في صباح يوم عادي، حين تشرق الشمس على شارع شامبليون، تتلاشى الظلال الطويلة على الأرصفة المبللة ببقايا الأمس، ويبدأ الشارع بالاستيقاظ شيئًا فشيئًا. أصوات العربات التي تتحرك ببطء، صراخ الباعة الذين ينادون على بضائعهم، رائحة الطلاء والورنيش الثقيلة الممتزجة بدخان السيارات، كلها مكونات المشهد اليومي الذي يمر عليه المئات من المارة. وسط هذا الصخب، يقف وليد، بائع الورنيش الصغير، كجزء من الشارع نفسه، لكنه يحمل قصة مختلفة، قصة رحمة وإنسانية لا يراها سوى من يراقب عن كثب.
وليد ليس غريبًا عن هذا الشارع. محله الصغير، المملوء بالعبوات المعدنية من الورنيش والطلاء، والألواح الخشبية المكدسة بشكل شبه عشوائي، يروي تاريخًا طويلًا من العمل المتواضع. لكن ما يميزه هو ما يفعله بعد بيع الورنيش والطّلاء، وهو نصف رزقه الذي يخصصه يوميًا لشراء طعام القطط. حفنة جنيهات صغيرة تتحول إلى وجبات يومية للقطط الضالة التي تسكن الزوايا والممرات، لتصبح الشارع بأسره مسرحًا لرحمته اليومية.
القطط هنا جزء من الشارع كما الشوارع نفسها جزء من المدينة. بعضها يجلس على الأرصفة، تراقب بحذر تحركات المارة والسيارات. القطط السوداء، البيضاء، المخططة، كل واحدة لها زاويتها المفضلة. وبعضها، الأكثر جرأة، يقترب من وليد مباشرة، كأنها تعرف موعد الطعام بالضبط. وليد يسكب الطعام بعناية في أوعية صغيرة، بعضها بلاستيكي وبعضها معدني، بينما القطط تتحرك حوله، تتلوى، وتصدر أصواتها الخفيفة، كأنها تُشكِر من يراقبها بعين الإنسان.
الشارع نفسه يبدو مختلفًا في هذه اللحظات. الأصوات العالية للباعة تتراجع أمام صوت القطط وهي تأكل، أو صوت وليد وهو ينادي برفق: 'تعالوا هنا.. هيا، كلكم هتاكلوا.' يراقب المارة هذا المشهد في صمت، بعضهم يبتسم، وبعضهم يلتقط صورًا بهاتفه، لكن قليلين فقط يفهمون الدرس الخفي وراء هذه اللحظة: الرحمة الحقيقية لا تحتاج إلى ضجيج أو شهرة، بل إلى فعل صادق، ولو كان صغيرًا.
وليد لا يختار الزوايا بعشوائية. يعرف كل ركن في شارع شامبليون، من زاوية محل الخضار عند مدخل الشارع إلى الظل الكبير تحت شجرة البلوط عند نهاية الرصيف. هناك، في كل مكان، يترك آثار طعامه. القطط تتعلم الروتين، بعض القطط تأتي مبكرًا لتأكل، وأخرى تظهر متأخرة، وكأنها تقرر توقيتًا مناسبًا لتناول وجبتها اليومية. هذه الدقائق القليلة، الصغيرة في نظر الكثيرين، تصنع فرقًا كبيرًا في حياة كائنات بلا مأوى أو حماية.
بائع الورنيش ( صورة تعبيرية )
الشارع مليء بالتفاصيل التي تكشف عن حيوية الحياة اليومية: لون الطلاء اللامع على الحوائط، الروائح الممزوجة للورنيش والدهانات، صوت العربات المعدنية على الأرض، حتى صوت الخطوات المتسارعة للمارة. كل هذه العناصر تختلط مع حركة القطط، وكأن الشارع نفسه يتنفس، يعيش، ويتفاعل مع العطاء الصغير الذي يقدمه وليد يوميًا.
من زاوية أخرى، هناك الأطفال الذين يمرون يوميًا. بعضهم يتوقف لمشاهدة القطط وهي تأكل، وأحيانًا يجرؤون على لمسها برفق، بينما يبتسم وليد لهم ويعلمهم كيفية الاقتراب بدون خوف. في هذه اللحظات الصغيرة، يتعلم الأطفال درس الرحمة والعطاء قبل أي درس في المدرسة.
وليد نفسه لا يتحدث كثيرًا عن أفعاله. عندما سألناه عن سبب تخصيص نصف رزقه للطعام، أجاب ببساطة: 'هم جزء من الشارع. إذا لم أهتم بهم، من سيفعل؟' كلمات قصيرة لكنها تحمل فلسفة حياتية عميقة، فلسفة تقول إن العطاء البسيط يمكن أن يكون أعظم فعل إنساني.
مع مرور الوقت، تتحول اللحظات اليومية إلى مشهد حي متكرر: القطط تأكل، المارة يمرون، وليد ينظر إليها بابتسامة هادئة، وكأن كل عبء العمل اليومي يتحول إلى لحظة سعادة بسيطة لكنها غنية بالمعنى. وحتى من لا يعرفه، يمكنه أن يلاحظ الفرق: الشارع يبدو أقل قسوة، هناك شعور ضمني بأن الرحمة يمكن أن تعيش في أي مكان، حتى في الزوايا الصغيرة من الحياة الحضرية.
وليد يعلم جيدًا أن المال، مهما كثر، يبقى مجرد وسيلة، والقيمة الحقيقية تكمن في كيفية استخدامه لرفع المعاناة عن الآخرين. كل حفنة جنيهات تتحول إلى حياة، إلى شعور بالأمان، إلى لحظة سعادة للقطط الضالة التي تواجه الحياة بلا مأوى. هذا درس حقيقي في الإنسانية والكرم، درس يمكن أن يشاهد ويشعر به كل من يمر من شارع شامبليون.
في المساء، عندما يهدأ الشارع وتقل الضوضاء، نجده يجلس على ركن صغير قرب محله، يشرب كوب الشاي بعد يوم طويل، ويراقب القطط وهي تبحث عن مأوى الليل. الابتسامة التي ترتسم على وجهه تقول كل شيء: كل تعب اليوم تحول إلى لحظة سعادة حقيقية، لحظة صادقة، بسيطة، لكنها أعمق من أي شعور مادي.
وليد ليس مجرد بائع ورنيش، إنه رمز حي للرحمة والإنسانية، نموذج حقيقي عن كيف يمكن للفعل الصغير أن يترك أثرًا كبيرًا، وكيف يمكن للحب والرحمة أن يحولا حياة بسيطة إلى درس خالد للآخرين. شارع شامبليون لم يعد مجرد شارع مزدحم بالبضائع والصخب، بل أصبح مساحة حياة تتخللها لحظات إنسانية حقيقية.
وفي كل صباح، مع شروق الشمس، ومع صخب العربات ونداء الباعة، يستمر وليد في فعلته اليومية، نصف رزقه يتحول إلى حفنة جنيهات، وحياة القطط الضالة تصبح أكثر أمانًا ودفئًا. المشهد يتكرر يوميًا، لكن كل يوم يحمل طابعًا جديدًا، لمسة جديدة من الرحمة، ومشهدًا حيًا للإنسانية التي لا تزال موجودة، حتى في أصغر التفاصيل.
إن وليد يعلم أن أفعاله الصغيرة، ولو كانت خفية عن الأنظار، يمكن أن تغير حياة من هم أضعف، وتزرع في النفوس درسًا صادقًا عن الرحمة والكرم. إنه درس الحياة اليومي في قلب شارع شامبليون، حيث يمكن للجنيهات الصغيرة أن تصنع فرقًا كبيرًا، وحيث يمكن للإنسان أن يجد سعادته في بساطة العطاء.