حدثني زميلي بالعمل، مستغرباً حال ابنه البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، إذ دخل عليه يسأله، وهو يحمل في يده أحد أشرطة الكاسيت، كان قد عثر عليه في أحد الأدراج بالبيت.
يقول، بابا، ما هذا ؟ فأجابه شريط كاسيت، فسأله الابن، يعني ايه ؟ فأخذ الاب يشرح له حتى أفهمه ، أن تلك الأشياء، كان يستخدمها أغلب الناس في وقت قريب، ولكن الحداثة كانت أسرع من الأيام، فانتبهنا الي سرعة التطور التي لم يكن يتخيلها أحد.
وفي لقاء جمعني بأحد أصدقائي، ذكرت له تلك القصة، فرجعت بنا الذاكرة الي أيام زمان، وحالنا في تلك الأيام، وظل كل منا يحكي شئ، أحدنا يقول، فاكر لبس العيد بتاعنا، كانت بيجامة أو جلبيه جديدة، ويرد الآخر، فاكرين لبس المدرسة كان مريلة، وكانت الشنطة من نفس قماش المريلة، ولما طلعت شكاير الأرز المصنوعة من البلاستيك، عملولنا أهالينا منها شنطة للمدرسة ، يرد الأول ، فاكر كان الاكل بتاعنا عيش و جبن، أو بدنجان أو ملوخية أو خبيزة ، اللحمة كانت في المواسم فقط، حتي أن أحد الاصدقاء علق قائلاً، كان الواحد منا لا يقابل الفرخة في طعامه، إلا إذا كان طرف من طرفي اللقاء مريض، اذا كان الشخص مريض ذبحوا له الفرخة، أو اذا كانت الفرخة مريضة ذبحوها فأكلناها، و قد يظن البعض أن تلك مزحةً، ولكنها والله الحقيقة.
الاستحمام كان في الطشت مرة كل أسبوع، أو في الترعة، الشرب كان من الزير و القلة، وتسوية الأكل علي الكانون، والنوم على الفرن، والغطاء كان الحرام أو الحمل المصنوع من صوف الغنم، وقعدنا نضحك لما افتكرنا أنه كان بيشوك.
لا كنا نعرف حشو الأسنان ولا كان فيه دكاترة، كان اللي يوجعه ضرس يخلعه، اللي يسخن يدعكوا جسمه بمية وملح ويقولوا بناخد له الشمس، اللي دماغه يوجعه يسكوها بالمفتاح والمنديل، واللي ينجرح يحطوا علي الجرح تراب أو يتبول شخص عليه، اللي عينة توجعه يعلقوا له خرزة.
ثم تطرق الحديث الي ذكر الآباء، وهم في الوصف حالهم أقرب الي حال محمد أبو سويلم ورفاقه في فيلم الأرض، والكل فاكر مشهد دياب، وهو يشتاق الي أكل الطعمية لأنها أكل أهل البندر، ولما أكلها قال يا منتم متنعمين يا أهل البندر، فاذا بصاحبي يقول، أه لو عاد أبي ورأي ما نحن فيه من نعم !!!
لو عاد أبي ورأى كم السيارات الموجودة بالقرية وموديلاتها المختلفة والحديثة، وهي التي كان معظم أهلها يمشون بدون أحذية، وكان الميسور منهم يمتلك حمار، وكانت المفاخرة بينهم بشكل بردعة الحمار.
لو عاد أبي ورأى المدارس والوحدات الصحية والعديد من العيادات، بعد الكتاتيب وحلاق الصحة.
لو عاد أبي ورأى الطرق المرصوفة الممهدة، و أعمدة الانارة وكاميرات المراقبة، والمحلات المفتوحة على مدار الأربع وعشرون ساعة، و المكتظة بأنواع البضائع المختلفة، وما لذ وطاب من خضر وفواكه وخلافه، بعد أن كانت القرية كلها تنام بمجرد غروب الشمس.
لو عاد أبي ونظر الي المباني الفارهة والعمارات الشاهقة ، لظن أنه في العاصمة، ولظنها مباني لمصالح حكومية تابعة للدولة، فما كان لمثل الأشخاص من يمتلك مثل تلك الأبنية، حيث كانت البيوت من الطوب اللبن والطين ومسقوفة بالخشب أو البوص والحطب، و مكونة من دور واحد إلا القليل منها ، الذي اعتلاه حجرة أو حجرتين وهو ما كان يعرف بــ مقعد.
لو عاد أبي ورأى بوابة المنزل الحديدية المزخرفة أو المطلية، التي تفتح بالكهرباء، ورأي جرس البيت المزود بالديكتافون، لجن جنونه وظن أن بها جان ، حيث كانت علي أيامه أبواب البيوت واهيه، و كان اغلبها لا يغلق فغالب الناس كان يكتفي بتربية كلب لحراسة البيت وما به ، ينبح منبهاً لهم إذا ما جاء غريب.
لو عاد أبي ورأى السلالم الرخام، البديلة للسلم الخشبي الذي كان يحمل من مكان إلى مكان، و رأي أرض المنازل الممهدة بأفخر أنواع السيراميك والمفروشة بأفضل السجاد، بعد أن كانت كل المنازل أرضها تراب يملأه البراغيث والبق، يفترش في القليل منها بحصيرة من الخوص .
لو عاد أبي ورأي التكيفات والمراوح في كل حجرة، بعد أن كان الجميع يقضي الظهيرة تحت ظل الأشجار.
لو عاد أبي ورأي كم الأنوار الموجودة بالمنزل، بعد أن كان يعيش الجميع في اللمبة الجاز نمرة 5 ونمرة 10 وكانت الناس بتلف علي البيت اللي عنده كبريت او لمبة مولعة، عشان تشعل من اللمبة قبل دخول الليل.
لو عاد أبي ورأي شاشات التلفزيون، في حجرات المنزل بعد أن كان أهل القرية يجتمعون حول راديو واحد، عند عمدة القرية، أو البعض من وجهائها.
لو عاد أبي ورأى أفراد الاسرة، صغيرها قبل كبيرها، وفي يد كل منهم هاتف محمول، يستخدمه في الاتصال بالآخرين ، صوت وصورة في أي وقت وفي أي مكان، ويشاهد عليه ما يرغب مما يستدعيه من أفلام أو أغاني، أو غير ذلك بعد أن كان لا وجود لأي تليفون سوي تليفون العمدة أبو منفلة.
لو عاد أبي وجلس يأكل علي موائدنا ورأى ما بها من ما لذ وطاب من الطعام ( العصائر ، والمياه الباردة علي الأقل المفلترة، السلطات والمخللات، أنواع الطعام المختلفة علي الأقل نوعين، لحوم أو أسماك ، أو أطعمة جاهزة مطلوبة دليفري، ثم أنواع الحلو والشاي أحمر و أخضر وبالنعناع والقهوة العادية والخضرا والنسكافيه واسبرسو ... ألخ ) لظن أن هناك مناسبة وقد دعي لها الوجهاء، حيث لم يري في عمره أكله مثل العادي لدين، ولا حتى في الأعياد أو الافراح، ولا حتي يوم جوازه.
لو عاد أبي ودخل الحمام ، ورأى المياه الساخنة والباردة والبانيو وكم المنظفات والشامبوهات، وهي التي لم تكن في زمانهم حتى في قصور الملوك، أو حتى وردت في خاطر أو حتى في حلم أحد
لو عاد أبي ورأى في بيتنا سيارة أو اثنين، وموتوسيكل في معظم بيوت القرية، وهو الذي ربما لم يشاهد السيارة الا في البندر إذا كان قد حظي بالذهاب اليه، وربما مات قبل أن يري الدراجة العادية.
لو رأى أبي كم الكافيات وصالات الافراح الموجودة بالقرية وكم الناس المستمتعة بها واحتفالاتنا علي الفاضي والمليان
لو عاد أبي وعلم قيمة ايجار فساتين الافراح وتكلفة الكوافير، لسقط مغشيا عليه .