من رحم الأمنيات المطفأة، ومن نار المعاناة والوجع، قد يُولد الإبداع، مصهوراً بنارها، ناضجاً تحت لهيبها المستعر، متأثراً بها أو ساخراً منها، يُولد أكثر نقاءً وأصفى تعبيراً، وأبلغ رسالة.
والمعاناةُ قد تكون حدثاً عابراً، وقد تكون ناراً تتأجج عمراً حتى تصير جمراً متقداً أو رماداً تكمن في طياته بذرتها. وقد تأكل المعاناة في طريقها البعض، وقد تكشف عن معدن البعض وصلابته. وأمامها، قد ينهار البعض، والبعض قد يصمد، ومنها قد يخرج الخبث وقد يصفو في رحابها الذهب.
أحد الأعمال الإبداعية التي كانت وليدة المعاناة، وكشفت عن موهبة فذة، وطاقة شعرية ناضجة ومتفجرة، كانت قصيدة "المجلس البلدي" للشاعر بيرم التونسي. والتي كشفت عن شاعر كبير، وقف أمام المعاناة ساخراً منها، سخرية مضحكة حيناً وحيناً موجعة. تمثلت معاناته في المجلس البلدي، الذي فوجئ به الشاعر ذات يوم، على غرة ودون سابق إنذار، يحجز على بيته الجديد، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد ضريبية عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا. وأمام هذا الحدث، الذي لم يكن يملك أمامه إلا سلاح الكلمة، أو سيف القلم، قرَّر الشاعر، أن يرفع راية العصيان ضد المجلس البلدي، وأن يعبر عن رفضه لسيف الظلم المسلط على رقبته، وربما على رقبة غيره، من المجلس البلدي. فكان أن سجَّل هذا الاعتراض، وهذا الرفض، في كلمات بسيطة، معبرة وساخرة، جسَّد فيها كل ما يشعر به تجاه هذا الظلم، وهذا التجاوز، كاشفاً عن حجم هذه المعاناة التي يعاني، وهو وغيره؛ لتسجل في سجل التاريخ وتصير أيقونة شعرية ورائعة من روائع بيرم التونسي.
فتحت هذه القصيدة له باباً من أبواب الشهرة والنجومية، وهو الذي لم يكن معروفاً حتى كتابتها، فصار بها نجماً، وشاعراً يشار إلين بالبنان. فكانت بدايته الحقيقة في عالم الشعر والادب، وكان قد كتب قبلها الكثير من القصائد والأزجال العامية لكنه مزقها ظنَاً منه إنها دون المستوى.
ذهب بيرم بقصيدته عن المجلس البلدي، وكان أن سمَّاها "بائع الفجل"، إلى صحيفة "الأهالى" لنشرها، وأعجب بها رئيس تحريرها "عبد القادر حمزة" فنشرها. وما أن نشرت حتى لاقت رواجاً وانتشاراً كبيراً على ألسنة الناس والعامة، وكأنها لسان حالهم، فقرر بيرم احتراف كتابة الشعر وامتهان الأدب؛ لما لاقاه من اهتمام بعد نشر هذه القصيدة. بعدها ذاع صيت بيرم التونسي، حتى كتب عنه النقاد، وانتقلت كلماته إلى آفاق رحبة، وسمع بها من يتحدث العربية من المحيط إلى الخليج، عندما غنَّت له أم كلثوم، وكان أحد شاعرين، خشي أمير الشعراء أحمد شوقي على الفصحى من شعرهما العامي، بينما كان الشاعر الآخر هو أحمد رامي.
يقول بيرم في بساطة معبرة وسخرية متأججة:
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ
هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي
أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ
يعدّهـا عاملٌ للمجلسِ البلـدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
طيفُ الخيالِ، خيالُ المجلسِ البلدي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَــأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى
أن يَنْبَرِي لعروسي المجلسُ البلدي
ورُبَّمَا وَهَبَ الرحمنُ لي ولداً
في بَطْنِهـا يَدَّعيه المجلس البلدي
وإنْ أقمتُ صلاتي قلتُ مُفتتِحاً
اللهُ أكبرُ باسم المجلـسِ البلــدي
أستغفرُ اللهَ حتى في الصلاةِ غَدَتْ
عِبادتي نصفُها للمجلـس البلـدي
يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيـمِ واحدةً
كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي