وسط صراع داخل بلاط صاحبة الجلالة على قضايا قد تشمل سقف الحريات أو الأجور المتدنية ، وحتى أزمة المؤجل تعيننهم منذ سنوات طويلة في كل المؤسسات الصحفية الحكومية، تظل قضية باعة الصحف هي القضية المنسية داخل المجتمع الصحفي، وشئنا أم ابينا فإن هذا المجتمع الصحفي لم يكن لينشأ ويتطور لولا ما قدمه باعة الصحف الذين عملوا كحلقة أخيرة بين المؤسسات الصحفية وبين القارئ العادي، كلنا نذكر أغنية 'أخبار أهرام جمهورية' بأداء نعيمة عاكف وسناء مظهر وماجدة، و بالنسبة لمعظم من التحق بالعمل الصحفي فقد كان صوت بائع الصحف الذي ينادي على الصحف التي يحملها هو مثل موعد يومي للحصول على الصحيفة المفضلة، وكان بعضنا يلجأ لحيلة استئجار الصحف والمجلات، بأن يشتري صحيفة أو مجلة ويدفع قرش أو قروش للبائع لاستبدالها بصحيفة أخرى أو مجلة أخرى، كانت هذه القروش هى وقود العمل الصحفي.
طفرة في توزيع الصحف الحزبية والمستقلة
وتميزت الصحف الورقية المصرية في وقت من الأوقات بأن صاحبة التوزيع الذي يعد بالملايين، مثل أهرام الجمعة أو صحيفة أخبار اليوم يوم السبت، وفي طفرة من طفرات الصحف المستقلة والحزبية حققت بعض الصحف أرقام توزيع بمئات الالاف، نذكر صحيفة الشعب التي كان بعض الباعة يبيعونها بأكثر من الثمن المدون عليها، وصحف أخرى لم يكن القائمون على إدارات التوزيع فيها يقبلون أبدا طبع أقل من عشرات الالاف من النسخ حتي يستطيعون تلبية الحد الأدنى من طلبات متعهدي التوزيع ونقاط البيع، وكان مع هؤلاء المتعهدين آلاف الباعة الجائلين الذين يقطعون الشوارع ويدخلون للمقاهي سيرا على الأقدام ليبيعوا الصحف من أجل كسب لقمة العيش ، كان بعض النساء والصبية وحتي الشباب يأخذون من المتعهد مئات النسخ فقط من صحف متنوعة ليبيعوها أحيانا بثمنها وأحيانا بما يزيد قليلا عن الثمن المدون عليها مستغلين تعاطف بعض زبائن المقاهي أو شغف بعضهم بشراء الصحف يوميا بما يشبه الإدمان، ولكن في لم يكن هؤلاء الباعة يمارسون حقهم فقط في كسب لقم العيش، بل كانوا هم أدوات نشر المعرفة والثقافة بما يحملوه من صحف متنوعة المشارب والاتجاهات السياسية، وحقيقة الأمر أن هؤلاء الباعة البسطاء كانوا العناصر الأكثر تأثيرا في نقل الحراك السياسي والاجتماعي إلى الشارع مباشرة من مكاتب ومقار الأحزاب التي لا يدخلها إلا عدد محدود من الناشطين المعزولين بحكم استعلاءهم الغريب عن رجل الشارع.
وقف جميع الإصدارات المسائية للصحف القومية
لقد بدأت الأحساس بأزمة باعة الصحف في عام 2021 عندما أصدرت الهيئة الوطنية للصحافة قرارًا بوقف جميع الإصدارات المسائية للصحف القومية الثلاث “الأهرام المسائي – الأخبار المسائي – المساء”، وبهذا القرار فقط الباعة ما يصفونه في تعبيراتهم الشفهية ( البضاعة ) التي يبيعونها، وكانت الصحف المسائية هى البضاعة التي يحملها باعة الصحف ومن بينهم فئة فرعية هم الباعة الذين لهم وظائف في الصباح كعمال مصانع أو شركات، وفي فترة الظهيرة يعملون مع متعهدين يعطونهم مئات النسخ من الصحف المسائية التي يطوفون بها على المقاهي لبيعها والتكسب من ثمنها ما يساعدهم على الحياة، وفي نفس الوقت ينقلون للشارع أهم الأخبار التي حدثت في مصر والعالم منذ الصباح لأن الصحف الصباحية كانت بحكم ظروف الطباعة لا تنقل إلا أحداث الأمس.
بيع الكتب في الميادين ثم كسدت الكتب
ومع انتشار الإنترنت أصبحت بوابات الصحف الإلكترونية متاحة على أجهزة الحواسب للجيل الجديد من الشباب الذين كانت ظروف أسرهم تتيح لهم شراء الحواسب ودفع اشتراك الإنترنت وهؤلاء كانوا أول من أقلعوا عن شراء الصحف تدريجيا، ثم ظهرت الهواتف الذكية وما حدث للصحف المسائية تكرر مع على الإصدارات الصباحية من كل الصحف، وأصابت نفس اللعنة المجلات الأسبوعية، وتكاد تكون المجلات الشهرية قد اختفت، وأصبح كل شخص يمتلك هاتف ذكي قادرا على تلقي الأخبار فور حدوثها على هاتفه، ولم يعد هناك سبب يدفع القارئ العادي لشراء صحيفة ورقية، ومع تآكل ما تبقي من الجيل الانتقالي المرتبط بالصحيفة الورقية تحولت أكشاك الصحف لأكشاك لبيع السجائر والمرتبات، وحتى ما يعرف (بفرشات ) بيع الكتب في الميادين، تحولت بشكل أكبر لبيع الكتب وعندما كسدت الكتب تحولت لبيع بضائع مختلفة، لكن بقى باعة الصحف الجائلون الذين اصبحوا بلا عمل وبلا دخل وتحولوا إلى أيتام الصحافة الورقية بامتياز !