من حسن حظي أن شهدت وعملت وانخرطت في بلاط صاحبة الجلالة في عصرين، كل عصر منهما له سمات وأدوات وحتى قيم مختلفة سواء من جانب القائم بعملية الاتصال (الصحفي) والمتلقي (القارئ). العصر الأول الذي أكتب مذكراتي عنه، عصر كانت فيه الصحيفة الورقية قوة لا تُقهر، يحرص على شرائها كل طبقات المجتمع. نرى على أطراف الشوارع الرئيسية عشرات، وأحيانًا مئات، من باعة الصحف المتجولين الذين يتجمعون حول متعهد كبير للصحف يأخذ كل منهم حصته من الصحف التي تصدر في اليوم التالي، ثم يطوف باعة الصحف على المقاهي بداية من مساء اليوم السابق لصدور الصحيفة وينتظر رواد المقاهي بائع الصحف المعروف بتردده على كل مقهى ليشترون منه ما تيسر من الصحف الورقية وينقدونه ثمنها بزيادة قروش فوق ثمنها لأنهم يعرفون أن المتعهد يعطي الباعة الصحف بثمنها المدون عليها تقريبًا أو بهامش قروش وأحيانًا كسر قروش. وقد انتبهت بعض الصحف الخاصة والأسبوعية لهذه الحيلة فلجأت بعضها لكتابة سعرها بخصم قروش حتى يشجعوا الباعة على الطواف بهذه الصحف خصيصًا على المقاهي وبين إشارات المرور. وفي صباح كل يوم كانت القاهرة وحدها تتفرد بين عواصم كل البلاد العربية التي طفت بها بظاهرة بائع الصحف على الرصيف الذي يضع أمامه آلاف النسخ من الصحف والمجلات ويلتف حوله الناس من كل الفئات: كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، شبابًا وشيوخًا، يتزاحمون لشراء الصحيفة الورقية أو المجلة الورقية المفضلة لديهم.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن قروش كانت وقود العمل الصحفي
ولعل من المناسب هنا أن نشرح ما نعنيه بالصحيفة، فالصحيفة قد تكون جريدة وقد تكون مجلة، ولكن جرى العرف أن يطلق على الجريدة اسم الصحيفة، وفي الخطاب الشعبي يطلق على الصحيفة اسم "الجورنال". على الرغم من عدم وجود دليل قاطع على أصل كلمة "جورنالجي"، إلا أن هناك توافقًا عامًا على أنها مشتقة من الكلمات الفرنسية "journaliste" والإنجليزية "journalist" التي تعني "صحفي". وقد تطورت هذه الكلمة في اللهجات العربية العامية لتأخذ الشكل الحالي وهي الآن تعني في اللغة العربية الدارجة "صحفي" أو "كاتب مقالات في الصحف والمجلات"، وهي تشير إلى الشخص الذي يعمل في مجال الصحافة والإعلام ويكتب الأخبار والتحقيقات والآراء.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن قروش كانت وقود العمل الصحفي
بالنسبة لعشاق الصحف، فقد كان صوت بائع الصحف الذي ينادي على الصحف التي يحملها هو مثل موعد يومي للحصول على الصحيفة المفضلة. وذاع في الدراما المصرية النداء الشهير في بعض الأفلام على الصحف الرئيسية التي تعلق بها المصريون (الأهرام والأخبار والجمهورية)، وأضافت برامج إذاعية شهيرة لهذه الصحف مجلات "روز اليوسف" و"آخر ساعة" و"المصور". ومع الوقت، ظهرت على أرصفة القاهرة عشرات من الصحف اليومية ومئات من المجلات الأسبوعية سواء من خلال السماح باستيراد الصحف والمجلات التي تطبع خارج مصر، أو من خلال حيلة حسنة سمحت بطباعة الصحف في مصر من خلال رخص صورية تصدر من الخارج، وهي رخص لم يكن لها من القانون أي سند ولكن اقتضت موائمات كثيرة أن تستخدم الدولة في ذلك الوقت هذه الرخص لأغراض شرحها يطول وسوف نفرد لها فصلًا مستقلًا. وفي وسط هذا التنوع في الإصدارات الورقية بين صحف ومجلات، كان بعضنا يلجأ لحيلة استئجار الصحف والمجلات، بأن يشتري صحيفة أو مجلة ويدفع قرشًا أو قروشًا للبائع لاستبدالها بصحيفة أخرى أو مجلة أخرى. كانت هذه القروش هي وقود العمل الصحفي.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن قروش كانت وقود العمل الصحفي
وتميزت الصحف المصرية في وقت من الأوقات بأنها صاحبة التوزيع الذي يعد بالملايين، مثل "أهرام الجمعة" أو صحيفة "أخبار اليوم" يوم السبت. وفي طفرة من طفرات الصحف المستقلة والحزبية، حققت بعض الصحف أرقام توزيع بمئات الآلاف. نذكر صحيفة "الشعب" التي كان بعض الباعة يبيعونها بأكثر من الثمن المدون عليها، وصحفًا أخرى لم يكن القائمون على إدارات التوزيع فيها يقبلون أبدًا طبع أقل من عشرات الآلاف من النسخ حتى يستطيعون تلبية الحد الأدنى من طلبات متعهدي التوزيع ونقاط البيع. وكان مع هؤلاء المتعهدين آلاف الباعة الجائلين الذين يقطعون الشوارع ويدخلون للمقاهي سيرًا على الأقدام ليبيعوا الصحف من أجل كسب لقمة العيش. كان بعض النساء والصبية وحتى الشباب يأخذون من المتعهد مئات النسخ فقط من صحف متنوعة ليبيعوها أحيانًا بثمنها وأحيانًا بما يزيد قليلاً عن الثمن المدون عليها مستغلين تعاطف بعض زبائن المقاهي أو شغف بعضهم بشراء الصحف يوميًا بما يشبه الإدمان. ولكن في الحقيقة، لم يكن هؤلاء الباعة يمارسون حقهم فقط في كسب لقمة العيش، بل كانوا هم أدوات نشر المعرفة والثقافة بما يحملوه من صحف متنوعة المشارب والاتجاهات السياسية. وحقيقة الأمر أن هؤلاء الباعة البسطاء كانوا العناصر الأكثر تأثيرًا في نقل الحراك السياسي والاجتماعي إلى الشارع مباشرة من مكاتب ومقار الأحزاب التي لا يدخلها إلا عدد محدود ممن يصفون أنفسهم بالسياسيين وهو في حقيقة الأمر معزولون عن شعبهم بحكم استعلائهم الغريب عن رجل الشارع.