على مقهى 'سولافة'، في شارع فيصل، حيث تختلط روائح القهوة الطازجة بالشاي والبهارات السودانية، جلست مع صديقي محمد الحكيم. المكان صغير، لكنه يفيض بالحياة. الطاولات الخشبية متجاورة، والكراسي بسيطة، لكن كل زاوية تحكي حكاية. الحائط الأيمن مزين بصور قديمة للخرطوم، لمسات من الماضي السوداني هنا، تذكير بأن التاريخ لا يموت.
سولافة، المرأة السودانية، تقف خلف المقهى بابتسامة دائمة. ابتسامة ليست مجرد تعبير، بل فن في حد ذاته. عينان تلمعان، وحركة يديها عند تقديم الفيشار تعكس دهاءً بسيطًا لكنه فعال. صندوق الفيشار، هذا الابتكار البسيط، منحها شيئًا أكبر من مجرد جذب الزبائن؛ منحها حضورًا. كل زبون يأتي، سواء كان سودانيًا أو مصريًا، يشعر بأنه مُرحب به، يُعامل كصديق قديم، وليس مجرد عميل عابر.
سولافة لم تبدأ هنا بسهولة. الحرب دمرت كل شيء خلفها في السودان. جاءت نازحة، ومعها شغف للحياة، رغبة في بدء صفحة جديدة. وبإمكانيات محدودة، استطاعت أن تجعل من مقهى صغير مساحة فريدة في شارع فيصل، حيث تتفوق على مقاهي أكبر منها، وأكثر تجهيزًا. الطريق لم يكن سهلاً، لكنها استخدمت ابتكارها وذكائها الاجتماعي لتجعل المقهى نقطة التقاء للذاكرة، للقصص، للحكايات السودانية والمصرية.
صديقي الحكيم هادئ، صبور، يعرف كيف يستمع قبل أن يتحدث. جلسنا على الطاولة الخشبية قرب النافذة، والحديث بدأ بالذكريات. حكايته لم تكن مجرد حكاية طفل في السودان، بل كانت وصفًا لعصر، لزمن، لروح بلد عبرت حدودها بسلام. تحدث عن مدارس البعثة المصرية في الخرطوم، تلك المدارس التي لم يلتحق بها إلا صفوة أهل السودان، مدارس الرقّة والعلم، حيث كانت مصر تمارس قوتها الناعمة بحكمة وهدوء.
مقهى سولافا صورة افتراضية
محمد الحكيم لم يكن يروي التاريخ كما كتب في الكتب. كان يعيشه. يصف اللعب في باحات المدرسة، الأصدقاء الذين جمعهم المصير، المعلمين الذين علموهم ليس فقط العلم، بل كيف يكون الإنسان. يحكي عن الفصول المطلة على النيل، عن الطاولات الخشبية القديمة، عن رائحة الكتب الجديدة التي تعبق في الهواء، وعن الجنائن الصغيرة التي كانت تمنح الأطفال شعورًا بالحرية وسط الخرطوم المزدحمة. بينما هو يروي، انضم إلينا رجل سوداني مسن، كان مديرًا سابقًا لمطبعة جامعة الخرطوم. التقط الخيط من الحكيم، وبدأ يسرد عن استقبال جمال عبد الناصر في قمة اللاءات الثلاثة، وكيف حمله السودانيون على الأعناق، وعن الحفاوة العارمة التي استقبل بها الناس أم كلثوم عند زيارتها الخرطوم في ديسمبر 1968.
الحكايات تتوالى، والمقهى يتحول إلى مساحة زمنية غير محددة. التاريخ يتداخل مع الحاضر، والضحكات مع ذكريات الطفولة. صديقي الحكيم يضحك أحيانًا على مواقف بسيطة عاشها، بينما المدير يضيف تفاصيل لا يعرفها كثيرون، عن النساء السودانيات اللواتي استقبلن أم كلثوم، وعن الطائرات الخاصة، وعن مراسم الاحتفالات والزفاف السودانية التقليدية التي شاهدتها كوكب الشرق.
المقهى هنا ليس مجرد مكان للقهوة أو الشاي. إنه متحف حي للذاكرة، مساحة للحكايات، للقصص التي تربط بين مصر والسودان، بين الماضي والحاضر، بين الحنين والواقع. كل طبق فيشار، كل رشفة قهوة، كل ابتسامة من سلافة، تحمل رسالة: الحياة تستمر، الإنسان قادر على البناء، مهما كانت الظروف صعبة.
لحكايات على مقهى 'سلافة' لم تتوقف عند الطفولة وذكريات المدارس. فجأة، أخذ المدير السابق لمطبعة جامعة الخرطوم حديثه إلى فصل من تاريخ السودان الحديث، فصل مشبع بالحماس القومي، بالطرب، بالروح الوطنية. تحدث عن زيارة كوكب الشرق أم كلثوم للخرطوم في أواخر ديسمبر 1968.
الخرطوم في ذلك الوقت لم تكن مجرد مدينة. كانت مسرحًا مفتوحًا للحماس القومي، لكل المشاعر الجياشة بعد هزيمة 1967. السودانيون استقبلوا أم كلثوم كما لو كانت رئيس دولة. الطائرات الخاصة، الصحافة المرافقة، الوزراء، الحشود في المطار. كل شيء يوحي بالعظمة، بالعناية، بالاحترام المطلق. لم تكن زيارة عادية. كانت احتفاءً بالرمز، برمز لمصر، برمز لروح الأمة بعد الهزيمة.
الحفلة الأولى كانت رسمية، حضرها الزعيم إسماعيل الأزهري وكبار الشخصيات، وكانت التذاكر مرتفعة الثمن. توقع البعض أن الجمهور السوداني لن يتفاعل مع الحفلة الطويلة الممتدة أكثر من ساعة. لكن المفاجأة كانت في التفاعل الاستثنائي، في الحفاوة التي تجاوزت كل توقعات المنظمين. الحفلة الثانية كانت مفتوحة للجمهور، وخصص ريعها لدعم المجهود الحربي. ربما لم يكن المال كافيًا لشراء دبابة واحدة، لكن الهدف كان أكبر: رفع الروح المعنوية، بث الأمل، استعادة الكبرياء العربي.
ولم يكن الحضور النسائي مجرد متفرجات. الاتحاد النسائي السوداني كان مؤسسة قوية، منظمة، ومتقدمة مقارنة بنظيراتها في العالم العربي. استقبلن أم كلثوم، وأرشدنها إلى مراسم تقليدية، إلى زيارات رسمية وشعبية، حتى إلى بيت السيد علي الميرغني، مرشد السجادة الختمية في الخرطوم بحري، حيث شهدت مراسم زفاف سودانية تقليدية. كل لحظة كانت حافلة بالمعنى، بالرمز، بالحياة الاجتماعية والسياسية في السودان.
الصحافة والإذاعة والتلفزيون السوداني كانت في قلب الحدث، تتابع كل خطوة، كل ابتسامة، كل تحية. كانت أيام ديسمبر 1968 ممتدة بالحركة، بالاحتفالات، بالموسيقى. وفي الخامس والعشرين من ديسمبر، عندما عادت أم كلثوم إلى مقر إقامتها بعد المغرب، وجدت احتفالًا ضخمًا بمناسبة عيد ميلادها. لم تتوقع أن يعرف السودانيون تاريخ ميلادها أو يحتفلوا به بهذه الحفاوة. بكاؤها لم يكن ضعفًا، بل تقديرًا، اندماجًا في روح الناس، في تاريخ بلدها الثاني.
صديقي الحكيم والمدير السابق للمطبعة يتبادلان الحديث، بين الحكايات والضحكات، بين الملاحظات الصغيرة والتفاصيل الكبرى. نحن نستمع، نتفاعل، كأننا نعيش تلك اللحظات في الخرطوم القديمة، بين الحشود، على الطائرات، في المسارح، بين النساء السودانيات، بين الأطفال الذين يرفعون أعلام مصرية وسودانية، بين الأصوات التي تعلن الحب والاحترام لمصر وكوكب الشرق.
سولافة، خلف المقهى، تراقبنا، تبتسم، وكأنها تعرف قيمة هذا التاريخ. كل زبون يمر هنا، يرى التاريخ حيًا أمامه، لا في الكتب، بل في صوت الحكيم، في عيون المدير، في الصور على الجدار. المقهى أصبح أكثر من مكان للقهوة. أصبح مساحة للتاريخ، للذاكرة، للحكايات التي تربط مصر بالسودان.
وفي هذا السياق، نرى كيف لعبت القوة الناعمة لمصر دورها في السودان، ليس بالقوة العسكرية أو السياسة الصارمة، بل بالثقافة، بالموسيقى، بالتعليم، بالمرأة. أم كلثوم، مدارس البعثة المصرية، الصحافة، الاتحاد النسائي، كلها أدوات ناعمة للحضور المصري، أدوات صنعت تأثيرًا طويل الأمد، أثره لا يزال محسوسًا في الحكايات التي تروى على مقهى 'سولافة'.
المقهى هنا أصبح مسرحًا صغيرًا لكل هذه الأحداث. رائحة القهوة المحمصة، صوت الموسيقى السودانية القديمة، ابتسامة سلافة، كل شيء ينسجم ليعيدنا إلى تلك الأيام، لنعيشها مرة أخرى، ونفهم كيف يمكن للفن، والتعليم، والثقافة، والمرأة، أن يكونوا قوى حقيقية، قوى بناء، قوى تغيير.المقهى يستمر في نبضه، وكأن الزمن يتوقف للحظات، ثم يعود ليبدأ من جديد. سولافة تتحرك بين الطاولات بخفة، تقدم القهوة والشاي، وتراقب زبائنها بعينين ثاقبتين، تعرف متى يحتاجون للحديث، ومتى يحتاجون للصمت. المرأة السودانية هذه، التي غادرت وطنها بعد الحرب، جاءت للقاهرة تحمل حكاية حياة كاملة، لكنها لم تترك الماضي يثقل كاهلها. على العكس، استخدمت كل تجربة، كل فقدان، كل ألم، لتخلق من مقهى صغير مساحة للفرح، للدفء، للإنسانية.
صديقي الحكيم يراقب سولافة من مقعده المعتاد، يبتسم، ثم يعود لسرد ذكرياته. يتحدث عن الخرطوم كما لو أنه يراها الآن: الشوارع العريضة، البساتين التي تمتد على ضفاف النيل، المدارس التي احتضنته حين كان صغيرًا، واللعب في ساحات المدرسة مع أصدقاء لم يروا بعضهم منذ عقود. الحكايات ليست مجرد كلمات، بل تجارب حية. كل وصف يشعل صورًا في ذهنك، كأنك تمشي في تلك الأزقة، تسمع أصوات الأطفال، تشم رائحة الأرض بعد المطر، وتشعر بالهواء الحار على بشرتك.
وفي هذه اللحظة، يتحرك الزبائن حولنا، يتبادلون التحية مع سلافة، يضحكون مع الحكيم، يبتسمون للمدير السابق للمطبعة، وكأن الجميع جزء من مشهد واحد، لوحة كبيرة تتداخل فيها الذكريات مع الحاضر. المقهى أصبح نقطة التقاء للقصص، لكل الأعمار، لكل الجنسيات، لكل الذكريات التي تحتاج لمن يرويها.
سولافة تعلمت أن القوة في البساطة، في صندوق الفشار، في ابتسامة صادقة، في تذكر اسم الزبون، في معرفة مشاعره قبل أن يتحدث. كل زبون يشعر بأنه جزء من عائلة، لا مجرد رقم أو عميل. هذا هو السر، الحيلة الصغيرة التي جعلت المقهى يتفوق على آخرين، على الرغم من الإمكانيات المحدودة.
الحكيم يعود بالذاكرة إلى القوة الناعمة لمصر في السودان، وكيف كانت المدارس المصرية، الثقافة، الفن، زيارة أم كلثوم، كل ذلك أدوات تأثير حقيقية. يربط بين الماضي والحاضر، بين الخرطوم وسولافة في القاهرة، بين قوة الفن والتعليم وبين قوة الإنسان في مواجهة الصعاب. نحن نستمع، نفكر، ونشعر بأن التاريخ ليس مجرد أحداث، بل شبكة معقدة من العلاقات الإنسانية، من الإبداع، من التفاؤل، من الصبر.
المدير السابق للمطبعة يضيف بعدًا آخر، يروي مواقف شخصية، تفاصيل صغيرة لم تُسجل في الكتب، عن السودانيين الذين حملوا عبد الناصر على الأعناق، عن احتفالات النساء، عن الحفلات التي أعادت الكبرياء العربي بعد نكسة يونيو. نحن هنا، على مقهى صغير، نعيش التاريخ كما لو كان يحدث أمام أعيننا.
وما بين رشفة القهوة وطبق الفشار، تدرك شيئًا مهمًا: الحياة مستمرة. الإنسان قادر على البناء، على الحب، على التفاؤل، على تحويل أصغر الأماكن إلى مساحات كبيرة للمعنى. مقهى 'سولافة' ليس مجرد مكان للشاي والقهوة، بل مختبر صغير للحياة، حيث التاريخ والذكريات والفن والموسيقى والإنسانية كلها تتقاطع.
في هذا الجو، يصبح كل شيء درسًا: درس عن الصبر، عن الابتسامة، عن قدرة الإنسان على تجاوز المحن. درس عن كيف يمكن للفن، للثقافة، للمرأة، للذكريات، أن تصنع قوة حقيقية، قوة ناعمة لكنها لا تقل عن أي قوة مادية. درس عن الروابط الإنسانية، عن القدرة على التواصل بين الثقافات، عن مصر والسودان، عن الماضي والحاضر، عن القلب وال
درون ببطء، حاملين معهم شيئًا أكثر من فنجان قهوة: قطعة من التاريخ، جزءًا من الحكاية، شعورًا بالانتماء إلى شيء أكبر من أنفسهم.
وعندما أقف لأغادر، أرى سلافة تقف عند الباب، تودع الزبائن بابتسامة، وتبقى، برغم كل الصعاب، رمزًا للتفاؤل، للإنسانية، للحياة. مقهى صغير في شارع فيصل، لكنه يحمل العالم كله، يحمل الخرطوم، القاهرة، أم كلثوم، المدارس، القوة الناعمة، الفن، والذكريات. كل شيء هنا يعلمك شيئًا واحدًا: لا يمكن للتاريخ أن يموت، ولا يمكن للحياة أن تفقد معناها، طالما هناك من يحكيها، ويعيشها، ويصنعها كل يوم من جديد.