ads
ads

محمد مختار يكتب عن رحيل ناشر طليعي.. ما بعد هاشم والسؤال الصعب: هل تموت الكتب بعد موت الناشرين؟

محمد مختار
محمد مختار

هناك أسئلة لا تُطرح إلا في اللحظة التي يبدو فيها الجواب مؤلمًا. ورحيل الناشر المصري محمد هاشم واحد من تلك اللحظات التي تُجبرنا على مواجهة سؤال ظل معلقًا في الهواء، لا يجرؤ أحد على الإمساك به: هل تموت الكتب حين يموت الناشرون؟

قد يبدو السؤال للوهلة الأولى مبالغًا فيه. فالكتاب يُكتب، ويُطبع، ويُوزّع، ثم يعيش بين الناس. لكن التجربة تقول غير ذلك. فثمة كتب لا تولد إلا لأن ناشرًا امتلك الشجاعة. وثمة أصوات لا تُسمع إلا لأن ناشرًا قرر أن يغامر. وثمة أجيال كاملة لا يُعترف بها إلا لأن دار نشر صغيرة، محشورة في زقاق، قررت أن تفتح نافذة للهواء.

كان محمد هاشم واحدًا من هؤلاء. لم يكن موظفًا في صناعة الكتاب. ولم يكن تاجرًا يعرف التكلفة والربح. كان شيئًا آخر. شيئًا نادرًا. شيئًا يصعب أن يتكرر كثيرًا. كان ـ ببساطة ـ إرادة ثقافية تمشي على قدمين.

ولهذا لم يكن خبر رحيله مجرد خبر. كان إعلانًا عن نهاية فصل كامل من الحياة الثقافية في مصر. فصل لم يصنعه هاشم وحده، لكنه كان أحد أبرز أبطاله.

منذ منتصف التسعينيات، حين تأسست «دار ميريت»، بدا واضحًا أن الرجل يريد أن يفعل شيئًا لا يشبه ما هو قائم. كانت دور النشر الرسمية تمارس دورًا أقرب إلى “وزارة” تتلقى الكتب كما تتلقى الملفات، فتختم ما تشاء وترفض ما تشاء. وكان المشهد الأدبي ينتظر شيئًا يخرجه من الروتين، ومن الخوف، ومن “النشر المناسب” الذي لا يُغضب أحدًا.

فعل هاشم ذلك. فتح دارًا صغيرة. مساحة ضيقة. مكتبًا بالكاد يتسع لرفوف قليلة. لكنه ملأه بروح لا علاقة لها بالحجم. ملأه بمنطق جديد: أن النشر ليس “خدمة”، بل موقف. وأن الناشر ليس “وسيطًا”، بل شريك في الإبداع.

ومع الوقت، صارت «ميريت» ما يشبه “نقطة ارتكاز”. صارت رئة يتنفس منها جيل التسعينيات. وصارت بوابة الاعتراف لمن لم يعترف بهم أحد. وصارت دارًا لا يذهب إليها الكاتب ليطبع كتابًا، بل ليجد نفسه وسط حياة كاملة.

من هنا يبدأ جوهر السؤال: هل تبقى هذه الروح بعد رحيل صاحبها؟ وهل يمكن أن تُورث؟ أم أنها ترحل بقدر ما كانت نتاجًا لشخص بعينه؟

الذين عرفوا محمد هاشم يعرفون أن دوره لا يمكن اختزاله في “إدارة دار نشر”. كان يقود “حالة”. وكان يخلق “مناخًا”. وكان يزعج البعض، ويرضي البعض الآخر، لكنه كان ـ قبل ذلك كله ـ يؤمن بالكتاب إيمانًا لا مصلحة فيه.

محمد هاشممحمد هاشم

فمن قاده قدماه للدحول لمقر ميريت في شارع قصر النيل — تلك الشقة الضيقة التي تشبه ورشة فنية — كان يجد شبابًا لا يعرفهم أحد، يقرأون نصوصهم بصوت مرتجف، ثم يجدون من يربت على أكتافهم ويقول: “استمر”. هذا هو ما كان الراحل يفعله محمد هاشم ، هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الحياة الثقافية. وهي التي لا تُكتب في السجلات الرسمية. وهي التي لا تلتقطها الكاميرات. لكنها ـ وحدها ـ ما يصنع جيلاً. وما يحول دار نشر من “مشروع” إلى “مؤسسة”. ومن “مكان” إلى “فكرة”.

هنا مكمن الخوف بعد رحيل هاشم. ليس الخوف على ميريت كدار نشر، بل الخوف على الدور الذي كانت تلعبه. الدور الذي لا تُمارسه المؤسسات الكبيرة، ولا تتقنه دور النشر التجارية. الدور الذي يحتاج إلى شخص لديه قدرة على “التقاط الشرارة” حين تمر أمامه، بدلاً من أن تمر بلا ملاحظة.

قد يقول قائل: الكتب لا تموت. وهي محفوظة. ومكتوبة. ومطبوعة. ويمكن إعادة طبعها في أي وقت.

هذا صحيح. لكنه نصف الحقيقة فقط.

الكتب لا تموت. لكن الظروف التي تُنتج الكتب قد تموت. والروح التي تختار ما يُنشر وما لا يُنشر يمكن أن تختفي. والدار التي كانت تُعامل الكتاب على أنه “حلم” قد تتحول ـ بدون صاحبها ـ إلى مشروع يبحث عن “سوق”.

وهنا الفرق.

في عالم اليوم، أصبح منطق “الأكثر مبيعًا” هو الذي يدير كثيرًا من دور النشر. لا أحد يغامر بنص لا يعرف كيف سيُستقبل. ولا أحد يريد أن يبدأ مع شاعر شاب لا يملك جمهورًا. ولا أحد يريد أن ينشر كتابًا يسبب له صداعًا سياسيًا أو اجتماعيًا.

محمد هاشم كان من المدرسة القديمة. مدرسة الناشر الذي يرى في نفسه “مغامرًا”. والذي يعتقد أن دوره هو أن يحمي النص لا أن يحتمي منه. وأن يقدم الصوت الجديد بدلاً من أن يركب موجة الصوت الشائع.

السؤال الآن: من سيقوم بهذا الدور بعده؟

هذه ليست مسألة شخصية. ولا مسألة عاطفية. بل مسألة تتعلق بطبيعة المشهد الثقافي نفسه. ومصيره. ومستقبله.

ولعل التجربة تقول لنا شيئًا مهمًا: أن النهضة الأدبية لا تُصنع بالكتّاب وحدهم، ولا بالقراء وحدهم. بل تُصنع بالحلقة التي تربط الاثنين: الناشر. والناشر الحقيقي نادر. نادر في مصر. ونادر في العالم كله.

وفي عالم مثل عالمنا العربي، حيث المؤسسات الثقافية الرسمية تُدار بمنطق إداري بحت، وحيث كثير من دور النشر الخاصة تنشغل بالسوق أكثر من انشغالها بالكتاب، يصبح الناشر الطليعي شخصًا لا يُعوَّض بسهولة.

من هنا نفهم أن السؤال “هل تموت الكتب بعد موت الناشرين؟” سؤال حقيقي. ليس لأنه يعني موت الكتاب ذاته، بل لأنه يعني موت البيئة التي ينتج فيها الكتاب. وهذه البيئة لا تُخلق في يوم. ولا تُعاد في سنة. بل تتكون عبر جهد ثقافي ممتد، شارك فيه عشرات من المبدعين، لكن حمله على كتفيه ـ في لحظة معينة ـ رجل واحد.

ولذلك يبدو رحيل هاشم أشبه بإغلاق باب من الأبواب التي عرفناها طويلًا. باب كان يدخل منه الشعراء الشبان. وتخرج منه أصوات لا تُشبه ما في السوق. باب كان يصل القاهرة الثقافية بعمقها الحقيقي، لا بسطحها الإعلامي.

قد يبدو الحديث عن “الناشر الطليعي” حديثًا نظريًا، لكنه في الحقيقة جوهر صناعة الكتاب. فالعالم كله يعرف نوعين من الناشرين: ناشر يطبع الكتب، وناشر يطلق الأفكار. الأول يُشبه صاحب مطبعة متطورة. والثاني يُشبه قائد أوركسترا يعرف كيف يلتقط النغمة قبل أن تتحول إلى لحن.

الناشر من النوع الأول لا مشكلة معه. هو ضروري. والبلدان تحتاج إليه. لكنه لن يحدث فرقًا كبيرًا في الثقافة. أما الثاني فهو الذي يشكّل المشهد، ويصنع الذائقة، ويعيد تعريف الأدب نفسه. وهذه الفئة قليلة بطبيعتها. قليلة لأن وظيفتها ليست “وظيفة”. بل طاقة. ورؤية. وحضور يشبه حضور المبدعين.

محمد هاشم كان من النوع الثاني. كان من الناشرين الذين تراهم في الواجهة، لكنهم يفضّلون البقاء في الظل. ومن الذين يتحدثون قليلًا، لكنهم يؤثرون كثيرًا. ومن الذين يعرفون أن مصير الكتاب لا يتحدد في المطبعة، بل قبل ذلك بكثير: في اللحظة التي يلمح فيها الناشر أن هذا النص يحتاج أن يرى النور.

ولهذا تحديدًا يصبح السؤال مشروعًا: ماذا يحدث حين يغيب هذا النوع من الناشرين؟

إذا عدنا إلى التجارب العربية، وجدنا أن كل موجة أدبية كبيرة كان وراءها ناشر مختلف. موجة الستينيات لم تكن لتولد لولا “المواجهات” الفكرية التي كانت تتيحها دور نشر صغيرة، أكثر جرأة من المؤسسات الأكبر حجمًا. وموجة السبعينيات لم تكن لتتبلور لولا بروز دور نشر امتلكت الشجاعة لنشر نصوص كانت تبدو “غريبة” على الذوق العام. وموجة التسعينيات لم تكن لتظهر لولا “ميريت” و“شرقيات” وأشباههما.

هذه قاعدة يكاد يُجمع عليها الوعي الثقافي العربي:

كل جيل أدبي يبدأ من باب صغير يفتحه ناشر شجاع.

ومع ذلك، لا أحد يسأل عادة عمّا إذا كانت هذه الأبواب تبقى مفتوحة بعد رحيل أصحابها. بل يُعتقد ـ ضمنيًا ـ أن المشهد سيستمر كما هو. وأن الروح ستنتقل تلقائيًا. وأن المكان سيحمل الرسالة حتى لو تغيّر الأشخاص.

لكن الواقع يقول شيئًا آخر.

حين يغيب ناشر من هذا النوع، يحدث فراغ. وليس فراغًا عاديًا. بل فراغًا يشبه فجوة في الهواء. فجوة لا يملؤها المال، ولا الخبرة الإدارية، ولا حتى حسن النية. فجوة لا يملؤها إلا شخصية تمتلك القدرة على اتخاذ القرار الأصعب: أن تنشر كتابًا لا تعرف إن كان سيُباع أم لا… فقط لأنك تؤمن به.

وإذا أردنا أن نتحدث بلغة أحمد بهاء الدين، فعلينا أن نسمّي الأشياء بأسمائها. هناك نوعان من الفراغ في الثقافة: فراغ يمكن أن يُملأ بمرور الوقت، وفراغ لا يُملأ إلا إذا جاء شخص من نفس الطينة. والفراغ الذي خلفه رحيل محمد هاشم ينتمي إلى النوع الثاني.

ليس لأن هاشم كان “الأهم” بالمعنى التنافسي. ولا لأنه كان “الوحيد”. بل لأن دوره كان مركّبًا. كان ناشرًا، ومحرّضًا ثقافيًا، ومضيفًا، ومستشارًا، ووجهًا من وجوه وسط البلد، ومَن يعرف “الخلطة” التي تجعل من دار نشر صغيرة مكانًا يقصده كبار الكتّاب من دون مواعيد.

لو حاولت أن تشرح لغير العارف أهمية هذا النوع من الدور، فلن تستطيع بسهولة. لأن الدور نفسه غير مكتوب في اللوائح. وغير مذكور في العقود. لكنه حاضر في كل كتاب طليعي خرج في العشرين سنة الماضية. حاضر في كل شاعر وجد نفسه لأن أحدهم منحه فرصة. حاضر في كل روائي اعتقد أن صوته “غير مألوف”، فوجد من يقول له: المألوف ليس معيارًا.

السؤال الآن: هل هذه الأدوار يمكن أن تنتقل إلى جيل جديد؟

هنا ينبغي أن نكون واقعيين. انتقال الدور لا يحدث تلقائيًا. ولا يحدث لأن هناك دارًا قائمة. ولا لأن هناك تراثًا محفوظًا. الدور لا ينتقل إلا حين يظهر في الساحة ناشر جديد يمتلك الشجاعة ذاتها. الشجاعة التي قد لا يراها الآخرون “منطقية”، لكنها ضرورية لاستمرار الحياة الأدبية.

هناك دائمًا من يظن أن الثقافة تُدار بالعقود، أو بالخطط، أو بالبيانات. لكن الحقيقة أن الجزء الأكثر تأثيرًا في الثقافة يُدار بالأفراد. بالأشخاص الذين يلتقطون ما هو قادم قبل أن يلتقطه غيرهم. وهذا ما كان يفعله هاشم. وهذا ما يجعل غيابه أكثر من غياب شخص. إنه غياب “دور”.

هل يعني ذلك أن الكتب ستتوقف؟ لا. الكتب ستُكتب. والنشر سيستمر. والجوائز ستُمنح. والطباعة ستزداد. وربما ستنتشر الكتب أكثر عبر المنصات الرقمية. لكن السؤال ليس عن استمرار “النشر”، بل عن استمرار “النوعية”. ليس عن عدد الكتب، بل عن صلتها بروح اللحظة. ليس عن ما يُباع، بل عمّا يُحدث أثرًا.

وهنا نقع في جوهر الفكرة:

الصناعة يمكن أن تستمر. لكن الروح لا تستمر إلا إذا وجدت من يحملها.

على أن السؤال الأعمق يتجاوز هاشم. ويتجاوز ميريت. ويتجاوز دور النشر الصغيرة كلها. السؤال الأعمق هو:

هل تغيرت صناعة الكتاب نفسها؟ وهل ما زال بإمكان ناشر فرد أن يصنع فرقًا في زمن منصّات عملاقة ووسائل ترويجية ضخمة ومشهد ثقافي يميل إلى “السطح” أكثر من “العمق”؟

هذا سؤال يجب أن نطرحه بصراحة. فالعالم الثقافي اليوم لم يعد كما كان في التسعينيات. القراء تغيّروا. والكتّاب تغيّروا. والمعايير تغيّرت. والنجومية في الأدب لم تعد تُصنع على طاولة ناشر، بل على خوارزميات منصة. ومع ذلك، يبقى هناك شيء لا يتغير: حاجة الأدب إلى “عين” ترى ما لا تراه السوق.

السوق لا ترى إلا الأرقام. لكن الأدب لا يُقاس بالأرقام. الأدب يُقاس بالأصوات التي يطلقها. والأفكار التي يزعج بها. والحدود التي يختبرها.

وهنا يأتي دور الناشر الحقيقي: أن يكون الميزان الذي يوازن بين منطق السوق ومنطق الإبداع. أن يكون الحارس الذي لا يسمح للنصوص المهمة أن تضيع. أن يكون الشخص الذي يعرف أن الكتاب ليس سلعة، بل أثر.

هل يمكن أن يؤدي هذا الدور ناشر جديد؟ نعم. لكنه يحتاج إلى شرط أساسي: أن يملك الجرأة ذاتها. جرأة أن يقول “هذا النص يستحق” حتى لو لم يوافقه أحد.

إذا أردنا أن نصل إلى لبّ الموضوع، فعلينا أن نسأل السؤال بصيغته الكبرى:

ما الذي يبقى بعد رحيل ناشر طليعي؟

هل يبقى “الكتاب” فقط؟ أم تبقى “الطريقة”؟ أم لا يبقى سوى الحنين؟

هذا سؤال ليس سهلاً. وليس عادلاً أن نجيب عنه بانفعال ولا بتهويل. لكنه سؤال ضروري، لأن المشهد الثقافي لا يعتمد فقط على المبدعين، بل على “البنية” التي تسمح للإبداع أن يظهر. هذه البنية قد تُختزل أحيانًا في شخص واحد. شخص يمتلك تلك القدرة الغامضة على إدارة العلاقات، وفهم اللحظة، واختيار ما يستحق، وإهمال ما يمكن أن ينتظر.

حين ننظر إلى ما تركه محمد هاشم، نرى أنه ترك وراءه أكثر من دار نشر. ترك “مفهومًا”. ترك “نموذجًا”. ترك طريقة محددة للتعامل مع الكتاب:

الكتاب ليس منتجًا.

الكاتب ليس موظفًا.

والنص الجديد ليس خطرًا بل فرصة.

هذا النموذج — في أي ثقافة — لا يرحل بسهولة. لكنه أيضًا لا يستمر تلقائيًا. فهو ليس “إرثًا ماديًا”. ولا “ماركة تجارية”. ولا “خط إنتاج”. إنه روح. والروح تحتاج دائمًا من يحملها.

إذا أردنا أن نتحدث بوضوح، فإن الجيل الثقافي الذي تربّى في فضاء «ميريت» كان جيلًا واثقًا من نفسه لأنه وجد مكانًا يعطيه ذلك الاعتراف الأول. الاعتراف الذي لا يأتي من الجوائز، ولا من الصحف، بل من الناشر الذي يقول للشاب: “اقرأ نصك مرة أخرى… سننشره”.

هذا النوع من الاعتراف هو ما يملك القوة الحقيقية. وهو ما لا يصنعه السوق. وهو ما لا يقدّره إلا من عاشه.

ولذلك، حين نتحدث عن غياب ناشر مثل هاشم، فنحن لا نتحدث عن نقص في عدد الكتب المنشورة كل عام. نحن نتحدث عن نقص في “البوابة الأولى” التي يعبر منها المبدعون الشباب. نقص في اللحظة التي يحتاجها كل كاتب: لحظة أن يشعر أن أحدًا “يراه”.

في زمن تتسع فيه الأدوات الرقمية، وتتشابك فيه المنصات، وتزداد فيه الضوضاء، يصبح دور الناشر الحقيقي أكثر أهمية لا أقل. فالعالم اليوم لا يعاني نقصًا في “المنشور”. بل يعاني نقصًا في “المختار”. في “المصفّى”. في من يعرف ما الذي يستحق أن يبقى.

وهذا الدور — حتى لو اختلفت أدواته — سيبقى ما دام هناك أدب، وما دام هناك من يؤمن بأن الأدب ليس منتجًا قابلًا للاستبدال، بل جزء من الذاكرة العامة للمجتمع.

لكن هل يمكن للمشهد الثقافي اليوم أن يصنع “هاشمًا جديدًا”؟

هذا سؤال ربما يبدو رومانسيًا، لكن إجابته ليست كذلك. لأن صناعة ناشر طليعي لا تجري في المختبرات. ولا تصنعه الدورات التدريبية. الناشر الطليعي يظهر حين تتقاطع ثلاثة أمور:

مزاج شخصي يؤمن بالمغامرة

مزاج لا يخاف. مزاج لا يبحث عن السلامة. مزاج يعرف أن الفكرة أهم من العائد.

ظرف ثقافي يحتاج إلى نافذة جديدة

ظرف تضيق فيه المؤسسات. تتراجع فيه الجرأة. يحتاج فيه الأدب إلى مكان يقول: “هنا مساحة أخرى”.

جيل يبحث عن باب يدخل منه

لا يوجد ناشر طليعي بلا جيل يطرق الباب. ولا يوجد جيل يزدهر بلا ناشر يفتح له الباب.

هذه الشروط الثلاثة لا تتوفر كل يوم. ولا تتكرر بكثرة. لكنها قد تتكرر. وقد نرى — ربما الآن، وربما لاحقًا — ناشرًا جديدًا يحمل الشعلة.

لكن الأكيد أن الشعلة نفسها لا تنطفئ. لأنها لم تكن يومًا شعلة فرد واحد. كانت دائمًا شعلة مشتركة: الكاتب يشعل جانبًا. والقارئ يشعل جانبًا. والناشر يشعل ثالثًا. وهكذا تتكوّن “مجموعة الضوء” التي تنير جيلاً كاملًا.

ومع ذلك، لا بد أن نقول شيئًا مهمًا:

الكتاب لا يموت بموت ناشره.

لكنه قد يفقد السياق الذي جعله ممكنًا.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً