لم يكن مفاجئًا لي أن تتزامن ندوة صاحب التجربة الخائبة مع تحرك التيار التكفيري السروري نفسه للعودة مرة أخرى إلى نقابة الصحفيين، كأن التاريخ يكرر نفسه في حلقة لا تنتهي، وكأن الزمن الذي نعتقد أنه مضى أصبح حاضرًا بشكل مفاجئ، يفرض علينا مراقبته بصمت. نفس الشخص الذي عرفناه منذ عقود، كان عضوًا في مجلس نقابة الصحفيين في تسعينيات القرن الماضي، ومعه عشرات من الرفاق، ربما يحيطون به كدرع واقٍ من النقد والمساءلة، يفكرون الآن بهدوء ماكر في استغلال غيبة الجمعية العمومية لدفع التيار مرة أخرى لمقاعد مجلس النقابة، وكأن الأخطاء السابقة لم تكن كافية لتعليم الدروس، وكأن كل شيء يمكن تكراره، وكأن ما ضاع من شباب وطموحات لم يعد مهمًا.
صاحب التجربة الخائبة، الذي يتاجر بشرعية تاريخية مزعومة بانتمائه لعائلة سياسية، ليس إلا مثالًا حيًا على المزج العجيب بين الدين والسياسة، بين الاشتراكية والفاشية، وبين أفكار متناقضة تحولت عند باعة الوهم السياسي إلى استراتيجية، إلى وسيلة لجذب العقول قبل القلوب، وخلق وهم كبير يسمونه "الشرعية التاريخية". هو الآن يعود بوجه جديد، وجه "الحكيم"، الرجل الذي يقدم حكمته للأجيال الجديدة، وكأن التجربة الفاشلة التي خاضها لم تكن إلا درسًا مجانيًا، هدية للأجيال المقبلة، وكأن الشباب الذي انخدع فيه من قبل ليسوا إلا جزءًا من رواية أكبر، رواية يختار هو أبطالها ويكتب نهايتها كما يشاء.
لكن الواقع أكثر قسوة، وأكثر تعقيدًا، وأكثر وجعًا مما يعتقد. هذا الشخص، في اندفاعه نحو تقديم نفسه كحكيم، يغفل حقيقة واحدة مؤلمة: أنه دمر مستقبل عدد لا يحصى من الشباب الذين صدقوه، شباب من جيلي، كان سقوط هذه التجربة صدمة للشباب الذين راهنوا على المصداقية، وثقوا بالصدق الذي لم يكن موجودًا سوى على الورق، وعلى لسان صاحب التجربة الخائبة.
أتذكر أيامنا في سن المراهقة، نحن طلاب المدرسة الثانوية الخديوية، تلك الأيام التي كانت تمتزج فيها حدة الفضول بلهفة المعرفة. كنا ننتظر نهاية اليوم الدراسي لننطلق بسرعة نحو الجريدة التي كانت تجاور المدرسة، نختبئ وراء الأبواب، نبحث عن صحفييها، نحاول أن نقترب منهم، أن نستمع، أن نشاركهم أطراف الحديث، وكأن مجرد الاقتراب منهم يمنحنا شيئًا من تلك الخبرة الكبيرة، من ذلك العالم الصحفي الذي بدا لنا، آنذاك، ساحرًا ومثيرًا. كانوا يصنعون تجربة صحفية نادرة، تجربة يندر أن تتكرر، لكنها للأسف افتقدت الإدارة الواعية التي تدرك أن الصحيفة ليست مجرد ورق وأخبار، بل مؤسسة تحتاج إلى التوازن بين الحرية والمسؤولية، بين الطموح والاستمرارية، بين الشباب والطموحات الكبرى التي يحملها كل من يدخل عالمها.
وكان اختيار رئاسة تحرير هذه الصحيفة للاشتباك مع الدولة في ذلك الوقت ، كما فهمنا لاحقًا، مجرد مزايدة بمستقبل كل من يعمل فيها. رئاسة التحرير كانت بمثابة أداة لإنتاج زعامة وهمية، زعامة لا تهدف إلى تطوير الصحيفة ولا حماية من يعمل فيها، بل تهدف إلى إرضاء الذات، إلى خلق وهم، وهم السيطرة، وهم الشرعية التاريخية. والزعماء الوهميون، كما يعلم كل من عاش التجربة، لا يبالون بما يحدث لمن تحت أيديهم. كانت هذه الزعامة تأتي بثمن باهظ: قبر البطالة لكل من عمل في الصحيفة بعد إغلاقها، قبر للمستقبل المهني، قبر للأحلام التي تلاشت قبل أن تتحقق بسبب عجز المسؤول الأول عن الصحيفة عن التفرقة بين ما هو زائف وما هو حقيقي من وثائق لازمة للنشر حول قضايا الفساد .
هل يعلم صاحب التجربة الخائبة عدد الشباب الذين انخدعوا به؟ هؤلاء الذين دفعوا من حريتهم ومستقبلهم ما لا يمكن تعويضه، بعد أن سرقت أكاذيبه وأكاذيب شركائه عقولهم وأعمت أبصارهم؟ كانت تلك الأكاذيب تحلق في الهواء مثل دخان كثيف، يخنق كل من يقترب منه، ويغطي على كل ما هو حقيقي، ويجعل الحقيقة مستحيلة المنال. الشباب الذين صدقوه لم يكتفوا بقراءة الأخبار، بل دخلوا عالمه، عاشوا حلمه، وثقوا في ما يقول، وكل خطوة كانت تقودهم إلى هاوية الخيبة والخذلان.
والآن، يظهر لنا صاحب التجربة الخائبة ليحكي لنا أمجادًا وهمية، يصدر أحكامًا خائبة كما كان يفعل دائمًا، وينتظر منا أن نصفق له، أن نبارك لتاريخه الخائب، أن ننسى كل ما أحدثه من خراب في مسار الشباب. لكنه يغفل، كما يغفل دائمًا، أن الزمن قد تغير، وأن الأجيال الجديدة ليست بالضرورة جاهلة لتقع في نفس الفخاخ القديمة. الزمن لا يعود إلى الوراء، والوعي لا يمكن شراؤه بأوهام النضال الزائف، ولا يمكن تغطية الشمس بالغربال.
يكفي، يا صاحب التجربة الخائبة، ما ضاع في أوهام النضال الزائف. رفقًا بهذا الجيل الصاعد، حتى لا يقع فيما وقعنا فيه نحن، عندما انخدعنا بالزعيم الخائب وشركائه، حين كانت الأحلام تنتقل من يد إلى يد، وتختلط الحقيقة بالوهم، والنوايا الحسنة بالتصرفات الخاطئة. توقف عن الخداع، واستغفر لذنوبك، قبل أن يطغى الماضي على الحاضر، ويترك أثرًا لا يمحى على مستقبل الآخرين.
في كل تجربة فاشلة، هناك درس ينتظر من يفهم. ونحن تعلمنا الدرس بالطريقة الأصعب: فقدنا الوقت، فقدنا الثقة، فقدنا الحلم الذي كان يمكن أن يثمر عن أجيال أكثر وعياً، أكثر قدرة على مواجهة التحديات، أكثر حرصًا على المصداقية والنزاهة. التجربة الخائبة ليست مجرد شخص، إنها منظومة كاملة من الأوهام، من الأكاذيب، من التلاعب بالحقائق، من السعي وراء زعامة وهمية على حساب أحلام الآخرين.
إن هذه القصة، في حقيقتها، ليست مجرد نقد لشخص واحد، بل صرخة في وجه كل من يتاجر بالشرعية التاريخية، كل من يختبئ خلف الألقاب، كل من يوزع الوهم كما يوزع الورق، كل من يظن أن التاريخ يمكن شراؤه أو تغييره بأوهام النضال الزائف. للأجيال الجديدة، أقول: انتبهوا، لا تصدقوا كل ما يُعرض عليكم، ولا تتسرعوا في الاقتناع بالألقاب، ولا تدعوا التاريخ المزيف يغطي على الحقائق. ابنوا وعيكم، وفكروا بعقولكم، قبل أن يأتي من يخدعكم كما خدعنا، قبل أن يأتي من يسرق منكم ما لا يمكن أن يُسترد.
لقد كان علينا أن نكتشف الحقيقة ببطء، خطوة بخطوة، بعد أن اكتشفنا أن كل شيء كان مؤقتًا، زائلًا، وأن أي نجاح مبني على الوهم لن يدوم طويلًا. هذا الدرس هو الأغلى، وهو ما نحمله اليوم كواجب أمام الأجيال التي تأتي بعدنا، حتى لا تتكرر الأخطاء، حتى لا تقع الأوهام مرة أخرى على عقول لا تزال طازجة، على قلوب تبحث عن قدوة صادقة، على أجيال تستحق أن تبني مستقبلها على الحق والصدق وليس على الأوهام المزيفة.
وفي النهاية، كل ما نحتاج إليه هو أن نرفع صوتنا بالوعي، أن نخبر الشباب أن هناك ما هو أعظم مما يُرى، وأن ما هو مخفي أعظم بكثير من كل ما هو ظاهر. الفشل لا يُقاس بما يراه الناس، بل بما يتركه في النفوس، بما يستخلصه من دروس، بما يوجه العقول لتتجنب الأخطاء نفسها. ومن هنا تأتي مسؤوليتنا، مسؤولية الحفاظ على الحقيقة، مسؤولية حماية الأجيال القادمة، مسؤولية التأكد من أن التاريخ لن يُستغل مرة أخرى من قبل من يظن أن الماضي ملك له وحده، وأن الحاضر يمكن تزويره بأوهام لا تنتهي.