جلسنا على مقهى سولافة، ذلك المقهى الذي لا يقع على خريطة السياحة، ولا يعرف طريقه الأجانب، لكنه يعرف جيدًا طريقه إلى القلوب. طاولاته الخشبية العتيقة تشبه وجوه روّاده: مجعدة، صادقة، بلا مساحيق. رائحة القهوة الثقيلة تختلط بدخان السجائر وبأصوات الباعة في الشارع، وكأن المكان كله يتآمر على أن يقول لك: “هنا مصر… كما هي”.
كان صديقي محمد الحكيم يجلس قبالتي، عاقدًا حاجبيه، ينفث ضيقه مع كل رشفة قهوة. أعرف هذه النظرة جيدًا؛ إنها نظرة الرجل الذي عاد من الخارج محمّلًا بما يظنه “الحقيقة النهائية”.
قالها فجأة، كمن لم يعد يحتمل:
– “الناس هنا… جاهلة. غير متحضرة. نحن متأخرون قرنًا كاملًا… لا، مائة سنة على الأقل!”
لم أبتسم. تركته يكمل، أعرف أن الكلام إن لم يخرج دفعة واحدة اختنق صاحبه.
– “انظر حولك يا محمد، فوضى، زعيق، عدم احترام للنظام. قارن هذا بما رأيته في الولايات المتحدة. هناك كل شيء محسوب، كل شيء منظم. الإنسان يعرف حدوده. الحضارة هناك حقيقية… أما هنا فمجرد شعارات.”
كان يتحدث بحماس العائد من نيويورك، المدينة التي تُقنعك في أيامك الأولى أنك وصلت إلى نهاية التاريخ، وأن ما قبلها مجرد مسودة غير مكتملة.
سألته بهدوء:
– “وما هي الحضارة يا محمد؟”
نظر إليّ بدهشة، كأن السؤال بدهي إلى حد الإهانة.
– “الحضارة؟! النظام، القوانين، التكنولوجيا، احترام الوقت، احترام الملكية العامة…”
هززت رأسي، وقلت:
– “كل هذا صحيح… لكنه ليس كل الحقيقة.”
سكت قليلًا، ثم أشعلت سيجارة، وتركت الدخان يصعد ببطء، كما لو كنت أمهل الفكرة أن تتشكل.
قلت:
– “الحضارة يا صديقي ليست واجهة زجاجية لامعة، ولا ناطحات سحاب تلمس الغيم، ولا إشارات مرور لا يجرؤ أحد على كسرها. الحضارة الحقيقية تسكن داخل النفوس. في الضمير. في تلك المسافة الخفية بين ما أقدر على فعله وما أسمح لنفسي أن أفعله.”
ضحك ساخرًا:
– “كلام جميل… لكنه كلام.”
قلت:
– “بل فعل. دعني أحكي لك.”
هل ذهبت يومًا إلى منشية ناصر؟
لا، ليس تلك الزيارة السريعة التي يقوم بها الصحفيون بحثًا عن صورة بؤس. بل ذهبت لتجلس بين الناس، لتسمعهم، لتراهم في لحظاتهم العادية؟
في منشية ناصر، الحي المزدحم، العشوائي، الفقير… عندما تنقطع الكهرباء، لا يحدث ما تتوقعه تقارير التنمية البشرية. لا صراخ، لا نهب، لا فوضى. يخرج الناس من بيوتهم. يجلسون على السلالم، على الأرصفة، أمام البيوت. تبدأ الحكايات. تضحك امرأة، ينادي رجل على جاره، يلعب الأطفال في الظلام كأنه لعبة إضافية.
الظلام هناك لا يخيف… لأنه مشترك.
الناس تؤانس بعضها بعضًا. الظلام يصبح مناسبة اجتماعية، لا حالة طوارئ. كأن الكهرباء كانت تفصلهم قليلًا، فلما انقطعت أعادتهم إلى بعضهم.
ثم خذ خطوة واحدة فقط، إلى منطقة الصاغة، بجوار منشية ناصر. محلات ذهب، أموال، بريق، ما يعتبره البعض “مركز الحضارة الاقتصادية”. تنقطع الكهرباء. ماذا يحدث؟
لا شيء.
يجلس أصحاب المحلات في هدوء. لا يغلقون الأبواب بعنف. لا يضعون أيديهم على القلوب. ينتظرون التيار الكهربائي كما ينتظرون صديقًا تأخر عن موعده. لأنهم يعرفون أن أحدًا لن يمد يده. لا زبون، ولا عابر سبيل.
هذا ليس لأن الشرطة في كل زاوية، ولا لأن الكاميرات تعمل… بل لأن في الداخل شيئًا اسمه: حلال وحرام.
صورة افتراضيةقاطعني محمد الحكيم:
– “لكن هذا تخلف… الاعتماد على الأخلاق بدل القانون!”
ابتسمت.
– “ومن قال إنهما ضد بعضهما؟ القانون مهم، نعم. لكن ماذا يحدث عندما يغيب القانون؟ عندما تنطفئ الأنوار؟ عندما تتعطل الكاميرات؟”
سكت.
قلت:
– “في نيويورك، المدينة التي رأيتها متحضرة، ماذا يحدث عندما تنقطع الكهرباء؟”
لم يجب. كان يعرف.
قلتها أنا:
– “تُنهب المحلات. تُكسر الواجهات. تُفرغ المراكز التجارية. يحدث هذا في دقائق. ليس لأن الناس فقراء، بل لأن الحضارة هناك قشرة. رقيقة. جميلة. لكنها قشرة.”
نظرت إليه مباشرة:
– “هناك حضارة تحكمها الكاميرا. وهنا حضارة يحكمها الضمير.”
الحضارة الأمريكية – كما رأيتها وكما يراها غيري – تقوم على العقد: افعل ما تشاء ما دمت مراقَبًا. لا تتجاوز لأن هناك عقوبة. أما الحضارة المصرية، رغم كل ما أصابها من فقر وضغط وتشوه، فهي تقوم على شيء أعمق: افعل الصواب حتى لو لم يرك أحد.
المواطن المصري البسيط، الذي لم يدخل جامعة، وربما لا يعرف كتابة اسمه جيدًا، يحمل داخله ميزانًا أخلاقيًا صارمًا. قد يتحايل على الدولة، نعم. قد يلعن الحكومة، نعم. لكنه لا ينهب جاره. لا يسرق محلًا لأنه أظلم. لا يبرر لنفسه الحرام بسهولة.
وهنا الفارق.
قال محمد الحكيم، بصوت أقل حدة:
– “لكننا نعاني… الفقر، العشوائية، الجهل.”
قلت:
– “نعم، نعاني. ولا أنكر. لكن الحضارة ليست رفاهية. الحضارة تُختبر في الشدة، لا في الرخاء.”
ثم أضفت:
– “قل لي: هل شهدت مصر يومًا، في تاريخها الحديث، حوادث نهب جماعي بسبب انقطاع الكهرباء؟ هل تحولت شوارعها إلى غابة لأن التيار توقف؟”
هز رأسه نفيًا.
قلت:
– “هذا ليس صدفة. هذا تراكم قرون. حضارة قديمة، لم تعد في المعابد فقط، بل في السلوك اليومي. في تلك الجملة التي يقولها الأب لابنه: ‘ده حرام’. دون شرح فلسفي. دون محاضرة.”
إحسان عبد القدوس علّمنا أن نبحث عن الحقيقة في التفاصيل الصغيرة، لا في الشعارات الكبرى. وأنا أقول لك: الحضارة ليست في ناطحة سحاب، بل في سلم بيت ضيق، يجلس عليه جاران يتقاسمان الظلام والضحكة.
ليست في جامعة عريقة فقط، بل في بائع بسيط لا يرفع السعر لأن الزبون غريب. ليست في دستور مكتوب، بل في عرف غير مكتوب يحكم الناس منذ آلاف السنين.
نهض محمد الحكيم من مقعده، نظر حوله إلى المقهى، إلى الناس، إلى الضجيج الذي كان يكرهه منذ ساعة.
قال بهدوء:
– “ربما كنت قاسيًا.”
قلت:
– “نحن لسنا ملائكة. ولسنا مثاليين. لكننا لسنا بلا حضارة.”
دفعت ثمن القهوة، وخرجنا إلى الشارع. كانت الكهرباء تعمل. لكنني فكرت: حتى لو انطفأت الآن… لن ينهار شيء.
وهذا، يا صديقي، هو الفرق بين حضارة تسكن في الأسلاك… وحضارة تسكن في القلوب.