحرباء كل يوم بين قسوة وغضب وابتسامة وأمل، ولكننا نحبها ولا نملك منها فكاكًا، وهذا هو حواري الخيالي مع هذا الإنسان الحقيقي الجميل والرائع .
بقلظ وسط أطفال اللاجئين
كان بقلظ يمشي أمامي بخطوات سريعة، كأن الزمن يطارده وهو يطارده في سباق لا نهاية له. يحمل في عينيه شيئًا من الحماس، وفي ملامحه ذلك الصفاء الذي لم يعد له مكان في وجوه كثيرة. اقتربت منه، فابتسم. تلك الابتسامة وحدها كانت كافية لأن تفهم أنه من أولئك الناس الذين لا يتغيرون مهما تغيرت الدنيا حولهم. وجهه يشبه صفحة ماء ساكنة، لا يعرف الخداع، ولا يعرف الزيف، ولا حتى الحذر.
اسمه الحقيقي 'فادي'، لكنه حين قال لي إن اسمه الفني 'بقلظ'، لم أندهش. فالفنانون يختارون لأنفسهم أسماء خفيفة كظل نكتة، كي يقتربوا من الناس أكثر. وكأن فادي أراد أن يختبئ وراء الاسم ليفاجئك بنفسه، لا باللقب. فبقلظ ليس فقط اسمًا يعلق في الذاكرة، بل هو شخصية خرجت من قلب الشارع المصري، من تلك الحارة التي ما زالت تحفظ في وجدانها الضحك رغم الغلاء، والأمل رغم التعب.
جلسنا في مقهى صغير يشبه المشهد نفسه: بسيط، قديم، لكنه مليء بالحياة. كانت عيناه تتنقلان بين المارة والسماء، كأنه يبحث عن فكرة أو حلم ضاع منه في الزحام. وحين بدأ يتحدث، اكتشفت أن صوته يشبه صوته الداخلي — هادئ، واثق، خالٍ من الزخرف.
قال لي: 'أنا شيف في مطعم. أطبخ بالنهار وأمثل بالليل. لكن الحقيقة أني أطبخ الفن كما أطبخ الطعام.. بنفس الصبر ونفس الحب.'
ضحكت. لكنه لم يكن يمزح. كان يقصد ما يقول. فادي يعمل في المطبخ ليعيش، لكنه يعيش من أجل المسرح. يخلط بين البصل والدور، بين رائحة الشوربة وضوء الكشافات. يرى في الطبخ تدريبًا على الفن؛ كلاهما يحتاج إلى دقة، وإلى قلب يعرف متى يضع الملح ومتى يترك الأشياء تنضج على مهل.
بقلظ صانع السعادة
قال لي أيضًا: 'الفن بالنسبة لي مش مهنة. هو رسالة.. للطفل اللي اتنسى، وللجد اللي محدش زاره من سنين.'
وفعلاً، كان يفعل ما يقول. يقدم عروضًا لمسرح العرائس في دور الأيتام. يصنع العرائس بيديه، ويحركها كأنها أرواح صغيرة تستعير من قلبه نبضًا مؤقتًا. يغني للأطفال، يضحكهم، يجعلهم ينسون أن الحياة قست عليهم. ثم يحمل حقيبته ويذهب إلى دار مسنين، ليكرر العرض ذاته أمام وجوه فقدت أبناءها لكنها وجدت في 'بقلظ' ابنًا لا يشيب.
وأنا أنظر إليه، خطر ببالي أن هذا الشاب الذي لا يملك مالًا ولا شهرة، يملك ما لا يستطيع أحد شراؤه: القدرة على توزيع السعادة دون مقابل. تلك الموهبة النادرة التي لا يتعلمها أحد، بل تُولد معه كما يولد النور في المصباح. كان يحدثني عن جيله. جيلٍ يقول عنه إنه تعب من الأحلام لكنه لم يتوقف عن الحلم. يعملون في النهار ليعيشوا، وفي الليل ليجدوا أنفسهم. يضحكون رغم الأخبار، ويصنعون الجمال من فتات الوقت. 'إحنا بنحارب عشان نفضل بنحب'، قالها بقلظ وهو ينظر إلى كوب الشاي الذي برد منذ زمن.
قلت له: 'لكن يا فادي، ألا تتعب؟ ألا تشعر أنك تحارب وحدك؟'
ابتسم، ثم قال بهدوء يشبه حكمة شيخ: 'يمكن. بس اللي بيحب بصدق عمره ما بيكون لوحده. كل مرة طفل يضحك، أو عجوز يصفق، بحس إن الدنيا كلها جنبي.'، كانت جملته الأخيرة كافية لأن أصمت طويلًا.
هناك أناس يتحدثون كثيرًا ليقنعوك بأنهم طيبون. أما بقلظ، فهو لا يتحدث، بل يفعل. يعيش بما يعتقد. وربما لهذا السبب، يذكرك بشخصيات أنقياء الروايات القديمة، أولئك الذين يمرّون في حياتنا كنسمة خفيفة ثم يتركون أثرًا لا يُمحى.
في كل حركة منه، تشعر أن الفن عنده ليس استعراضًا، بل عبادة. يقف على خشبة مسرح صغيرة من الخشب المهترئ، لكنك تراه كأنه يقف على مسرح العالم. لا ينتظر تصفيقًا، بل يكتفي بابتسامة طفل، أو دمعة فرح من عين رجل مسن.
قلت له وأنا أودّعه: 'شارع عماد الدين تغيّر يا بقلظ.'
فأجابني وهو ينظر إلى اليافطة القديمة المعلقة على باب الورشة: 'هو ما تغيّرش يا أستاذ.. الناس اللي نسيت تشوفه زي زمان. الشارع لسه بيحلم. وأنا واحد من أحلامه اللي لسه ما كملت.'
تركته يمشي بخطواته الهادئة نحو الممر المظلم، وأنا أفكر: كم من أمثال هذا الشاب يمرون بنا كل يوم دون أن ننتبه؟ كم من 'بقلظ' صغير يحاول أن يزرع وردة في أرضٍ لا ماء فيها؟
بقلظ آخر الحالمين في مدينة لا تكف عن الاختبار
المدينة قاسية، لكن هناك من يُصرّ على أن يجعلها تبتسم، حتى لو لم تبتسم له. وهؤلاء، وإن لم تكتب عنهم الصحف، هم ملح الأرض الحقيقي.
في نهاية اللقاء، أدركت أن بقلظ لا يمثل دورًا في المسرح، بل يعيش دوره في الحياة نفسها. كل ما حوله يبدو مسرحًا كبيرًا: الشارع، المقهى، الأطفال، العجائز، حتى القدر الذي يدفعه أحيانًا للسقوط، ثم ينهض ضاحكًا ليبدأ من جديد.
ذلك هو الفرق بين الفنان الذي يعيش من الفن، والفنان الذي يعيش لأجل الفن. بقلظ من النوع الثاني، النادر، الذي لا يخطئه القلب وإن تجاهله الزمن.
ولعلك لو مررت يومًا بشارع عماد الدين، ورأيت شابًا يحمل حقيبة عرائس وابتسامة طفل، فاعلم أنك رأيت بقلظ — آخر الحالمين في مدينة لا تكف عن الاختبار، ولا تكف هي عن إنجاب الشعراء والفنانين . إنه فنان يطهو السعادة على نار هادئة، يقدمها لكل من حوله دون وصفة ولا مقابل، فقط لأنه يؤمن أن الفن حين يفقد حنانه.. يفقد معناه.