اعلان

محمد مختار يكتب : مذكرات صحفي تحت التمرين ( 3 )

هشام فؤاد
هشام فؤاد

كان اجتماع التحرير الأول الذي أحضره لقسم الأخبار، وقرر الاستاذ والصحفي الكبير ، طلعت إسماعيل، أن يلحقني بالعمل بقسم الأخبار، وكانت وجهة نظره، وهى صحيحة مائة بالمائة، أن قسم الأخبار هو الذي يساعد على تكوين الصحفي في بدايته، خاصة إذا كان صحفيا على عتبة العمل الصحفي وشابا صغير ليس لديه ما يمنعه أدبيا على الأقل، من أن ( يطرق أبواب ) المصادر يعرفها بنفسها ويبني معهم الثقة، وكانت من القواعد المعمول بها في صحف هذه الفترة أن من يلتحق متدربا بالصحف لا يحصل على أى بطاقة صحفية تؤكد انتسابه للصحيفة قبل مرور شهور من عمله وإثبات جدارته، وكانت مشكلة بالنسبة لي كشاب خجول مطلوب مني أن أطرق أبواب المصادر، وكان الحل السحري الذي أهداني إياه الأستاذ عادل السنهوري رئيس قسم الأخبار هو أن أسند لي تغطية النقابات المهنية، وشرح لي أن هذا القطاع غير رسمي لم يطلب بطاقة صحفية أو حتى جواب اعتماد ليمدني بالأخبار، والحقيقة هو أن بداية عملي كمحرر نقابات فتح لي بابا سحريا للحصول على الأخبار كما سيتضح لي فيما بعد .

طرق الأبواب للحصول على الأخبار وبناء الثقة مع المصادر

كانت فكرة ( طرق الأبواب ) هي الوسيلة الوحيدة في هذا الوقت من أجل الحصول على مصادر صحفية، لم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت، ولا مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات التي تساعد على التواصل بين الصحفيين والمصادر، ولم يكن متاحا إلا الهاتف الثابت، فكان على الصحفي في هذا الوقت أن يجمع أرقام هواتف مصادره الثابتة في مكاتبهم ، أو في منازلهم إذا نجح الصحفي بعد ذلك في بناء حبل من الثقة المتين مع المصدر، وفي ظروف جريدة مصر الفتاة التي كانت تفتقد كل إمكانيات صالات التحرير ولم يكن لها من اسم ( صالة التحرير ) أى نصيب، كان علينا أن نستعين بهواتف أكشاك السجائر، لأن حتى بطاقات الاتصال المدفوعة التي كانت متاحة للاتصال من بعض الكبائن لم تكن متوفرة في كل الأوقات، لأننا ببساطة في هذا الوقت لم يكن لدينا رفاهية شراء بطاقة اتصال بأى مبلغ مجمع، ولم يكن حزب مصر الفتاة يصرف للمحررين فيه، بمن فيهم المعينين في الصحيفة الذين ينتظرون عضوية نقابة الصحفيين، وهى عضوية لن تتحقق أبدا لهم من خلال حزب مصر الفتاة كما سنرى في الصفحات القادمة .

مصر الفتاة وتاريخ عريق من التناقض الفكري والتخبط السياسي

كنت في التاسعة عشر من عمري تقريبا، وكنت خجولا، ووجدت في اجتماع التحرير الأول لقسم الأخبار مجموعة لن تمثل خليطا غير متجانس في حقيقة الأمر، وكنت في هذا الوقت المبكر اسأل نفسي، كيف يمكن في حزب مثل حزب مصر الفتاة أن يتجمع مثل هذا الطيف الذي يفتقد لأي تجانس سياسي أو حتى اجتماعي من الصحفيين ، وهو حزب نشأ من فكرة فاشستية بالأساس ثم تأرجح بين الاشتراكية والإسلام ولم يجد مؤسسه أحمد حسين حرجا من أن يراسل هتلر ويضع نفسه وحزبه في دائرة شبهة التخابر مع ألمانيا النازية .

ظهر اسم مصر الفتاة عام 1929 لأول مرة، ثم بدأت تتكون ملامح تلك الجمعية الوطنية إبان «مشروع القرش»، وفي جمادى الآخرة 1352 هـ / أكتوبر 1933م تشكلت جمعية «مصر الفتاة»، وأعلنت رسميا تحت رئاسة «أحمد حسين»، واتخذت من جريدة «الصرخة» لسانا لها، وكانت جمعية ذات أهداف وطنية قد تصل إلى حد الحماسة المفرطة، ولعل ذلك يرجع إلى حالة الاحتلال التي كانت تعيشها مصر، فكان من مبادئها أن على كل مصري أن يؤمن بأن مصر فوق الجميع، وأن يشعل القومية المصرية، وأن تصبح الكلمة المصرية هي العليا وما عداها لغوا، وكان من متطلباتها: «لا تتحدث إلا بالعربية»، و«لا تشتر إلا من مصري»، و«لا تلبس إلا ما صنع في مصر»، و«احتقر كل ما هو أجنبي، وتعصب لقوميتك إلى حد الجنون».

كان أحمد حسين يجمع بين الحماس الثوري والفكر المنظم. ففي الجامعة، قاد حركة وطنية واسعة، وأطلق 'مشروع القرش' الذي كان يهدف إلى بناء صناعة وطنية قوية، مستخدمًا في ذلك أساليب تنظيمية مبتكرة في هذه الفترة ، في خضم الصراع المحتدم حول الهوية الوطنية المصرية، تبنى أحمد حسين وفتحي رضوان 'مشروع القرش' كرمز للمقاومة الثقافية. فقد كان الطربوش، في تلك الفترة، أكثر من مجرد غطاء للرأس، بل كان تجسيدًا للهوية المصرية الأصيلة في مواجهة المد الغربي المتزايد.

وفي هذه الفترة استغل اسماعيل رئيس الوزراء صدقي باشا مشروع القرش كأداة في صراعه السياسي مع حزب الوفد، راجيًا كسب تأييد الشعب وتحويل اهتمام الشباب عن القضايا الوطنية الكبرى، مثل الاستقلال.

كما شارك الشاعر أحمد شوقي في دعم المشروع بأشعاره، وكان مما قاله:

علم الآباء واهتف قائلا

أيها الشعب تعاون واقتصد

إجمع القرش إلى القرش يكن

لك من جمعهما مال لبد

أطلب القطن وزاول غيره

واتخذ سوقا إذا السوق كسد

لم يكن مشروع القرش مجرد مبادرة طلابية، بل تحول إلى حركة وطنية شاملة، حيث شارك فيه آلاف المصريين من مختلف الطبقات. وبفضل التبرعات السخية والحماس الشعبي، تمكن المشروع ، حوالي 13 الف جنيه وهو مبلغ ضخم في هذا الوقت ، سمح بإنشاء مصنع حديث للطرابيش في العباسية، ليصبح هذا المصنع رمزًا للاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات. في أواخر 1933 بدأ الطربوش المصري يطرح في الأسواق، غير أن بعض الوفديين قاموا بمظاهرات تنادي بسقوط أحمد حسين، وتقول: «يسقط حرامي القرش»، واتهموه باختلاس أموال المشروع، وكانت حملة تشهير قاسية ضده تغذيها روح السياسة، فاضطرته إلى الاستقالة من سكرتارية جمعية القرش.

ازدواجية في الرؤية وتخبط بين المسار الاشتراكي والإسلامي

شهدت الساحة السياسية المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي صراعًا حادًا بين حزب الوفد وحزب مصر الفتاة، حيث سعى كل حزب إلى كسب تأييد الشباب، مما أدى إلى مواجهات عنيفة واعتقالات واسعة النطاق. وفي نطاق تخبطه السياسي تخلى أحمد حسين عن أفكاره القومية ، وفي تحول مفاجئ، تبنى حزب مصر الفتاة خطابًا دينيًا متشددًا، داعيًا إلى إحياء الخلافة الإسلامية على يد الملك فاروق، وحمل الحضارة الغربية مسؤولية تدهور المجتمع المصري، متخليًا بذلك عن خطابه القومي السابق، و في عام 1940، تحول حزب مصر الفتاة إلى حزب وطني قومي إسلامي، وذلك في سياق المنافسة الشديدة مع جماعة الإخوان المسلمين، وبروز القضية الفلسطينية. وقد دفع هذا التحول أحمد حسين إلى تبني خطاب ديني قومي يجمع بين الدعوة إلى الوحدة العربية والتمسك بالهوية المصرية، سعياً لكسب تأييد أكبر للشباب.

ثم أظهر برنامج حزب مصر الفتاة لعام 1948 ازدواجية في الرؤية، فبينما تبنى بعض الأفكار الاشتراكية التي كانت سائدة في الحركة الوطنية، إلا أنه بقي متمسكًا بروح محافظة، حيث أبقى على شعارات تقليدية كـ'الملكية الدستورية' ولم يتطرق إلى قضية الصراع الطبقي. ثم شهد حزب مصر الفتاة تحولًا جذريًا في مرجعيته الرمزية، حيث تخلى عن شعار 'الله.. الوطن.. الملك' وتبنى شعار 'الله.. الشعب'، مما يعكس رغبته في الانفصال عن النظام الملكي والتحول نحو نظام أكثر ديمقراطية.

كانت صحيفته «الاشتراكية» توزع ما يقرب من 80 إلى 100 ألف نسخة ، ورغم أن صحيفة الحزب انتشرت في أماكن كثيرة في مصر فإن الحزب لم يستطع أن ينشئ قواعد ثورية له، فارتكز نشاط الحزب في الأساس على الإثارة السياسية أكثر من الإعداد المنظم للعمل الثوري، ويرى المؤرخ طارق البشري أن أحمد حسين كان يتأثر بالشعور الشعبي العام؛ بل إنه في بعض استجاباته كان يخضع للجماهير. في 24 يناير 1952 عقد مؤتمرا صحفيا أعلن فيه أنه قرر الانسحاب من الحياة العامة، متوقعا تردي البلاد في الكوارث، وكان ذلك قبل حريق القاهرة بيومين، وقد وجه له البعض أنه يقف هو وحزبه وراء حريق القاهرة الشهير، وقدم إلى المحاكمة، وطالبت الحكومة بإعدامه، وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.

أُفرج عن أحمد حسين بعد قيام حركة يوليو 1952م، وإسقاط النظام الملكي، وعاد لنشاطه، لكن حلّ الأحزاب شمل حزبه في 1373 هـ / 1953م، ثم ما لبث أن تعرض للسجن والتعذيب الوحشي في السجن الحربي إبان «أزمة مارس» الشهيرة عام 1954م، والتي دار خلالها صراع على السلطة بين الرئيس محمد نجيب وجمال عبد الناصر الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء، وذلك بسبب برقية أرسلها إلى الطرفين قال فيها: «إن مصر ليست ضيعة أو عزبة تتداولونها».

عندما أفرج عنه انتقل أحمد حسين إلى منفاه الاختياري في سوريا، ثم لبنان، ثم لندن، ثم السودان، ولم يكف خلال هذا التجوال عن إرسال البرقيات إلى الرئيس جمال عبد الناصر-الذي كان عضوا سابقا في حزب مصر الفتاة- يطالبه فيها بالديمقراطية، ويحذره من الاستبداد والديكتاتورية، في عام 1376 هـ / 1956م طلب أحمد حسين العودة إلى مصر على أن يعتزل العمل السياسي، واستجيب لطلبه، فعمل بالمحاماة فترة، ثم اعتزلها عام 1380 هـ / 1960م، ثم توفي أحمد حسين في 17 ذو الحجة 1403هـ الموافق 26 سبتمبر 1982 في عصر مبارك ، وكنت وقتها طفلا في المدرسة الإبتدائية لكن ظني أنه مات ولم يشعر به أحد

هشام فؤاد عبد الحليم قديس اليسار أشرف من التقيت بهم في حياتي الصحفيين

كان السرد التاريخي السابق عن حزب مصر الفتاة ضروريا لنفهم التناقض الكبير الذي عبرت عنه صحيفة مصر الفتاة، الحقيقة كان تناقضا في كل شئ، فالصفحة الأولى للصحيفة تحمل على اليمين وبين تكوين لافتة الصحيفة صورة أحمد حسين، وعلى اليسار صورة جمال عبد الناصر، والأخير هو الذي سجن أحمد حسين وطارده في سوريا ولبنان ولم يسمح له أبدا بالعمل السياسي ولا حتى بالعمل العام أو الكتابة في الصحف، أما كوادر الحزب أو قيادته فكانوا خليطا مضحكا في الحقيقة، رئيس الحزب يملك مصنع غير مجهول لصناعة الرنجة، وبعض السماسرة والتجار، وطيف واسع من طريدي حزب العمل الناصريين الذين تركوا حزب العمل بعد خسارتهم معركة سياسية مع الوافدين الجدد على الحزب بعد أن قرر عادل حسين، الأمين العام للحزب وشقيق أحمد حسين نفسه مؤسس مصر الفتاة، أن يسير على درب أخيه فتحول بحزب العمل من الاشتراكية لتبني الأفكار السياسية، وطاوعه في ذلك الراحل ابراهيم شكري ثعلب السياسة المصرية العجوز الذي كان يحظي باحترام كبير طوال عصر الرئيس الراحل حسني مبارك لأسباب مختلفة، أما أمين الشباب في حزب مصر الفتاة فهو شخص طيب القلب وإن كان لا يخفي، بل يجاهر، بأنه يتعاون مع ( أمن الدولة ) وهو اسم جهاز الأمن السياسي في عهد مبارك ، أما صفحات الرأى في الصحيفة فهي خليط بين المحتوى القومي وبين محتوي إسلامي لكن مع ذلك فقد كان المحتوي الخبري والأشكال الصحفية التي تنشرها الصحيفة هو المحتوي المتجانس الوحيد في الحزب وفي الصحيفة، على الرغم من أن الصحفيين العاملين في تحريرها كانوا خليطا بين ناصريين وبعد القادمين من الجماعة الإسلامية وماركسي وحيد هو قديس اليسار والمناضل الذي لا يتوقف عن نشر الأمل، الصحفي الكبير، الأستاذ هشام فؤاد عبد الحليم، الذي التقيت به لأول مرة في اجتماع التحرير وهو أشرف من التقيت بهم في حياتي الصحفيين المصريين الذين لا يترددون في تبني مواقف سياسية واضحة بصرف النظر عن الثمن الذي سوف يقدمونه لقاء هذا الموقف، وليس هذا غريبا عليه فهو من عائلة لها تاريخ وطني وسياسي مشرف، والده هو المناضل الكبير فؤاد عبد الحليم الذي سجن لمدة 10 سنوات كاملة لكفاحه ضد الاستبداد والظلم ومطالبته بحقوق الفقراء والعمال والفلاحين، وعمه الشاعر والأديب والروائي والمحامي الكبير كمال عبد الحليم، من أبرز القادة التاريخيين لمنظمة حدتو في مصر التي شاركت في التحضير لثورة 23 يوليو 1952 وفي تنفيذها.

اعتقل عمه لفترة من الزمن ولكنه لم ينقطع نضاله ولا كفاحه الوطني، وعمه الثاني هو الصحفي الكبير إبراهيم عبد الحليم رئيس تحرير دار الهلال الأسبق، وكان من المدهش أن يظهر بين هؤلاء شخصا هو أطيب من قابلت في الوسط الصحفي وهو ابن لتاجر ثري من تجار الفاكهة وكان مندوبا لمصر الفتاة في وزارة الداخلية .

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً