مرت أربعون يوماً على رحيل صديقي وأستاذي الفاضل، الكاتب والمفكر الإسلامي الكبير محمد إبراهيم مبروك، ومرّت بعدها أيام عديدة لم نحصها. وما زلت أواجه صعوبة في تقبل هذا المصاب الجلل ، الرجل الصالح الذي التقاني قبل وفاته بأيام ليطلب مني أن أواظب على الاتصال به يوميًا في مرضه لأنه يعيش وحيدًا ويخشى أن يموت ولا يشعر به أحد. يومها هونت على الرجل بمزحة فهو لم يصل إلى سن الستين، وبيني وبينه سنوات معدودات في فارق العمر، ولكن فارق الفكر والخبرة والتقوى فالراحل الكريم يكبرني بمئات السنوات أو أكثر. كانت سخونة قد ألّبت على الرجل، وكنت أتصل به ولا أعرف كيف لم أنتبه إلى أن الرجل يقترب من الموت وهو يخبرني في كل مكالمة بيني وبينه أنه لا يستطيع النوم أبدًا منذ أيام. قابلته وزرته في شقته البسيطة التي تمثل كل ما يملكه من حطام الدنيا، وأكرمني كعادته يقدم لي اللقيمات التي في منزله اقتسمها معه، ثم غادرت منزله. في اليوم التالي كنت أتصل به فيرد فأطمئن عليه، وظللت على مواظبتي على الاتصال به يوميًا قدر المستطاع، حتى وجدت منه مكالمة فائتة على هاتفي فأعدت الاتصال به فلم يرد، كان هذا يوم الأربعاء، وعرفت يوم السبت أن روحه صعدت إلى بارئها.
حاربوه بعد أن تيقنوا من عبقريته
واظبت على الاتصال بالراحل الكبير يوميًا، وحرصت على أن ألتقيه في المقهى الذي يفرّ إليه من حر شقته، التي عاش يحلم ببيعها ليتزوج بعد أن مرت به السنون ولم يتزوج. ظلمته أسرته فوجد نفسه طريدًا مظلومًا بلا ذنب يتنقل بين مساكن الجيران، وظلمه التيار الذي اقترب منه فحاربوه بعد أن تيقنوا من عبقريته. أخرج للفكر الإسلامي عشرات الكتب، عاش ومات ومدون في بطاقته (بدون عمل)، وهو المفكر الذي قدم للفكر والمكتبة الإسلامية ما عجز أن يقدمه له الآخرون، ولكن لأنه يعيش في مجتمع لا يعطي فرصة الظهور إلا للقادرين على تملق من يملك السلطان، فلم يحصل حتى على وظيفة طوال عمره القصير، وعاش عصاميًا على دخله من كتبه، حرم نفسه من طيبات الحياة ليكون لديه من حصيلة بيع كتبه ما يضمن طباعة كتبه الجديدة، وبعد أن كسدت الكتب ولم يعد أحد قادرًا على شرائها عانى الراحل الكبير في صمت وكبرياء من ضغوط الحياة، ولم يكن في بعض الأحيان يستطيع حتى تدبير ثمن قوته ودوائه إلا بشق الأنفس، بينما أنصاف الموهوبين ينعمون بوظائف ما حصلوا عليها إلا بعد أن تملقوا أصحاب السلطان، ولم يغفر له من تطاول يدهم الوظائف مناظرة الراحل الكريم مع السفير الأمريكي مارتن إنديك، وهي المناظرة التي خرج منها كل من مسلم وهو على يقين بأن الأمة الإسلامية هي صاحبة الكلمة العليا في التاريخ وليس الغرب العنصري المقيت، وكان أن اختار الله له أن يموت في تاريخ لا ينسى، وكأن تاريخ موته رسالة إلى من يهمه الأمر أو يهتم .. مات الراحل الكبير في 11 من سبتمبر 2024 !.
الكشري والجبنة والحلاوة وأطباق الكبدة وأجزاء الدجاج
صعدت روح الراحل المفكر الإسلامي الكبير محمد إبراهيم مبروك إلى بارئها، وأشهد الله عز وجل أني لم أسمع منه كلمة تؤذي إنسانًا. كان متواضعًا كنسمة ربيع تهب على من يلتقيه، وكان بالنسبة لي أخًا كبيرًا، بل كان أكثر من الأخ. يرن الهاتف فأرد عليه أسمع منه كلمات مبتهجة وهو يخبرني أنه صرف شيك التوزيع لكتبه وأنه في الطريق للمقهى الذي نجلس فيه معًا وفي يده أكياس وجبات السمك التي يفضلها على كل أصناف الطعام. وقبل كل عيد أضحى يتصل بي ليؤكد معي موعد اللقاء في العيد ليعزمني على (لحم الرأس) التي يفضلها على ما عداها من لحوم، ونظل باقي العام من عيد الأضحى للعيد الذي يليه ونحن نتقاسم وجبات الكشري والجبنة والحلاوة وأطباق الكبدة وأجزاء الدجاج التي يطبخها على (وابور) نحاسي عتيق يعمل بالجاز لا يزال يستخدمه حتى وفاته، رحمه الله.
أخلاقه تسمو على أخلاقنا وأحلامه تتواضع عن أحلامنا
عاش محمد إبراهيم مبروك بيننا على الأرض وكأنه ضيف كريم من السماء، أخلاقه سامية تتجاوز أخلاقنا، وأحلامه متواضعة مقارنة بأحلامنا. عاش وهو يعلم أنه صاحب رسالة، عاش ليكتب ويكتب ويكتب، كتب في الفكر الإسلامي فكانت قامته شامخة بين أكبر القامات في الفكر، وكتب الشعر فأصبح شاعراً بارزًا في عصره، وكتب عن الإسلام والحب، وكتب سيرته الذاتية في كتابه المظلوم مثل مؤلفه '30 عامًا من التشرد .. ريان يا فجل' فكشف عن كل الوجوه الزائفة التي تتاجر بالسياسة والقضايا. رحل محمد إبراهيم مبروك ولا أزال أتذكر آخر قصة حب عاشها، كان يقترب من مسكن محبوبته فقط ليراها من بعيد، وأنظر إليه وهو يمر فأجد طفلًا يرتعش رعشة من برد الشتاء الشديد، ولكن مع ذلك فكل ما قدمه الراحل الكبير للفكر الإسلامي لم يشفع له في الحصول على وظيفة تؤهله للزواج بمن أحبها، فقد قال لي: 'ليس لدي راتب أنفقه على زوجة فلا داعي للمخاطرة ببنات الناس.
سامحني يا مبروك وأنتظرك لتخبرني ماذا فعل الله بك
رحمك الله يا صديقي وأستاذي، رحمك الله رحمة واسعة، ورحمك بكل ما تعرضت له من ظلم في حياتك ومماتك، ورحمك بكل كلمة كتبتها دفاعًا عن عقيدة الأمة. رحمك الله يا مبروك، وسامحني على قصوري في حقك، أشهد الله أني أكتب هذه الكلمات وأنا أبكي عندما طلب مني شقيقك أن ألقاه لتناول وجبة الكشري من مطعم زيزو كما كنت تفعل معي في حياتك ، سامحني على غيابي عن جنازتك يا أنبل من عرفت في حياتي فقد علمت بوفاتك بعد أن مرت الجنازة ولم أتمكن من حضورها. سامحني يا صديقي وأنتظر أن تخبرني ماذا فعل الله بك، أنت تعرف كيف تقابلني وكيف تخبرني بما حدث معك .. أنتظرك يا صديق العمر لتحكي لي ماذا فعل الله بك . صديقك المخلص، محمد مختار.