مذكرات صحفي تحت التمرين ( 5 ) الراحل الكبير عبد العظيم مناف

عبد العظيم مناف
عبد العظيم مناف

كان آخر تدريب لي في صحف مصرية، قبل مغادرتي للعمل في الخارج، هو التدريب في صحيفة صوت العرب تحت رئاسة الصحفي الراحل الكبير عبد العظيم مناف. وقد اضطررت للمغادرة بعد أن أغلقت في وجهي كل أبواب العمل الصحفي في مصر لأسباب معقدة ليس هذا مجال ذكرها. والحق يقال إن الراحل الكبير عبد العظيم مناف كان أشرف وأنبل شخص قابلته خلال فترة تدريبي في الصحافة المصرية، وحتى مغادرتي البلاد عام 2004. لم يكن مناف من تجار الصحافة، حتى مع ظهور إمكانية الربح من الإعلانات عبر الإنترنت ومنصات مثل جوجل وفيسبوك، ظل الرجل متمسكًا بموقفه بأن الصحافة رسالة سامية لا تجارة. واستمر في فتح مقر دار النشر التابعة له في حي جاردن سيتي الراقي، ليقدم للقراء من جميع الأعمار فرصة القراءة مجانًا، دون أي مقابل. بل كانت الدار هي التي تتكفل بتوفير الضيافة، من خلال تقديم الشاي والقهوة، لجميع روادها الذين يأتون للقراءة دون دفع أي رسوم.

أسس الراحل الكبير الأستاذ عبد العظيم مناف دار «الموقف العربى» فى نهاية سبعينيات القرن الماضى وكانت الدار بإصداراتها منبرا فكريا وسياسيا وثقافيا عربيا بامتياز، وحملت لواء المعارضة لارتماء السادات فى أحضان أمريكا وإسرائيل والمضادة للعروبة

كان للراحل موقفًا مثاليًا لا أنساه، ولا أزال أتذكر كيف كان يقف شامخًا في جلبابه الصعيدي بعد انتهاء يوم عمل طويل، وهو يغادر مقر صحيفة صوت العرب. رغم أنه كان يسكن حي جاردن سيتي الراقي، وكان يستقبله في مكتبه كبار الزوار من زعماء ورؤساء، إلا أنه كان يواجه تحديات كبيرة في عمله الصحفي. فقد مُنعت صحيفته "صوت العرب" من الطباعة والتوزيع في مصر بقرار رئاسي من حسني مبارك. وفي الوقت نفسه، كان وزير الإعلام صفوت الشريف يقدم لعبد العظيم مناف عروضًا مغرية، ليس لإرضاء مبارك فحسب، بل لتخفيف حدة انتقاداته للمملكة العربية السعودية. إلا أن مناف، الذي كان يتمتع بمبادئ راسخة، رفض كل هذه العروض وأصر على مواقفه. أمام إصراره على مواقفه، اضطر مناف إلى طباعة صحيفته في لندن، ثم إرسالها إلى مصر عبر البريد الدولي، رغم الصعوبات التي واجهها. في ذلك الوقت، كنت طالبًا في كلية الإعلام، ولم أكن أدرك تمامًا عظمة هذا الرجل وتضحياته. في لقاء جمعني بالدكتور محمود بشر، أمين عام نقابة المهندسين آنذاك، فوجئت به وهو يصف الأستاذ مناف بأنه مجاهد. وكان هذا الأمر مثيرًا للدهشة، خاصة وأن الدكتور بشر كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، بينما كان الأستاذ مناف أحد أبرز قادة التيار الناصري المعارض للإخوان ، ويكفي أن نقول أن عبد العظيم مناف كان فتح الباب لأسماء تتلمذت على يده من بينهم فتحت الباب علي مصراعيه أمام نجوم السبعينيّات والثمانينيّات في الصحافة المصرية، فضلا عن الرواد الكبار الذين كتبوا في الموقف العربي وارتبطوا بها كفتحي رضوان وكامل زهيري ومحمد عودة ورجاء النقاش ومحمود المراغي ونجاح عمر وعبدالله إمام وعلي الراعي ونعمان عاشور ونجيب سرور وفؤاد حداد والفيتوري والطيب صالح ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد المقالح ومظفر النواب ويوسف القعيد وجمال الغيطاني وحسنين كروم وضياء الدين داود وعبد الوهاب الزنتاني وفريد عبد الكريم وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود القاضي ومحمد مهران السيد وأمل دنقل ونديم البطار وعصمت سيف الدولة ومحمد الماغوط وغيرهم وغيرهم كثير, فتحت المجلة أبوابها لجيل السبعينيات الطالع والمصادر في الصحافة الرسمية فاحتضنت كتابات محمد السعيد إدريس ومصطفي بكري وجمال القصاص وحسن طلب وحلمي سالم ورفعت سلام وفاروق بسيوني وأحمد ثابت وضياء رشوان وأحمد عز الدين وعبد الله السناوي ومحمد حماد وعبد الحليم قنديل وحمدين صباحي وأحمد عبد الحفيظ وأحمد الصاوي ومجدي رياض وسيد حسان وسيد زهران وعزازي علي عزازي وغيرهم وغيرهم، وعدد كبير من كوادر مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام، بالإضافة إلى نجوم الثمانينيات مثل عبد الفتاح طلعت وخالد صلاح وعماد الدين حسين وطلعت إسماعيل وأشرف عبد الشافي وحمدي عبد الرحيم وسعيد شعيب وتهاني تركي وناهد السيد وبهاء حبيب وغيرهم كثيرون، كان الرجل يبيع أملاكه ليوفر مرتبات هؤلاء الصحفيين، بدون أن نشعر بأن الرجل يعاني ماليا بعد أن أغلق مبارك كل أبواب الإعلانات والتوزيع عليه، ولم نكن ندرك في شبابنا لقيمة هذا الرجل العظيم.

وفي كل الأحوال فبحكم حداثة سني في هذا الوقت وقلة خبرتي بالحياة لم أكن قادرا على أن أحكم بشكل صحيح على الأمور ولسوء حظي في اللقاء الأخير الذي جمعني مع الراحل الكبير كنت من الغرور، وكنت قد انتهيت لتوي من الدراسة الجامعية، أن اتكلم لهذا الرجل العظيم بثقة وجموح الشباب بأن أرفض توجيهاته للقسم الديسك في الإصدار الجديد من مجلة الموقف العربي بعد أن رشحني الزميل أكرم القصاص، الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير ولمجلس إدارة موقع وجريدة اليوم السابع ، لأكون رئيسا للديسك، وكنت في نفس الوقت من قلة الخبرة في الحياة لأن أعجز عن إدارك ماذا يعني ترشيحي في هذه السن المبكرة لأكون رئيسا للديسك في مجلة لها مكانتها بين الإصدارات المنافسة ليس في مصر فقط، بل وفي خارج مصر مثل مجلة الموقف العربي، كانت المجلة بابا إعلاميا وسياسيا مفتوحا على آخره لهذا التوجه الوطنى والقومى، وعلى سبيل المثال نشرت «صوت العرب» حوارا لخالد جمال عبدالناصر من منفاه الاختيارى فى يوغسلافيا أجراه حمدين صباحى الذي أصبح فيما بعد مرشحا لمنصب رئيس الجمهورية في مصر. وعلى الرغم من أن أكرم القصاص جلس معي قبل حضور الأستاذ مناف ليشرح لي أهمية الفرصة التي يمنحها لي ، ولكن بكل حماقة الشباب قاطعت الاستاذ مناف وهو يتحدث لي عن ضرورة أن اشير للمملكة العربية السعودية بوصف (نجد والحجاز ) بأني غير مقتنع بهذا وأن توجهات التحرير هذه تخالف قناعتي، فكان أن حياني الراحل العظيم على شجاعتي، رحمه الله ، ووسط نظرات خيبة الأمل من أكرم القصاص غادرت مقر مجلة الموقف العربي ومصر كلها بعد ذلك في تغريبة ركبت فيها طائرات طافت بي بين مطارات امتدت من البحرين وحتى المغرب.

وعندما عدت لمصر عرفت أن الراحل العظيم عبد العظيم مناف قد توفى إلى رحاب الله، ووجدت نفسي أشعر بحزن عميق على ما بدر مني تجاه الرجل الذي لم أعرف قدره في حياته، واستعدت كلماته بنبراته الواثقة وهو يتحدث عن العروبة والقومية ويهاجم بلا أى تحفظ من يعتبرهم عملاء العدو الصهيوني وكان الراحل الكبير هو أول من حذر من «تعريب كامب ديفيد» ولعله هو من صك تعبير ( الصهاينة العرب)، وعندما أغلق مبارك، صوت العرب والموقف العربى، أعطى لـ«مناف» الفضل التاريخى فى إبطال أكثر شعارات نظام مبارك مدعاة للسخرية وهو: «لم تغلق فى عهده صحيفة ولم يقصف قلم»، كما أكد للجميع ولنا نحن الذين تتلمذنا عنده وعلى يديه، أننا أمام إنسان صلب، لا يبيع ولا يفرط. والحقيقة أني من كثرة خيبات الأمل التي صادفتني في مواقف بعض من كانوا يقفون في خندق الراحل الكبير، ظننت أني لن استمع لنفس سياق هذا المنطق النضالي بهذه القوة، إلى أن قادتني الظروف لحضور دورة تدريبية في نقابة الصحفيين، واستمعت للزميل مظهر أبو عايد، وهو يتحدث منطلقا من نفس خندق الراحل الكبير عن مواقف تتصل بالمبادئ التي لم يكن يتنازل عنها الراحل الكبير ولا يساوم فيها، ووجدت نفسي وأنا أنظر للزميل مظهر أبو عايد استعيد نبرات صوت الراحل عبد العظيم مناف في ذاكرتي، وعقدت العزم على أن انتهز أول فرصة لأوصد الصداقة مع الزميل مظهر أبو عايد، لعلي أجد في هذه الصداقة الفرصة لأرد للراحل عبد العظيم مناف معروفه بأن أكبر، ولو من بعيد، ممن يسيرون على دربه .

WhatsApp
Telegram