في ليلة من صيف عام 2000، وجدت نفسي، بعد تحقيق أمام نيابة أمن الدولة، في سيارة ترحيلات تحملني إلى سجن استقبال طرة. ووجدت نفسي المتهم العاشر في قضية محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم. ورقم عشرة محبب إلى نفسي بطبيعة الحال، فهو رقم صانع الألعاب في مباريات كرة القدم، ولكنني لم أكن صانعًا لشَيء في هذه القضية، وإن كنت قد استفدت من هذا الظرف السياسي والتاريخي بشكل لم أكن أتوقعه أبدًا.
وفي الطريق للسجن، كنت شابًا صغيرًا تخالطني مشاعر الخوف من المجهول. ولكن بعد أن خرجت من هذه التجربة، وبعد أن مرت سنوات عالجت مرارتها في حلقي، وقع في يقيني أن هذه التجربة هي أهم تجربة في حياتي، بل أقول إن هذه التجربة صقلت خبرتي بالحياة بدرجة لم أكن أتوقعها على الإطلاق. وهي تجربة كلما استعدت ذكراها، بعد كل هذه السنوات، كلما تأكد يقيني بأن تجربة السجن هي، في كل الأحوال، ولجميع الناس، تجربة مفيدة، بشرط أن تكون قصيرة وأن يكون من يمر بها على استعداد لأن يتقبلها ببساطة وأن يخرج منها بدروس تفيده في قادم الأيام.
والحقيقة أن تجربة السجن، شأنها شأن المرض والموت، تقع قسرًا وتسيرها الأقدار. وليس لأحد يد في أن يتعرض لهذه التجربة أو يتجنبها. وبالتأكيد، فإن من يخالف القانون عن وعي بما يفعله، فإن في ذهنه أنه يخاطر بأن يعرض نفسه لعقوبة السجن. ولكن صدق المثل المصري الشهير: "يا في السجن مظاليم". وهو مثل قد يكون المصريون قد نحتوه من خبرة تاريخية جعلت مصر هي البلد الوحيد التي يرد ذكر السجن فيها في القرآن الكريم عشرة مرات، كلها في مصر بلا استثناء. وذلك مصداقًا لقول الله تعالى في القرآن الكريم:
1- (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف 25 ) .
2- (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِين) (يوسف 32 ).
3- (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا) ( يوسف 33 ) .
4- (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ) ( يوسف 35 ) .
5- (ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ ...) (يوسف 36 ) .
6- (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف 39 ) .
7- (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ ) (يوسف 41 ) .
8- (فلبث في السجن بضع سنين) (يوسف 42 ) .
9- (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو) (يوسف 100) .
10 - (قال لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنَّك من المسجونين) الشعراء29 ( قالها لنبى الله موسى ).
والحقيقة أني لم انتبه لهذه الفكرة من أن السجن، شأنه شأن الموت، قدر لا يمكن رده، إلا عندما رأيت والدي المسن وهو يتهلل فرحًا كالأطفال بينما يشاهد في النشرة مشهد دخول الرئيس الراحل حسني مبارك إلى سجن طرة من على نفس البوابة التي ذهب إليها ليزورني ومعه تصريح من النيابة مدون فيه اسم المحامي فقط. فرفض السجان أن يدخل أبي، وعندما سأله أبي: "ابني جوه عايز أشوفه، مفيش هنا رحمة؟" رد عليه السجان وهو يسمح بدخول المحامي: "أيوه، مفيش هنا رحمة". والحقيقة أن السجان لم يكذب، فليس من وظيفة من يدير السجن أن يرحم، ولكن مع ذلك فقد تنزلت الرحمات عليَّ من كل اتجاه وأنا أمر بهذه التجربة التي أستأذن من يقرأ كلماتي أن يصدق وصفي لها بين القوسين بأنها كانت (تجربة رائعة).
لكن أبي لم يعلم، وقد لا يعلم أبدًا، أن رحمة ربي نزلت عليَّ في السجن، وأني خلال فترة الحبس الاحتياطي (33 يومًا) ضحكت من قلبي كما لم أضحك وأنا خارج السجن. كانت تضيق نفسي في بعض الحالات، ثم تتنزل الرحمة بموقف يجعلني انفجر ضاحكًا أنا ومن معي في الزنزانة من المتهمين في نفس القضية. ومنها موقف لا أزال أضحك بسببه من قلبي كلما تذكرته، وكلما حكيته لأحد أصدقائي. كان أحد المتهمين الرئيسيين في القضية، بخلاف المتهم الأول الدكتور سعد الدين إبراهيم، موظفًا في وزارة الإعلام، وكان مثل الغريق في البحر الذي يتعلق بالقشة، فكان في التحقيقات يسرد أسماء أي شخص قد يظن أن اتهامه قد يجلب له البراءة والنجاة. وبلغ عدد من أورد أسماءهم أكثر من 40 شخصًا. ولحساسية القضية واهتمام دوائر السياسة بها، داخل وخارج مصر، كان الأمن يتحرك فورًا لاعتقال كل من يرد اسمه على لسان هذا المتهم. ولم يكن جميع من يعترف عليهم من سكان القاهرة. وعندما ذهب أحد زملائنا في الزنزانة للتحقيق، عاد للزنزانة آخر اليوم ومعه رسالة من الضابط الذي اصطحبه من السجن إلى النيابة. وكانت هذه الرسالة، بعد أن أعيد صياغته لتجنب بعض الألفاظ التي لا يليق أن أكتبها، هي: (أخبروا هذا الوغد أن يصمت قليلًا، مش عارفين ننام في بيوتنا. كل يوم مأموريات وتحقيقات، كل ما يجيب سيرة شخص نطلع نجيبه في مأمورية)!
وفي السجن، تم وضع المتهمين في قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم في عنبر التائبين، وهو عنبر مخصص للمتهمين في تنظيمات دينية أعلنوا توبتهم. وكانت هناك نية لإطلاق سراحهم، وبعضهم أطلق سراحه بالفعل بعد الإفراج عنا ببعض الأيام. وخلال 33 يومًا من الحبس الاحتياطي، مرت بي أخطر مغامرة من الممكن أن يخوضها صحفي تحت التمرين، رغماً عنه. قابلت في هذه الفترة عشرات من المتهمين في قضايا تتعلق بالعنف، وبعضهم عائد من مناطق ملتهبة حول العالم. بل قد أكشف سرًا شخصيًا لم أكن أستطع أن أقوله في هذه الأيام، وهو أنه بعد الإفراج عني وبعد أن وجدت نفسي أُحاكم من الخارج وأنا مفرج عني، وكانت هناك بعض القيود على الصحفيين في حضور بعض جلسات المحكمة، كنت، ومن داخل قفص الاتهام، أحفظ في ذاكرتي كل ما أسمعه من سجال، بعضه لم ينشر حتى الآن ولا أظن الظروف تسمح بنشره في الوقت الراهن. وكنت أراسل صحفًا عربية من خلال مكتب وكالة في القاهرة، أنشر فيها انفراديّات عن هذه القضية التي كانت محل اهتمام الصحف حول العالم. ونشرت، كصحفي تحت التمرين في هذه الوكالة، ما تناقلته عني عشرات الصحف العربية. وكان سبب اهتمام وسائل الإعلام بالمحاكمة هو شخصية المتهم الأول فيها، الأستاذ الجامعي الراحل الدكتور سعد الدين إبراهيم.
الحقيقة أني لا أعرف إن كان سيُسعفني العمر لأكتب أو حتى لأحكي ما أعرفه عن قرب عن هذه القضية التي تعتبر بحق هي أهم قضية حقوقية في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك. وكنت في وضع أعرف من خلاله تفاصيل ظننت أنه لا يعرفها عشرات من أكبر وأشهر المحامين الذين دافعوا عن الدكتور سعد الدين إبراهيم دفاعًا يائسًا في هذه القضية، لأنه ببساطة لن يخبرهم بها. وفي لقاء لي مع الدكتور سعد إبراهيم في مكتبه بالجامعة الأمريكية، قبل المحاكمة، حاولت أن أقنعه بمسار مختلف لأني كنت على يقين من مآل المسار الذي اختاره، ولكن كان قضاء الله نافذًا. وعلى الرغم من أن الدكتور سعد الدين إبراهيم حصل بعد سنوات قضائها في السجن على البراءة، وهو الآن في رحاب الله أعدل العادلين، وعلى الرغم من ما بدا من التهافت القانوني للقضية على مستوى الأوراق، إلا أنه كان هناك خارج الأوراق ما يؤكد لي ما أخرجه علي بن حجر في "أحاديثه" (94) عن إسماعيل بن جعفر، واللفظ له. وعفان بن مسلم في "أحاديثه" (89)، وأبو داود في "الزهد" (54) عن موسى بن إسماعيل، كلاهما: عفان وموسى عن حميد عن أنس أن عمر رضي الله عنه قال: "أتي بشاب قد حل عليه القطع، فأمر بقطعه، قال: فجعل يقول: يا ويله، ما سرقت سرقة قط قبلها، فقال عمر: «كذبت ورب عمر، ما أسلم الله عبدا عند أول ذنب».
كان يسمح لنا بالتريض بضع ساعات كل يوم، ما عدا يوم الجمعة. كنت أنتظر فتح باب الزنزانة للخروج للتريض، واستمع من بعض من كان يسمح لهم بالخروج من الزنازين. والحقيقة أن من بينهم من كان يحمل مؤهلات علمية ويجدر به، لولا أنه اختار لنفسه ما أودى به إلى السجن، أن يكون مفكرًا أو كاتبًا مرموقًا. ومنهم من كانت تؤهله الظروف لأن يكون من الأثرياء. أذكر منهم في ذلك الوقت شابًا كان معتقلاً بتهم الاتجار بالسلاح، ولم يكن له أي اهتمام بأي أفكار سوى أنه من أسرة لها باع في تجارة السلاح بشكل مشروع وغير مشروع. وكان من حظه أن باع سلاحًا لعنصر من العناصر المتطرفة، فاعترف عليه بعد أن اعتقلته أجهزة الأمن، فوجد نفسه معتقلاً مع نفس من باع له السلاح.
لكن مع ذلك، فإن هناك شخصين علقا بذاكرتي ولا أنسى أبدًا ما سمعته منهما، وبعضه يمكن أن يكون مفيدًا لو تم تدارسه وإعادة كتابته ليصل إلى الشباب. والمفارقة أن هذين الشخصين لم يكونا متعلمين، وهما: محمد بلاطة وأبو عنتر. والأخير له في عنقي دين. ولكن من هما محمد بلاطة وأبو عنتر؟ ولماذا لا أستطيع أن أنسى أيًا منهما؟ وما هو الدين الذي في عنقي لأبو عنتر؟ إن شاء الله وإن كتب الله لي العمر والقدرة، فسأكتب عن ذلك في قادم الأيام.