كنتُ تقريبًا الوحيد من بين المتهمين في قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، التي اشتهرت إعلاميًا في ذلك الوقت بقضية مركز ابن خلدون. كان المركز يحرص على الحديث باستمرار مع كل الموجودين في عنبر التائبين بسجن استقبال طرة، الذي وجدنا أنفسنا نزلاء فوق العادة فيه. أقول نزلاء فوق العادة لأننا وجدنا أخبارنا تسبقنا لنزلاء السجن من الجهاديين التائبين الذين تم إيداعهم في عنبر التائبين تمهيدًا للإفراج عنهم.
كان التكثيف الإعلامي في النشر عن قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم مقصودًا من جانب نظام مبارك لتشويه الرجل تمامًا وشيطنته. كانت رسائل الشيطنة موجهة للداخل وللخارج في نفس الوقت. كان المقصود قطع الطريق على الدكتور سعد الدين إبراهيم حتى لا يتحول في أي وقت إلى وجه مقبول في الشارع، حتى لو قبولًا مؤقتًا كما فعل بعد ذلك الدكتور محمد البرادعي. وفي نفس الوقت كانت الرسالة الموجهة للخارج، وللمنظمات المانحة التي يحصل من خلالها الدكتور سعد الدين إبراهيم على التمويل والدعم لمشروعاته الحقوقية والبحثية، هي أن رجلهم في مصر غير موثوق فيه وأن ذمته المالية ليست فوق مستوى الشبهات. وكان عنبر التائبين مسموحًا للمعتقلين فيه بإدخال الصحف، وكانت جميع الصحف، حكومية ومعارضة في ذلك الوقت، تتفق على اختلافها في كل شيء على هدف واحد، وهو شيطنة الدكتور سعد الدين إبراهيم وتشويه سمعته تمامًا.
لكن مع ذلك، فقد كان بعض نزلاء عنبر التائبين يعقدون آمالًا على أن قدوم الدكتور سعد الدين إبراهيم، بسمعته الحقوقية المعروفة، سوف يحسن من أوضاعهم في السجن، وقد يسرع لهم بإجراءات الإفراج عنهم. وإن كنت لا أعلم من أين جاءوا بهذه التوقعات، ولكن في كل حال، فإن إدارة السجن قد قررت وضع الدكتور سعد الدين إبراهيم في عنبر المستشفى الملحق.
لكن مع ذلك، فإن مكانة المتهمين في قضية مركز ابن خلدون، كنزلاء فوق العادة، أصبحت وضعًا دائمًا، لدرجة أن أحد الصوال في السجن لجأ إلى أحد المتهمين، وورد اسمه باستمرار في الأخبار المنشورة عن القضية في الصحف، وطلب منه أن 'يكلم له المسؤولين' لنقله من سجن استقبال طرة ليعمل في سجن آخر قريب من قريته. والحقيقة إني لا أعرف حتى الآن من أين جاء هذا الصول بكل هذا العشم في أن متهمًا له علاقة بالمسؤولين.
ولكن المفارقة أن هذا المتهم وعده خيرًا برفع طلبه للمسؤولين، لكن هذا المتهم اكتفى ببعض الطلبات البسيطة مقابل هذا الوعد ولم يسرف في استغلال هذا الصول المخدوع!
كنتُ بدافع فضول صحفي تحت التمرين ورغبته في الحصول على الحقيقة من فم أصحابها، أسعى للحديث مع معظم من كانوا في عنبر التائبين خلال ساعات الترويض. وجدت رجالًا في أواسط العمر وقليل منهم تخطى عتبة الخمسين، لكن مع ذلك فلديهِم من خبرات الحياة في مصر وخارجها ما يجعلهم في مصاف الحكماء الذين خبروا المخاطرة. وبعضهم أنفق كل ما ورثه عن أسرته في مغامرات خارج مصر وعادوا من مناطق ملتهبة حول العالم، من أفغانستان والبوسنة واليمن والسودان، وبعضهم رمى بنفسه وهو مراهق في أتون محرقة صراع دامي، صراع بدأ بفكرة أو بأفكار، وانتهى بالحديد والنار. وعلى عكس باقي زملائي المتهمين في قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم الذين كانوا يتجنبون في معظم الأحيان تبادل الحديث مع المعتقلين من الجهاديين السابقين في عنبر التائبين، كنتُ أنا بفضول الصحفي أسعى لتجاذب أطراف الحديث معهم، لأسمع منهم ما لم أسمعه أبدًا من غيرهم.
خلال فترة الحبس الاحتياطي في سجن استقبال طرة، سمعت من كثيرين عن تجاربهم ومغامراتهم الجهادية ورحلتهم في سبيل تحقيق حلم لم يتحقق أبدًا، وظني أنه لن يتحقق. حكوا لي عن رحلات إلى باكستان وأفغانستان انطلاقًا من المطارات السعودية، وكيف كانت السلطات السعودية في ذلك الوقت وفي ذروة الغزو السوفيتي لأفغانستان تجمع الشباب من الوافدين على أرضها وتدفع بهم عبر طائرات الخطوط العربية السعودية إلى باكستان، ثم إلى أفغانستان بدون جوازات سفر، وكيف كانوا ينتقلون من باكستان عبر المدقات الأرضية إلى أفغانستان ليلتحقوا بمعسكرات الجماعات الجهادية، وهي نفسها الجماعات التي تشكل منها بعد ذلك تنظيم القاعدة. وسمعت من آخرين كيف كان الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح يفتح للعائدين من الحرب الأفغانية اليمن ويمنحهم رتبًا عسكرية في الجيش اليمني مقابل أن يدعموه في حربه ضد الشطر الجنوبي من اليمن، وكيف سافر بعضهم إلى إيران وتم اعتقالهم وتعذيبهم هناك بعد أن ظهر لهم خديعة ووهم الجمهورية الإسلامية في إيران. سمعت تفاصيل مذهلة ونقلوا لي خبرات لم يسبقها لهم غيرهم، وهي تفاصيل وخبرات غيرت نظرتي لكل ما كنت أفكر فيه قبل أن أخوض هذه التجربة (الرائعة)!
لكن على الرغم من مكانة وخبرات كل من قابلتهم في عنبر التائبين بسجن استقبال طرة من الجهاديين السابقين، إلا أنني ظننتُ أنني سمعت من "أبو عنتر" و"محمد بلاطة" ما أذهلني. محمد بلاطة اكتسب اسمه من مهنته كمبلط قيشاني، لكنه كان له عمل آخر يحترفه وهو "فتح الخزائن"، ولا يخفي أنه لص خزائن ماهر، وخلفيته الأمنية كلها جنائية، لكنه وجد نفسه بدون قصد وسط خلية جهادية خدعته وأوهمته بأنهم عصابة جنائية تريد تنفيذ عملية سرقة عادية، ووجد نفسه بعد فشل العملية متهماً في قضية هزت مصر في هذا الوقت. أما "أبو عنتر" فهو رجل غير متعلم ولا يقرأ ولا يكتب إلا بصعوبة، وهو يقدم نفسه على أنه "سائق أسامة بن لادن". وعندما قدم لي نفسه بهذه الصفة، "سائق أسامة بن لادن"، داخلني الظن أنه يبالغ أو يكذب ليضفي أهمية على نفسه، ولكن ما حدث هو أن رفاقًا له في عنبر التائبين أكدوا لي فعلاً صحة ما يقوله "أبو عنتر" عن نفسه، وأنه فعلاً "سائق أسامة بن لادن". وكانت كل أجهزة المخابرات في العالم، بما فيها المخابرات المركزية الأمريكية، خلال هذه الفترة تبحث عن أي أثر لأسامة بن لادن أو أي شخص يكون لديه الحد الأدنى من المعلومات عنه، وكان شخص مثل "أبو عنتر"، حتى وهو فقط "سائق أسامة بن لادن"، يعتبر صيدًا ثمينًا وخيطًا من الممكن أن يكون مفيدًا في مطاردة أخطر رجل في العالم، وفقًا للوصف الاستخباراتي الأمريكي الذي أطلق على أسامة بن لادن في ذلك الوقت. كان "أبو عنتر" يشبه شخصية المعلم "جنجل أبو شفطورة" في فيلم "30 يوم في السجن"، وهذا الشبه قد يكون متطابقًا تقريبًا بين الفنان الراحل محمد رضا الذي جسد شخصية المعلم "جنجل أبو شفطورة" في مظهره وحجمه وحتى في ضحكته المجلجلة بين جنبات السجن وكرشه الذي يهتز مع ضحكاته الصافية، لكن "أبو عنتر" لم يكن "حرامي غسيل" بل أخطر بكثير من ذلك، وظني أنني لن أستطيع كتابة كل ما سرده لي من أسرار في الوقت الراهن، لكن مع ذلك ومع أنني خلال عملي كصحفي تحت التمرين قبل وبعد السجن ولقائي بشخصيات بارزة في دول مختلفة، لا يزال ما سمعته من بلاطة وأبو عنتر هو أخطر ما سمعته في حياتي حتى الآن، وإن كتب الله لي العمر والقدرة فسوف يكون ما سمعته من أبو محمد بلاطة ومن أبو عنتر موضوعًا لحلقات قادمة.