د. محمد غنيم يكتب: عامي السادس عشر.. وشاعري المفضَّل

د. محمد غنيم
د. محمد غنيم

على استحياءٍ اقتربت منه، وتشجَّعتُ، فألقيت تحية المساء عليه، ردَّ التحية بابتسامة ودودة، ومددت يدي فصافحته بحرارة قلت له بسذاجه المعجب: أنت شاعري المفضل، وديوانك "مدينةٌ بلا قلب" لا يبرح وسادتي كل مساء، فابتسم ابتسامة امتنان، وشكرني وهو يشدُّ على يدي.

كنت سعيداً أن أبوح له بهذا الإعجاب والتتيم وبدت عليه السعادة بكلمات ذلك المجهول. كان ذلك خلال أمسية جميلة وندوة شعرية في المجلس الأعلى للثقافة للشاعر الكبير محمود درويشبمناسبة زيارتهللقاهرة في مطلع التسعينات على ما أتذكر.

بدأ تعلُّقي به في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، فما أن قرأت قصيدته "سلَّة ليمون" من ديوانه الأول "مدينة بلا قلب" حتى دُرت في القاهرة أبحث عن الديوان،ومن مكتبة لأخرى أسأل عنه حتى وصلت إلى أخبار اليوم لأجد نسخة منه وحيدة، ليرافقني في أتوبيسات هيئة النقل العام، وعلى شاطئ النيل، وفي المتنزهات العامة في أيام الإجازة الأسبوعية، وفي قريتي النائية على شاطئ الرياح البحيري، حتى حفظت قصائده، وتتيمت بلونه الشعري المميز، ثم ما لبثت أن صرت من "مجاذيبه"، أدور في فلكه، وأبحر في بحاره، وأتجول في حدائقه، فانتقلت من مدينته إلى "مرثية العمر الجميل"، ومنها إلى "كائنات مملكة الليل"، و"أشجار الأسمنت"، و"لم يبق لي إلا الاعتراف"، وأعترف أنني أحببت شعره أكثر فأكثر.

وكان أن استمعت إليه، لأول مرة، في إحدى الندوات الشعرية في مطلع التسعينات في "أتيليه" القاهرة فزادني إلقاؤه للشعر، حباً في شِعره، وفي الشِعر وفيه.كان إلقاؤه المميز للشعر يفتح آفاقاً حسِّية وشاعرية تزيد الشِعر ألقاً وتوهجاً وطربا. كنت منبهراًبإلقائه الساحر، ونبرات صوته الأخاذة المميزة، وإيقاع الكلمات والحروف وهي تنساب من مخارجها متلألئة متوهجة، وإحساسه العالي بكلماته وإعطائها حقها من التعبير والبيان.

لم أدرك أن من البيان لسحرا إلَّا عندما استمعت إليه وهو يلقي الشعرفي هذه الندوة في مطلع التسعينات على ما أتذكر.ولم، ولن أنس عندما كان يلقي قصيدته "عامي السادس عشر"حتى إذا وصلإلى قوله:

"وليالي عامي السادس عشر

كان حُلمي أن أظلّ اللّيل ساهر

جنب قنينة خمرٍ

تاركاً شعري مهدول الخصل"

توقف، ومسح على رأسه التي رحل عنها الشَعر، من الأمام إلى الخلف مبتسماً، وكان حاسر الرأس، وقال: "عندما كان" فضجَّت القاعة بالضحك.

كان نجماً في سماء الشِعر، وفي سمائي، في وقتٍ كان الشعر طعامي وشرابي، وكان من الصعب أن أصعد إلى النجوم، وأن أدنو منها، حتى قابلته في المجلس الأعلى للثقافة في حفلة للشاعر الكبير محمود درويش، فانتهزت الفرصة، وتشجعت واقتربت منه وسلَّمت عليه، فحياني مبتسماً وهو جالس على الكرسي، وكان ما كان مما قلته في البداية.

انشغلت بدراساتي، والدكتوراه والبعثة والسفر، والأبحاث، ثم شاء لي القدر أن أحضر ندوة من ندوته الشهرية في بيت الشِعر العربي في بيت الست وسيلة الأثري، منذ عامين تقريباً. صادفته عند مدخل البيت الأثري وهو يمشي الهوينى متكئاً على عصاه، فرحبت به مبتسماً، وأنا أردد ما قلته على مسامعه منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، في المجلس الأعلى للثقافة، من أنه لا يزال شاعري المفضل، وأنني كنت أحفظ ديوانه "مدينة بلا قلب" عن ظهر قلب، وعرَّفته بنفسي فشكرني كثيراً، ومددت ساعدي ليستند عليه بيده اليسرى حتى عبرنا الردهة إلى القاعة وأخذ مجلسه هادئاً، وأنا أتابعه وهو جالس في مواجهتي من حين لآخر، وأتذكر تلك الأيام البعيدة والذكريات المنقوشة على جدار الذاكرة، يوم أن كنت صغيراً متيَّماً بشعره، وها قد مر العمر وتجاوزت عامي السادس عشر بكثير، كما تجاوزه شاعري بعقود تتعدى أصابع اليد الواحدة ويزيد، وبدت عليه علامات الكِبر، حتى إذا حان وقت الشعر، فكأنما لم يمرَ الزمان عليه، وكأنما دبَّت الفتوة فيه وعاد الشباب ينبض في عروقه وصوته، فذكَّرني بأول مرة استمعت إليه وهو يلقي شعراً في أتيليه القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

عن الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي، فارس الشعر والكلمة أتحدث. متعه الله بالصحة والعافية وتمام الشفاء ودوام العطاء.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً