ads
ads

أكتب لكم عن يوسف.. البلياتشو في مسرح إيهاب سالم: عندما يبكي المهرج ليضحك الجمهور !

محمد مختار

محمد مختار
محمد مختار

لا زلنا نحمل في صدورنا قلوبًا تلهث وراء الضحك، رغم أوجاع الحياة وضغوطها اليومية، رغم الشوارع المزدحمة والوجوه المرهقة التي تمر بنا كل يوم. الضحك، رغم بساطته، يظل هروبًا صغيرًا من الواقع، ملجأً مؤقتًا من كل ألم، ومنذ القدم عرف الإنسان أن للمرح قدرة سحرية على تخفيف أعباء الروح. ربما لهذا السبب ظل البلياتشو شخصية خالدة، منذ اليونان القديمة، حيث كان المهرجون يقدمون فقرات بهلوانية على مسارح صغيرة، مرورًا بزمن الفراعنة، حين نقشوا صورهم على جدران معابد بني حسن وحورس بالمنيا، وعُرفوا باسم 'مضحك الملك'. في حقيبة البلياتشو تاريخ طويل، غني بالضحكات المشرقة وبالآلام المكبوتة، يجمع بين فرح الأطفال وألم الكبار، بين سخرية الحياة وحنانها، بين ابتسامة عابرة وألم صامت خلف القناع.

اليوم، يعيش هذا الفن روحًا قديمة على خشبة مسرح إيهاب سالم في عرض 'الاستعراض الأخير'. هناك، يظهر الشاب يوسف عصام شهيب، ابن الثامنة عشرة، طالب كلية الطب البيطري، لكنه في قلبه وروحه حلم أكبر من أي كلية، حلم بالتمثيل، بالأفلام، بالمسلسلات التي تحمل اسمه على الشاشات. يوسف ليس مجرد شاب يهوى المسرح، بل هو روح تتوهج بين الحياة والفن، بين الدراسة الجامعية ومتطلبات الأداء، بين مسؤولية عن نفسه ودراسته في الحد الأدنى وحرية التعبير عن ذاته. يتنقل بين حياته العادية وبين خشبة المسرح كأنها عوالم متوازية، لكنه يجد في المسرح نفسه الحي، الملجأ الذي فيه يستطيع أن يكون كاملًا، أن يطلق العنان لشغفه، أن يحيا بفرح البهجة التي يصنعها للآخرين.

قبل أن يبدأ العرض، نراه في الاستوديو، يقف أمام المرآة الكبرى، يضع المكياج بحذر شديد، كل خط على وجهه مدروس، كل لون له معنى. يضع حول عينيه دائرة سوداء، ثم يلون شفتيه بالاحمر الزاهي، ويبتسم لنفسه كما لو كان يقرأ في انعكاسه وعدًا بأن يسعد الآخرين. تمر أصابعه على وجنتيه لتوزيع اللون بدقة، ثم يربت على كتفيه كما لو كان يبعث رسالة لنفسه: 'اليوم، ستدخل قلوبهم بالضحك'. يتدرب على القفزات والحركات البهلوانية، يمرر يديه على الخشبة وكأنه يلمس كل زاوية، يتعلم كيف يحافظ على التوازن، وكيف يجعل كل حركة تبدو طبيعية رغم صعوبة التحكم فيها. كل حركة منه تحمل طاقة، وكل وقفة كأنها رسالة: 'انظروا، يمكن للإنسان أن يضحك رغم كل شيء.'

يوسف شهيبيوسف شهيب

المفارقة المؤلمة في شخصية البلياتشو تكمن في أن أعظم من جسدوا هذا الدور عالميًا كانوا يحملون في صدورهم حزنًا عميقًا. شارلي شابلن، ذلك العبقري الصامت، لم يضحك العالم إلا وهو يخفي وراء قناعه مساحات شاسعة من الألم، لكنه استطاع أن يجعل الضحك لغة عالمية يفهمها الجميع، ويثبت أن البهجة يمكن أن تكون تعبيرًا عن الألم بقدر ما تكون علاجًا له. يوسف يتعلم من هذا التاريخ، يتعلم أن قلب البلياتشو يجب أن يكون مليئًا بالرحمة، حتى عندما يكون مضحكًا، وأن كل ضحكة من الجمهور تأتي نتيجة لتفانيه وإخلاصه.

الضاحك الحزينالضاحك الحزين

على خشبة المسرح، كل حركة ليوسف محسوبة، كل قفزة تخترق الهواء بقوة خفية، كل دوران له إيقاع، كل ضحكة منه تصل إلى الجمهور كما لو كانت موسيقى خفية. يلوّح بيديه ويقفز، يمرر أصابعه على حبال المسرح وكأنه يلمس أفراح الناس وأحزانهم معًا، يغني أغنية قصيرة، يرقص بحركات مبالغ فيها لكنها مضحكة، يختلق مواقف هزلية مع كرسي أو طاولة، يقفز خلفها في حركة مفاجئة تجعل الجمهور يصرخ من الضحك. كل شيء مدروس بعناية، كل حركاته متقنة، وكأن المسرح قطعة موسيقية، هو الآلات، والجمهور هو المستمع، والحركة هي اللحن.

في لحظات التفاعل مع الأطفال، تتحول خشبة المسرح إلى عالم ساحر. طفل يركض نحو يوسف، فيرفع يده، يلوح بالقبعة، يبتسم له، فيلتقط يوسف يده بلطف ويقوده بحركة بهلوانية إلى وسط المسرح، فتسمع أصوات الضحك تتصاعد في الصالة. آخرون يراقبون بدهشة، بعضهم يحاول تكرار الحركات على خشبة المسرح الصغيرة في مكان جلوسهم، فيضحكون ويضحكون. كل لحظة هنا لحظة تواصل مباشر بين الفنان وجمهوره، كل حركة منه رسالة حب ودفء للآخرين.

خلف الكواليس، تبدو الصورة مختلفة تمامًا. يوسف يخلع ألوان وجهه، يجلس على المقعد الطويل، ينهك جسده، يزيل المكياج، لكن قلبه ما يزال ينبض بالهموم نفسها. هناك، في الظل، بين أكياس الألوان والأقمشة المبعثرة، يمسح عرقه، يربت على كتف زميله، يتبادل نظرات مع إيهاب الذي يقترب بهدوء ليطمئن عليه، ثم يخرج من الظل مرة أخرى إلى الخشبة، ليعيد كل شيء كما لو لم يكن تعب ولا ألم. تلك هي التضحية: أن تحمل همومك معك، لكن تجعل الآخرين يضحكون، أن تبكي في الخفاء وتفرح في العلن، أن تكون صورة للفرح والمرح رغم كل الألم.

كل حركة منه، كل قفزة، كل ضحكة، هي رسالة: الحياة أقوى من أي وجع، والفرح ممكن حتى في أحلك الظروف. يبتكر المقالب الصغيرة بنفسه: يطرق الطاولة بشكل مفاجئ، يتأرجح على حبل صغير، يسقط على الأرض بطريقة مضحكة، يقفز مرة أخرى، يحرك حاجبيه بشكل هزلي، كل هذه التفاصيل الصغيرة تجعل الجمهور يعيش معه كل لحظة، يضحك من قلبه، ويشعر بالارتياح رغم كل همومه.

البلياتشو ليس مجرد فنان، بل هو طبيب للروح، معالج للأرواح المتعبة، مرآة للمجتمع، وصوتًا للضحكات المكبوتة. في كل عرض، يختار يوسف مواضيع تهم الناس البسطاء، يسخر من القسوة، من الجشع، من اللامبالاة، لكنه يفعل ذلك بلطف وحب، يجعل الضحك أداة للتغيير الصامت. إنه يجمع بين الهزل والجدية، بين الحنان والسخرية، بين العبث والرسالة الإنسانية.

هكذا يظل البلياتشو رمزًا حيًا للإنسان الذي يحب أن يسعد الآخرين حتى لو كان قلبه يئن بالألم. كل حركة منه، كل قفزة، كل ضحكة، هي رسالة: الحياة أقوى من أي وجع، والفرح ممكن حتى في أحلك الظروف. إنه فن التضحية، فن الحب الصامت، وفن أن تجعل الضحك مهما كان صغيرًا انتصارًا على كل ما يؤلمنا.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
رئيس الوزراء: 1 نوفمبر إجازة رسمية تزامنا مع افتتاح المتحف المصري الكبير