ads
ads

محمد مختار يكتب عن وجه من جيل التسعينيات: أشرف روكسي… محامي الضعفاء الذي جعل من القانون رسالة حياة

محمد مختار
محمد مختار

في قلب القاهرة، وبين ضجيج المحاكم وأوراق القضايا، يطلّ اسم أشرف ميلاد روكسي كواحد من أولئك الذين اختاروا أن يجعلوا من المحاماة ضميرًا حيًا لا وسيلة عيش. عرفه الناس بمحامٍ من طراز خاص، لا يرفع صوته في ساحات العدالة، بل يجعل أوراقه ومرافعاته تتحدث عنه. أما زملاؤه في جيل التسعينيات، فيرونه أحد رموز الجيل الذهبي الذي جمع بين الثقافة القانونية والوعي الوطني والإنساني في آنٍ واحد.

محامي الضعفاء

لم يكن أشرف ميلاد روكسي يومًا من أولئك الذين يبحثون عن القضايا الرابحة أو العملاء الأثرياء، بل كان يبحث عن الضعفاء، عن الذين لا صوت لهم. كرّس نفسه ووقته ومكتبه للدفاع عن اللاجئين والمهمشين، مؤمنًا بأن العدالة لا تعرف جنسية أو لونًا أو دينًا. في قاعة المحكمة، لا يرافع عن شخص فحسب، بل عن فكرة، عن إنسانية مهدورة تستحق أن تُنصف.

حين تسأله عن سر هذا التوجه، يجيب بابتسامة هادئة:

“أنا لا أدافع عنهم، أنا أدافع عن حقنا جميعًا في أن نُعامل كبشر.”

مهنة يعيشها لا يتكسب منها

المحاماة بالنسبة لأشرف ميلاد ليست مهنة، بل حياة كاملة. لا يحصي القضايا التي كسبها أو الأتعاب التي تقاضاها، بل يحتفظ في ذاكرته بوجوه من أنقذهم من ظلم، ومنحهم فرصة ثانية في الحياة. كثيرًا ما يردد لطلابه الشبان:

“من يدخل المحاماة ليثرى، خرج منها فقيرًا في المعنى. ومن يدخلها ليخدم، خرج منها ثريًا في القيم.”

مكتبه… متحف صغير يحكي رحلاته

من يدخل مكتبه في روكسي يشعر أنه في متحف شخصي صغير لا يشبه مكاتب المحامين التقليدية. التحف التي تملأ الأرفف ليست للزينة، بل لكل منها حكاية من رحلاته إلى بلدان مختلفة، بعضها حصل عليه من لاجئ أنقذه، وبعضها من سوق شعبي في إفريقيا أو آسيا. هناك تمثال صغير لميزان العدالة من النحاس، بجواره حجر محفور من بيروت، وخلفه صورة قديمة لعبد الناصر يحيي الجماهير.

كل قطعة في المكتب تروي جزءًا من شخصيته: المثقف الرحالة، المحامي الإنسان، والعاشق للأرض والناس. فمن يزور مكتبه في روكسي يشعر أنه دخل عالمًا خاصًا، كأنك في متحف صغير لذكريات رجل عاش ألف حياة في حياة واحدة. على الأرفف تحف من كل مكان: قناع إفريقي، خنجر يمني، تمثال بوذي صغير، وصورة قديمة لعبد الناصر وهو يحيي الجماهير. كل قطعة لها قصة، وكل قصة تحمل مبدأ.

يضحك حين يراك تتأملها، ويقول:

“كل رحلة تركت لي تذكارًا… لا من المكان، بل من الناس.”

وطني من الطراز الأول

في حديثه عن الوطن، يبدو أشرف ميلاد وطنيًا بالفطرة، لا بالشعارات. يحب مصر كما يحب أهله وبيته، يرى فيها قضية تستحق الدفاع مثل أي متهم بريء. تأثر كثيرًا بجمال عبد الناصر، لكنه لا يحبس نفسه في زمنه، بل يقول دائمًا:

“عبد الناصر كان مشروعًا للوطنية في زمنه، كما كان من قبله سعد زغلول، وكما سيأتي بعده من يحمل المشعل بطريقته.”

بهذا الاتزان، يعبر ميلاد عن جيلٍ لا يرى الوطنية في تمجيد الأشخاص، بل في العمل الصادق والضمير الحي.

أشأشرف ميلاد روكسي مدافعًا عن حقوق اللاجئين على منصة الجامعة الأمريكية بالقاهرة

جيل التسعينيات… والروح التي لم تخمد

أشرف ميلاد هو أحد أبناء جيل التسعينيات، الجيل الذي تربى على الحلم وسط التناقضات، وشهد تحولات السياسة والثقافة في مصر والعالم العربي. جيل تعلم أن يوازن بين المثالية والواقع، وبين المبادئ والحياة اليومية. في ذلك الجيل، كان ميلاد صوتًا مختلفًا؛ قانونيًا صارمًا لكنه شاعر في منطقه، واقعيًا لكنه لا يفقد إيمانه بالعدل.

في الختام

ربما لا تصادف كل يوم محاميًا يكرّس حياته للضعفاء، ولا إنسانًا يرى في كل قضية نافذة نحو إنقاذ كرامة بشرية. لكن حين تلتقي أشرف ميلاد روكسي، تدرك أنك أمام رجل يعيش ما يقول، ويقول ما يؤمن به. إنه محامي الضعفاء، وضمير جيله، وواحد من أولئك الذين يجعلون من المهنة رسالة، ومن العدالة وطنًا يسكن القلب قبل القانون.

حين تجلس معه، تدرك أنك أمام رجل لا يترافع فقط أمام القاضي، بل أمام الضمير الإنساني نفسه. لم يعرف يومًا معنى “القضية الخاسرة”، لأن كل قضية يتولاها كانت عنده “قضية وجود”. اللاجئون، المهمشون، البسطاء الذين ضاقت بهم السبل... هؤلاء هم عملاؤه الحقيقيون. يدافع عنهم كأنهم عائلته، ويعتبر أن العدالة لا تُقاس بالميزان، بل بالرحمة.

وحين تسأله: “لماذا هذا الإصرار على القضايا الصعبة؟”، يجيبك بهدوء رجل حكيم:

“لأن أصعب القضايا هي التي تُعيد إلينا معنى الإنسان.”

أشرف ميلاد لا يعرف أن يفصل بين نفسه ومهنته. يقول دائمًا: “أنا لا أمارس المحاماة، أنا أعيشها”. ولهذا تراه يتعامل مع القانون كما يتعامل الفنان مع لوحته، والعاشق مع محبوبه — بشغفٍ، وتعب، وإيمانٍ لا يَخبو.

هو لا يفاخر بعدد القضايا التي ربحها، بل بعدد الوجوه التي أضاءت بعد ظلمة. لا يذكر المبالغ التي حصل عليها، بل الدعوات التي خرجت من قلب أمٍ أُنصفت، أو لاجئٍ استعاد حقه في البقاء. في عرفه، المحامي الحقيقي هو من يجعل القانون إنسانيًا، لا مجرد نص جامد.

في حديثه عن الوطن، لا يرفع صوته ولا يلوّح بشعارات. وطنيته هادئة، لكنها عميقة كالنيل. يحب عبد الناصر لأنه رآه رمزًا لحلم جمع المصريين حول فكرة الكرامة، لكنه لا يقف عنده. يقول دائمًا:

“عبد الناصر صفحة مضيئة في كتاب طويل، لا ينبغي أن نغلقه ولا أن نمزقه.”

هو من أولئك الوطنيين الذين يؤمنون أن حب الوطن لا يحتاج لافتة، بل يحتاج عملًا نزيهًا وضميرًا حيًا.

أشرف ميلاد ابن جيل التسعينيات، الجيل الذي عاش بين عالمين: زمن المبادئ وزمن العولمة. جيل لم يكن لديه رفاهية التمرد الكامل ولا القبول الكامل، فاختار أن يعمل بصمت، ويؤمن بفعله أكثر من شعاراته. في ذلك الجيل، كان ميلاد من القلة التي جمعت بين الوعي القانوني والضمير الاجتماعي.

كان صوته في قاعات المحاكم صادقًا، وفي مقاهي القاهرة القديمة هادئًا. لا يجادل كثيرًا، لكنه حين يتحدث تشعر أنك أمام رجل يملك حججًا من نوعٍ آخر: حجج القلب والعقل معًا.

ربما لم تراه على شاشات التلفزيون على الرغم من حضوره الدائم على الفضائيات، ولم يلتقط معه المشاهير الصور، لكنه حاضرٌ في كل مكان يحتاج إلى عدالة. رجل لا يحب الأضواء، لكنه يعرف جيدًا كيف يضيء حياة الآخرين. في زمنٍ تراجع فيه معنى “الرسالة”، يذكّرك أشرف ميلاد أن ثمة من لا يزال يؤمن بأن المهنة يمكن أن تكون حياة، وأن العدالة يمكن أن تكون حبًا في أبسط صورها.

إنه ليس مجرد محامٍ… بل ضميرٌ يسير على الأرض، يكتب بلغة القضايا حكاية الإنسان، ويترك في كل من يقابله أثرًا من النُبل، كأن العدالة حين مرت بمصر، استراحت قليلًا في مكتبٍ صغير هناك حيث يجلس أشرف ميلاد، محامي الضعفاء، ورجل العدل الجميل.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً