ads
ads

محمد مختار يكتب :الإسكندرية… حين تستيقظ الأرصفة القديمة على صدى المسرح ويتحول السجن حديقة ويصفق الجمهور للمساجين المنتصرين

محمد مختار
محمد مختار

الإسكندرية ليست مدينة من حجر وبحر، بل من ذاكرة وحلم. مدينة كلّما مشيتَ فيها شعرت أنك تمشي على مسرح مفتوح، وأن الموج على الكورنيش يصفّق، وأن الريح التي تمر بين أعمدة سراي رأس التين أو شرفات شارع فؤاد تهمس لك بنص مسرحي قديم من زمن زكي طليمات ويوسف وهبي. هذه المدينة لم تكن يومًا مجرد ثغر، بل كانت دائمًا الثغر الحالم للحركة المسرحية المصرية.

من الإسكندرية خرجت أولى البدايات. هنا كانت التجارب الأولى للمسرح المصري قبل أن تشتدّ أضواء القاهرة، وهنا كانت العروض التي يختبر فيها المخرجون جرأتهم قبل أن يواجهوا العاصمة. المدينة التي أحبّت المسرح كما أحبّت البحر، لا تعرف الصمت طويلًا، فكلما خفت ضوء الخشبة في مكان، أضاءت في ركن آخر. واليوم، يبدو أن القدر قرر أن يُعيد إليها نبضها المسرحي من جديد على يد مخرج يعرف كيف يزرع الضوء في العتمة... إيهاب سالم.

عودة الروح إلى المسرح السكندري

إيهاب سالم يستعد لعرض مسرحيته الجديدة «سجن مع وقف التنفيذ»، وهو عنوان فيه من الدهشة ما يكفي لأن ترفع رأسك من الكتاب وتفكر: سجن؟ ومع ذلك موقوف التنفيذ؟ وهل يمكن للسجن أن يكون مساحة للحرية؟ المدهش أن هذا هو جوهر العمل. المخرج السكندري الشاب يفتح أبواب المسرح ليصنع سجنه الخاص، لكنّه سجن بالمعنى الفني: سجن يُحرّر، لا يُقيّد.

في هذه المسرحية، لا يقدّم إيهاب سالم قصة معتادة عن الظلم أو القهر، بل يصنع من فكرة السجن تجربة رمزية، تجعلك تضحك وتفكر في الوقت نفسه. تتناول المسرحية فكرة مبتكرة تدور حول قرار منظمة العفو الدولية بتنظيم مسابقة مسرحية بين سجون العالم، كل دولة تختار سجنًا ليمثلها من خلال عرض مسرحي. تخيّل! فكرة مجنونة على الطريقة الإسكندرانية: خيال واسع، وسخرية ذكية، ومكر فنيّ يجعلك تشك في كل ما تراه.

إيهاب سالمإيهاب سالم

السجن الذي يضحك العالم

يقع الاختيار على مصر لاستضافة المسابقة، بمشاركة ست دول تمثل العالم بمزيج من التناقضات: مصر، الصين، تركيا، الهند، قارة إفريقيا، ودول الخليج. كل واحدة من هذه الدول تحمل خلفها تلالًا من القهر والأمل، من الكوميديا والدموع. المسرحية تتحوّل إلى مرآة كونية، يرى فيها الجمهور نفسه بملابس السجناء، لكنه يبتسم رغم القيود.

يقدّم إيهاب سالم هذا العمل في إطار كوميدي ساخر، لكنه كوميدى فيه وجع جميل، ذلك الوجع الذي يجعلك تضحك وأنت تعرف أنك تبكي من الداخل. فالفوز في النهاية يكون من نصيب السجن المصري، كأنّ مصر، حتى وهي في زنزانة، لا تنسى كيف تضحك، ولا تفقد موهبتها في تحويل الألم إلى فن.

الإسكندرية والمسرح... حكاية عشق قديم

من يعرف تاريخ المسرح المصري، يعرف أن الإسكندرية كانت أول من صفّق، وأول من فتح الستار. على مسارحها الصغيرة وفرقها الجامعية نشأ جيل كامل من الممثلين والمخرجين الذين صنعوا لاحقًا مجد المسرح القاهري. كانت المدينة دائمًا أكثر جرأة، وأكثر خيالًا، وأكثر استعدادًا للتجريب. ربما لأن البحر هنا لا يعرف الحدود، وربما لأن الناس في الإسكندرية يؤمنون بأن الفن هو وسيلة للبقاء في وجه الموج والرياح.

لقد كانت الخشبة في الإسكندرية ملاذًا للمجانين الجميلين، أولئك الذين لا يجدون في الحياة سوى المسرح وطنًا. كل شارع فيها كان يمكن أن يتحول إلى مشهد، وكل مقهى إلى كواليس، وكل ليلة صيفية إلى بروفة علنية على الحياة. واليوم، يأتي إيهاب سالم ليواصل هذا الإرث، ليعيد للمكان رائحته الأولى... رائحة الستارة حين تُفتح لأول مرة.

إيهاب سالم… المخرج الذي يعيد ترتيب الفوضى

حين تتحدث مع إيهاب سالم، تشعر أنه لا يخرج من النصوص بقدر ما يدخل فيها. هو لا يخرج الممثلين فقط، بل يُخرج الفكرة من الظل إلى الضوء. في عمله الأخير، يُدخلنا إلى سجن، لكنه لا يسمح للقيود أن تخنق الخيال. بالعكس، هو يجعل من القيود أدوات للتمثيل. كل سجين في المسرحية يحمل حكاية تشبه بلده، وكل بلد في العرض يحمل جزءًا من الحلم الإنساني الكبير بالحرية.

يقول إيهاب سالم إن المسرح بالنسبة له هو 'الحرية الوحيدة التي يمكن أن نمارسها ونحن مقيدون'. تلك الجملة وحدها تكفي لتفهم الرجل. إنه يرى في الخشبة وطنًا لا يُحتل، وحلمًا لا يُقمع، ومساحة يستطيع الإنسان أن يصرخ فيها دون أن يُعاقَب. وربما لهذا السبب تبدو عروضه دائمًا مختلفة: بسيطة في الشكل، لكنها عميقة في المعنى.

الفريق... وشركاء الضوء

وراء كل مخرج ناجح فريق يؤمن به. وفريق «سجن مع وقف التنفيذ» ليس مجرد مجموعة من الممثلين، بل رفاق رحلة يعرفون أن المسرح مغامرة لا تُخاض بالعقل فقط، بل بالقلب أيضًا. هناك ممثلون شباب من الإسكندرية نفسها، بعضهم هواة بدأوا من ورش صغيرة على كورنيش الشاطبي، وبعضهم محترفون جاءوا من العاصمة ليشاركوا في هذا الحلم السكندري.

يعمل الفريق بتجانس مدهش، كما لو أنّهم يعيشون فعلًا داخل السجن المسرحي الذي صنعوه. البروفات طويلة ومجهدة، لكنها مليئة بالضحك والروح. وفي كل مشهد، يحاول إيهاب سالم أن يستخرج من الممثل الإنسان قبل الشخصية، لأن المسرح عنده ليس تمثيلًا فحسب، بل بحث عن الحقيقة، حتى لو كانت تلك الحقيقة مؤلمة أو ساخرة أو مجنونة.

المسرح السكندري... حين يعود ليقول أنا هنا

لم يكن من السهل أن تُعيد الإسكندرية بريقها المسرحي وسط الزحام الثقافي الذي احتكرته العاصمة لسنوات طويلة. ولكن التاريخ يُحب أن يعود من نفس الباب الذي خرج منه. ومسرحية «سجن مع وقف التنفيذ» ليست مجرد عرض جديد، بل إشارة ميلاد لموجة فنية جديدة قد تُعيد المدينة إلى موقعها الطبيعي على خريطة المسرح المصري.

فالمسرح في الإسكندرية لم يمت، بل كان ينتظر من يوقظه. والآن، وهو يفتح عينيه على يد مخرج شاب يملك الجرأة والخيال، يبدو كأن الأرصفة القديمة تبتسم. وكأن «تياترو الإسكندرية» و«مسرح نهاد صليحة» و«قصر ثقافة الأنفوشي» يتنفسون جميعًا من جديد.

ضحكة على خشبة... وصرخة في الداخل

في نهاية العرض، حين يفوز السجن المصري، يصفق الجمهور. لكن التصفيق هنا ليس للسجن المنتصر، بل للحرية التي لا تموت. إيهاب سالم لا يقولها صراحة، لكنه يلمّح: 'يمكن للإنسان أن يكون سجينًا، ومع ذلك يظل حرًّا بالفن'. الكوميديا التي يقدمها ليست مجرد سخرية، بل نوع من المقاومة. فأن تضحك في وجه القهر هو أن ترفضه.

والمسرحية من هذا الجانب تذكّرنا بالمسرح السياسي في الستينيات، حين كانت الخشبة منبرًا للوعي والتمرد في الوقت نفسه. لكنها تختلف في نغمتها الحديثة: لا شعارات، لا خطب، بل مواقف يومية ساخرة تفضح العالم دون أن ترفع صوتها.

الإسكندرية… المدينة التي تكتب نصّها كل يوم

من يتجوّل في الإسكندرية بعد مشاهدة المسرحية سيشعر أن المدينة كلها تحوّلت إلى مسرح. صيّاد على البحر يمثل مشهد الانتظار، وبائع الذرة في محطة الرمل يؤدي دور الفيلسوف الشعبي، والبحر في الخلفية هو موسيقى المشهد الختامي. الإسكندرية تعرف كيف تحوّل الحياة إلى مسرح دائم، وكيف تعيد صياغة نفسها كل يوم كأنها تتدرّب على عرض جديد.

وهكذا، يصبح عرض «سجن مع وقف التنفيذ» أكثر من مجرّد مسرحية. إنه بيان فني سكندري يقول للعالم: نحن هنا، نضحك رغم القيود، نحلم رغم الضباب، ونفتح ستارتنا من جديد.

في النهاية، لا يمكن أن تتحدث عن المسرح دون أن تتحدث عن الحلم. والإسكندرية، تلك المدينة التي تعيش نصفها في البحر ونصفها في الذاكرة، تعرف أن المسرح هو مرآتها الأصدق. كل موجة تصطدم بكورنيشها تشبه تصفيق الجمهور في نهاية عرض ناجح.

ومع إيهاب سالم، يبدو أن الحلم السكندري عاد من المنفى. عاد ليقول إن المسرح ما زال قادرًا على أن يُدهشنا، وأن الفن يمكنه أن يصنع من السجن حديقة، ومن الحزن ضحكة، ومن القيود عرضًا يصفّق له الجميع. الإسكندرية لم تفقد سحرها، فقط كانت تنتظر من يوقظها بكلمة، بإضاءة، بعرض يحمل نبض البحر ورائحة التاريخ. وها هو إيهاب سالم يفعلها... يعيد للإسكندرية أضواءها المسرحية، لتعود الثغر الحالم كما كانت دائمًا، مدينة تحلم بالمسرح، وتعيش على الخشبة.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
العدالة تقترب.. حبس والد المتهم وصاحب محل الموبايلات في قضية تلميذ الإسماعيلية وتوسيع دائرة الاشتباه