خلال السنوات الأولى من التسعينيات، كان معظم من أنهى الدراسة من دفعتنا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة يكافح ليحافظ على وجوده في دائرة ضيقة جدًّا من الإصدارات التي كانت تسمح، في ذلك الوقت، باستقبال صحفيين جدد للعمل فيها أملاً في التعيين. والحقيقة أن نفس هذه المؤسسات، على اختلافها بين صحف حكومية وحزبية، كانت ترحب بنا ونحن طلاب في كلية الإعلام لتستغل حماسنا وتحصل على عصارة جهد شباب يافع مقبل على الحياة بأمل في مقابل مبالغ زهيدة هي مكافآت التدريب التي لم يكن أغلبنا يحصل عليها إلا بعد مرور شهور من العمل المجاني، خاصة وأن طلاب قسم الصحافة مدربون بالفعل على العمل الصحفي بحكم دراستهم أو على الأقل لديهم الإلمام النظري الذي يؤهلهم للحصول على خبرات عملية أسرع من غيرهم.
ولكن بمجرد أن يحصل كل من على مؤهله الجامعي وتظهر لديه نوايا جادة في طلب حقه في التعيين، حتى يختلق القائمون على هذه المؤسسات أعذاراً مثل أن المؤسسة تخسر أو أن هناك أزمة مالية طارئة تستدعي تخفيف أعداد الصحفيين المتدربين أو أي عذر آخر. وفي بعض الحالات، يكون الصحفي المتدرب بين خيارين صعبين: إما أن يظل يعمل لسنوات عديدة من أجمل سنوات شبابه مجاناً أو مقابل مبلغ زهيد حتى يأتي دوره في التعيين الذي قد يتأخر لسنوات، وإما أن يغادر المؤسسة ليبحث عن مصدر رزق يعيش منه بعد أن خرج من فترة الدراسة الجامعية وأصبح ملزماً أمام أسرته بأن ينفق على نفسه على الأقل.
وفي بعض الحالات يكون على مثل هذا الشاب الذي أنهى لتوه دراسته في كلية الإعلام ، أن يساعد أسرته في معيشتها. ومع الأسف، فقد حدث أنه في الوقت الذي كان بعضنا يغادر المؤسسة الصحفية التي تدرب فيها لأنه لم يكن لديه من ينفق عليه طوال سنوات التدريب، كانت معظم هذه المؤسسات تفتح الأبواب الخلفية للتعيين، سواء بشكل فوري أو بعد أقصر وقت ممكن، لأبناء النافذين في السلطة أو للأقارب والأحباب. وعندما رسّخ نظام مبارك فكرة التوريث في كل المؤسسات ليمهد الأرض لتوريث ابنه جمال، أصبح مبدأ "أبناء العاملين" هو السائد في المؤسسات الصحفية الحكومية، التي لم يحدث أبداً أن وضعت قواعد على قدم المساواة للسماح للمؤهلين بالالتحاق بالعمل بها وفقاً لشروط متساوية، فضلاً عن نشر إعلانات عن الشواغر بها. وتدريجياً، اتسع مبدأ "أبناء العاملين" ليشمل أشقاء وأولاد أشقاء العاملين، وهكذا دواليك. والنتيجة ما نراه اليوم من فقر صحفي للمؤسسات الصحفية الحكومية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة مع انتشار الصحافة الإلكترونية.
كان لحسن حظي أنني لم أكن مغترباً في القاهرة، وكنت أسكن مع أسرتي، فلم أجد نفسي في نفس مأزق زملائي الذين كانوا يسكنون المدينة الجامعية بمصاريف مدعومة، ثم وجدوا أنفسهم بطبيعة الحال بدون سكن بعد الانتهاء من دراستهم. لكن في الوقت نفسه، كنت من أسرة بسيطة لا تسمح لها الظروف بأن يكون أحد أبنائها بدون عمل. كانت الصحف الحكومية مغلقة تماماً، وبالرغم من وجود علاقة مصاهرة تجمع أسرتي برئيس تحرير صحيفة حكومية كبيرة، إلا أنني شعرت أن كل الظروف تدفعني للبحث عن عمل في مؤسسة خاصة. وقبل أن أتخذ هذا المسار الإجباري، مررت على صحيفة الأحرار، التي تصدر عن حزب الأحرار الاشتراكيين، وكان الوضع فيها مزرياً بعد الإطاحة برئيس تحريرها الذي بنى مجدها، الأستاذ والراحل الكبير وحيد غازي، الذي شرفت بالعمل معه في تجربته بصحيفة الميدان بعد أن ترك صحيفة الأحرار في مؤامرة تركت ثقوباً سوداء كثيرة على ثوب صاحبة الجلالة يدفع العاملون في صحيفة الأحرار ثمنها حتى وقت إعداد هذا الكتاب للطباعة.
وتكتسب تجربة صحيفة الأحرار أهميتها كمرحلة تاريخية مرت بها الصحافة المصرية وهي مرحلة عودة الصحافة الحزبية بعد فترة طويلة. من الجدير بالذكر أنها جاءت أولاً لتمثل أول تجربة لإصدار جريدة حزبية في هذه الفترة التأسيسية من عمر الصحافة المصرية بعد عودة الأحزاب. ففي الخامس عشر من نوفمبر عام 1977، شهد المشهد السياسي والصحفي المصري حدثًا فارقًا بصدور العدد الأول من جريدة "الأحرار"، التي مثلت الصوت المعارض الأول بعد ثورة يوليو. جاء هذا الإصدار ليعبر عن تطلعات حزب الأحرار الاشتراكيين بقيادة مصطفى كامل مراد، الذي كان هو نفسه أحد ضباط الصف الثاني في حركة الضباط الأحرار. وجاءت فكرة صحيفة الأحرار بناءً على فكرة من رئيس الحزب مصطفى كامل مراد وبين الكاتب الصحفي الراحل جلال الدين الحمامصي وذلك بعد دراسة مستفيضة لإصدار جريدة معارضة أعدها الدكتور صليب بطرس أحد خبراء الإدارة في مصر. ووافق الحمامصي على أن يقوم بالإشراف فقط، مرشحاً الصحفي صلاح قبضايا لرئاسة التحرير. وتضامن مصطفى أمين بل شجع اختيار الراحل الكبير صلاح قبضايا، واختير الصحفي محمد الغلبان مديرًا للتحرير وعلى الفولي رئيسًا لمجلس الإدارة. بدأ الإعداد للأعداد الصفرية للجريدة والعدد الأول بقرض من بنك مصر ومبلغ من شركة التوزيع تحت حساب توزيع العدد الأول. ورشح الغلبان وحيد غازي الصحفي بالجمهورية نائبًا لرئيس التحرير، وقام سعيد إسماعيل سكرتير تحرير الأخبار بتصميم الصفحة الأولى والأخيرة، وصمم الأستاذ على مهيب شعار جريدة الأحرار على شكل الشمس. كما ابتكر أول رسام بالجريدة نبيل صادق شخصية مخلص الوسطاني وأصبح الكاريكاتير بديلاً للصورة في الصفحة الأولى والأخيرة. وتم اختيار المهندس محمود فوزي مديرًا للإعلانات
وكانت أولى حملات الأحرار الصحفية "كارثة القطن"، بسبب فساد المبيدات واستجواب النائب البرلماني محمد عبد الشافي عن هذه الكارثة، التي بلغت خسارتها مليون قنطار قيمتها 112 مليون دولار. ونشر المانشيت في العدد الأول "استجواب ممدوح سالم" (رئيس الوزراء متهم بالإهمال وإخفاء كارثة القطن). وجاء رد جريدة مصر على حملة كارثة القطن بإعلان الحكومة تعويض الفلاحين. وما أن صدر العدد الأول لصحيفة الأحرار حتى توافد المراسلون الأجانب على الاتصال بالجريدة طلبًا لزيارتها والقاء الصحفيين فيها، لتبدأ المواجهة مع الحكومة. فأصدر عبد المنعم الصاوي قرارًا بمنع نشر أي إعلان عن الأحرار في التليفزيون ومنع أي من رموز المعارضة من الظهور في التليفزيون. وعلى الرغم من أن قبضايا حقق نجاحًا لا يمكن أن تخطئه عين في المرحلة التأسيسية لصحيفة الأحرار، إلا أن الانتشار الكبير لصحيفة الأحرار لم يتحقق إلا بعد أن تولى وحيد غازي رئاسة تحرير الصحيفة وكتب روايته "مدام شلاطة" على حلقات، وهي الحلقات التي رفعت توزيع الصحيفة إلى أرقام لم تحققها من قبل، وتحولت صحيفة الأحرار إلى رقم صعب في المجتمع الصحفي. وهو النجاح الذي دفع فاتورته وحيد غازي نفسه، بعد أن أصبحت صحيفة الأحرار محط أنظار الطامعين، فترك الصحيفة التي صنع هو مجدها مرغماً ليحل محله شخص عرف بأنه يجيد فن التآمر بعد أن برع في هذا الفن الخبيث من خلال ما تلقاه من دعم في أقبية أجهزة الأمن.
لقد تركت هذه المؤامرة طعنة غادرة في قلب وحيد غازي، وأذكر حتى بعد مرور كل هذه السنوات آخر لقاء جمعني بالأستاذ الراحل الكبير وحيد غازي في مكتبه بجريدة الميدان، التي أظن أنه تولى رئاسة تحريرها تطوعًا. وأنا أجلس أمامه وحيدًا أنا وهو فقط في اجتماع التحرير في أحد أيام الثلاثاء، كان يقول لي إنه سوف يحرص على عقد اجتماع التحرير حتى لو حضره هو بنفسه وحيدًا. لقد أصبح الأستاذ الكبير، بعد أن ترك الأحرار أو أُجبر على تركها، اسمًا على مسمى، وحيدًا بعد أن انفض عنه كل من تملقوه وهو في قمة مجده الصحفي في صحيفة الأحرار التي تستحق وقفة مستقلة.