في يوم من أيام صيف يوليو 2008 قابلتها للمرة الأولي، كانت مقابلة مرتبة وأنا في تغريبة خارج البلاد وعندما عدت كان من حسن الحظ أن مقهى اتينيوس الشهير برمل الأسكندرية هو مكان أول لقاء، بدأ اللقاء بما يكسر جليد أول تعارف، ثم تصفحت أعمال للنشر في دار نشر أديرها وقلت ملاحظاتي وخططنا للنشر، وخلال الحديث كانت صراحة محدثتي تؤكد لي حدسي أنني أمام ثائرة لا تترجل عند النزال ، مر اللقاء وسافرت بين أربع اتجاهات، ولم ينقطع التواصل عبر وإن تباعدت اللقاءات، وفي أجازة بعد سنوات تكرر اللقاء في كوفي شوب فندق فلسطين بالإسكندرية، ثم غادرت البلاد على عجل في مهمة عمل خاصة، وعلى بعد آلاف الكيلومترات للغرب من الأسكندية وفي صالة تحرير لوكالة أنباء مغاربية شاهدت ما صدق على حدسي، كان ما شاهدته هو فيديو الإفطار السياسي الذي نظمته رحاب السمنودي وهي نفسها قد تكون لا تعلم حتى الآن إن هذا الإفطار الذي أذاعته قناة إخبارية شهيرة كان بمثابة دلالة عميقة جاءت من الدلتا والتقطتها عواصم بأن زمن مبارك على وشك الرحيل .
مثقفة عضوية لديها القدرة على التنظيم تختلط برغبة في العطاء
رجعت لمصر وتابعت عن بعد نشاط رحاب السمنودي ضمن الحراك العام في ذلك الوقت، الحقيقة أني عرفت متأخرا أنني وإن صدق حدسي في رحاب السمنودي بعد أول لقاء، إلا أنني لم أدرك أن محدثتي، هي مثقفة عضوية من النوع الذي تفتقده مصر، مثقفة عضوية بمعنى أنها لا تكتفي بالكتابة أو الحضور في فعاليات الحراك أو حتى المشاركة في العمل العام، بل لديها القدرة على التنظيم تختلط برغبة في العطاء حتى وإن اقترن العطاء بالمخاطرة، وهو ما حدث عندما فتحت بيتها للجمعية الوطنية للتغيير التي كان على رأسها الدكتور محمد البرادعي، وهى الجمعية التي أطلقت جهدا سياسيا منظما لم تعرفه مصر من قبل، وتوج في نهاية المطاف بالإطاحة بنظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك .
المسافة بين سقوط مبارك وكربلائية الرئيس الراحل محمد مرسي
وبين المسافة التي استضافت فيها رحاب السمنودي الدكتور محمد البرادعي في بيتها وبين سقوط مبارك ثم كربلائية الرئيس الراحل محمد مرسي، لم تتوقف رحاب عن الحراك، تولت أمانة حزب سياسي في الشرقية، وشاركت ونظمت فعاليات في الشارع مع شباب حزبها، وكتبت وصرحت ونشرت وملئت الدنيا حراكا، ورسخت رحاب نموذج المثقف العضوي الذي ينخرط في مجتمعه ولا يتعالى عليه، وأثبتت إلى حد كبير أن الحراك عندما تكون على رأسه امرأة يثمر أكثر بكثير من الحراك الذي يقوده الرجال، ولعل خيبة أملنا طوال عقود في كل حراك قاده الرجال يؤمن على كلامي الذي تباعد وانقطع مع رحاب السمنودي بعد ذلك لسنوات رحلت فيها في أكثر من تغريبة.
عدت لمقعدي في مقهي اتينيوس الذي غادرته من 15 عاما
وفي اللقاء الأخير مع رحاب السمنودي كان الحديث هذه المرة مختلفا، لم يكن مثل لقاء مقهي اتينيوس، كان لقاء تنقصه نسمات كورنيش الأسكندرية التي كانت تختلط في ذلك الزمن بنسمات للحرية كنا ننشد أكثر منها، وبينما كنت أحسب كلماتي بحكمة مصطنعة حتي لا تلحظ محدثتي أن شيئا داخلي قد انكسر، وبعد مقدمات تقليدية سمعت من رحاب رأيها في الوضع الراهن، ولم تخفي أنها غير راضية، اصطنعت هدوء وحكمة زائفين، رشفت الشاي وأنا أسمع من رحاب ما سكت عنه ثائرون زائفون من سنوات، ما سمعته أعادني لمقعدي في مقهى اتينيوس الذي غادرته من 15 عاما، لأوقن مجددا أني أجالس فارسة لا تترجل عند النزال !