قلم رصاص .. سأتزوجك رغم أنفك ( رواية قصيرة )

قلم رصاص
قلم رصاص

الوهلة الأولى

لست أدري هل تمر بنا الأيام، أم نحن الذين نمر بها؛ ليستوقفنا الكثير من الأشخاص والأحداث؟! كلها عابرة، وكلنا سيعبر.. هل هو القدر يلعب بنا،أما أننا نحن الذين نلقي بأنفسنا في طريقه، وبمعنى أدق تحت براثنه؛ لنعود نشكو، ونجيد دور الضحية؟! هل نحن جناة، أم مجني علينا؟ هل كنا مخيرين فيما فعلنا، فنتحمل نتيجة ما اقترفنا، أم أننا نسير طوع جبروت القدر؟!

وهل ما حدث لي كان تحقيقًا لحلم طالما تمنيته، أم عثرة في حياتي سقطت فيها، وأقضي باقي حياتي تكفيرًا عن ذنبه اقترفته؟ هل كان ضعفًا مني كإنسانة لها احتياجاتها النفسية، أم انتهازًا لفرصة أسرق ما ليس من حقي؟

هل في طبيعة الإنسان أن يزلَّ ويؤوب، أم أنها نفسي الأمارة بالسوء التي ساقتني إلى الجحيم؟

أجد نفسي حبيسة في قبو معتم من رماح الأسئلة التي لا أدري هل هي يقظة ضمير، أم تعجيل بالعقاب في الدنيا جزاء ما فعلت؟ وهل هي تكفير عن سيئات، أم مضاعفة للعذاب؟!!

رأسي سينجفر، وقلبي ينفطر، وكل خلايا جسمي ترتعد. هل سأموت لأرتاح، أم لفتح باب الحساب لي؟!

أسئلة بلا إجابة واحدة لها مطمئنة، أو على الأقل مقنعة. لا إجابة واحدة.. فقط أسئلة تطاردني أينما ذهبت، وكلما أرهقتني، وألجأتني إلى الفرار من واقعي إلى عالم الغيب، أراها تسللت إلى منامي، وفرضت نفسها في أحلامي، وأحسب أنها يمكن أن تلاحقني حتى في موتي. فأين المفر؟!

البداية

في يوم عادي كأي يوم من أيام حياتي الرتيبة، وقتها الكلمة الأدق هي "الممنهجة".. وبينما أحضر لترتيب دعاية إعلامية بإحدى المجلات؛ حيث كنا بصدد عمل ترويج لمنتجنا الجديد؛ لطرحه بالأسواق. كانتالبداية طبيعية جدًّا.. اتصالاً بيني وبين المجلة؛ للاتفاق على خطة التسويق، وكان لزامًا عليَّ أن أبقى على تواصل مع المجلة؛ لمتابعة الاتفاق والسير وفق الخطة الدعائية من خلال تنفيذ الضوابط التي تم وضعها للوصول في زمن قياسي للترويج للمنتج، وبطبيعة عملي فإني مدققة جدًّا، ولا أحب التهاون ولا التراخي، ولا أقنع إلا بإنجاز أفضل النتائج وتحقيق الأهداف كما تم النص عليها في الاتفاق حرفيًّا.

ولم يمنعني تدقيقي من أن أمرر أحيانًا أمورًا أراها تفاصيل هامشية، فكنت أرسل مثلاً الإيميلات، ولا أركز أو لا يعنيني شخص من يجلس أمام الشاشة في الناحية الأخرى، ويرد عليَّ.. هي تفاصيل هامشية كما قلت لكم.. ماذا سيفرق معي؟ المهم هو أدق تفاصيل الدعاية، فكنت أتبع الإرشادات، وأرسل المستجدات.وحتى المكالمات لم تخطر ببالي.. أيضًا ماذا يعنيني صوت الطرف الآخر من الاتفاق؟ لم أجرِ مكالمة هاتفية طوال ثلاثة أشهر إلا مرة واحدة، بعدها توقف العمل.. كانت هناك فترة ركود وانشغال بأعمال أخرى، واستمر هذا الحال لقرابة ٤ أشهر، استأنفنا بعدهاالعمل سويًّا، حتى انتهينا من بنود الاتفاق، وهذه المرة كان لا بد من التوقيع على العقد؛ مما يتوجب الحضور لألتقى الطرف الآخر القابع خلف الشاشة.

فكانت المكالمة الثانية.. حيث تلقيت اتصالاً من المجلة لتحديد موقع للقاء.. صوت نسائي يكلمني بنبرة فيها دلال؛ حتى "لا تطفش الزبون" حسب ثقافتها العتيقة، فأخبرتها بأنني سوف أحاول زيارتهم في أقرب فرصة هذا الأسبوع.. ليس تدللاً مني -حسب منطقها - ولكن لأني بحق كنت غارقة في زحام المشاغل التي لا تنتهي؛ تعويضًا عن فترة توقفي.. كنت بالفعل في طريقي للمجلة في نهاية الأسبوع؛ لبدءالتعاون معها.. ولم يكن لديَّ تصور محدد لكيفية البدء، بل لم يخطر ببالي كيف ستكونالبداية وإلامَ ستأخذني. كان كل هذا لا يعنيني؛ لأنه في النهاية "شغل".

التمهيد

دخلت المجلة.. في الدور الثاني استقبلتني سكرتيرة بابتسامة عريضة رقيقة حنونة.. أشارت إليَّ بالجلوس لحظة بحميمية على طريقة أنها تعرفني جيدًا. رفعت سماعة الهاتف، وتكلمت بهمس حرصت على أن أسمعهمن قبيل أنها لم تقصد، ثم قامت لتُدخِلني إلى رئيس التحرير.

كان المكان محاطاً بالإعلانات والألوان والإضاءات بين خافت ومضيء.. بين قاتم وفاتح بين مغلق ومفتوح.. تركت لعينيَّ أن تتفحصا الأجواء الفنية من حولي. مشاهدتبهرك بجمالها، ولمسات فنان ترك بصمة مختلفة له في كل ركن تأخذك بسحرها، وتفاصيل بديعة من التي أحبها ملكت كل كياني.. لا أدري لماذا شعرت أن مهندس الديكور صمم هذا مخصوصًا لي، حتى إني تساءلت: كيف عرف أدق تفاصيل ذوقي؟!

مؤكد أن المصمم لا يعرفني، ولكن هذا التوافق أذهلَني، وتلك الأجواء الأخاذة سحبت عيني وعقلي وقلبي، وكأنها مشهد في فيلم يمهدك نفسيًّا لما بعده.. لكني عدت، وقلت لنفسي: أنت متخصصة في الدعاية، وتعلمين جيدًا أنها أساس التسويق لكل شيء، وطبيعي جدًّا جدًّا أن يكون مقر المجلة هكذا من أجل جذب الزبون من المعلنين.

وعقَّبتُ على نفسي: وها هو قد نجح تمامًا في قطف ذهولي. حتى إنني قررت أن أوقع على عقد الاتفاق بدون أن أنظر فيه. وعدتُ أتساءل: أهو سحر المكان، أم ماذا؟ وما أدراك ما "ماذا"!!

كنت مستغربة من نفسي.. فطالما دخلت أماكن مُسرِفة في الفخامة، لكن هنا جمال ورقة ونعومة هادئة وهامسة ونابضة.

اللقاء

فجأة تَوقَّفَ كل هذا؛ فقد طرقت السكرتيرة بابًا مكتوبًا عليه "رئيس التحرير"، ولم تنتظر الرد؛ فقد فتحته بهدوء من لا يريد أن يقطع تركيز من بداخله.. وضح أنها طرقت الباب فقط لإعلام من بداخل الحجرة أنها ستفتح الباب، أو لإعلامه بمجيئي، وأشارت لي بالدخول والبسمة لا تفارق شفتيها.

دخلت إلى رئيس التحرير.. مظهره وهيئته مع كبر سنه زادت من قبوله.. هيبة في ألفة.. حتى بسمته التي ملأت وجهه بمجرد أن رآني كانت مَكْسُوَّة بوقار عجيب.. قام من على كرسيه، وجاء إليَّ ليستقبلني بعينين متفحصتين، لا تخفيان، أو ربما عمد هو أن تبديا إعجابهما بي؛ فهو فنان، ويقدر الجمال.. هذا ما أوصلته عيناه لي على استحياء.. قلت: لا تضخمي الأمور.. هذا طبيعي جدًّا؛ فأنا مُعلِن، والصحافة كما تعلمون الإعلانات هي دماؤها التي يمكن أن تحييها أو تميتها.

لكن رغم هذا التصور الراسخ في الأذهان لدى الجميع، لا أدري لماذا تلاشى عندما نظرت على حذر لعيني رئيس التحرير.. فمتو ثانية قرأت فيها الكثير.. وقور حازم مقدام مخضرم، وأظن أنه حنون.

اللمَّاح

نسيت أن أقول أهم صفة قرأتها في عينيه أنه لماح؛ فقد بادرني بعد أن ألقيت عليه السلام بقوله: معذرة سيدتي الرقيقة.. أتعبتك بطلب مجيئك إلينا.

قلت: لالا.. هذا عملي.

تابع وكأنه كان متوقعًا هذا الرد: كانت الأصول تحتم عليَّ أن آتي أنا إليك، ولكني أحببت أن تأتي وتشرفي المجلة؛ على أمل أن تنال رضاكِ.

ألم أقل لكم إنه لماح؟ ولأنه لماح لا يصح أن أكون حمقاء، وأسأله باستغراب: ما علاقة رضاي بعمل دعاية لمنتج في شركة أعمل بها؟

ولأنه لماح؛ فقد قرأني هو الآخر وهو يلمح ابتسامتي ردًّا عليه.. وأحسست أنه سعد لأن حوارنا يسير على مستويين: صوت، وتخاطر.

أظهرَ أنه فوجئ بوقوفي، وأن اللقاء أنساه أن يشير لي بالجلوس، فقال لي: معذرة مرة أخرى.. تفضلي.

ولم يجلس إلا بعد أن جلست، واستقر جسدي على الكرسي أمامه.

وسألني: هل أتعبَك أحد في الدخول؟

قلت: لالالا... ثلاث محطات فقط مررت بها حتى أكون هنا على الكرسي الذي أمام مكتبك.

فترك اللمَّاح مكتبه، وسارع بالجلوس على الكرسي الذي أمامي، وسأل بقلق غير مصطنع: من ضايقك؟

قلت: عادي.. عند دخول المبنى كانت محطة الأمن.. (س) و(ج)، ثم المصعد.. وعامله أيضًا فضولي، لكن للأمانة المحطة الثالثة، وهي محطة الوصول فكانت أرفقهم بي..

قال: السكرتيرة بنت رقيقة.. لكن طبعًا لا تقارن بك.

نجح اللمَّاح في أن يقطف زهرة خجلي، ويستفز غضبي بوضعي والسكرتيرة في سلة واحدة، وإن كان نمَّقَها بقوله "لا تقارن بك"، إلا أني مصرة على أن التعبير خانه، أو ربما تعمد استفزازي بجملة يمكن تبريرها حال غضبي وتخطيئه. أو ربما له مآرب أخرى ستتضح. الخلاصة أنه لم يطل في قطف خجلي، وواصل: أنا آسف.. لكن هذه هي الإجراءات في كل مكان. خاصة أننا مؤسسة صحفية.

: أعرف، خاصة أنها أول مرة آتي فيها إلى هنا.

: حقيقي، ولكنهم بعد ذلك سيعرفونك، ولن تكون هناك أي معوقات أو مضايقات.

كتمتُ ابتسامتي من التخاطر الذي يجيده ذلك اللمَّاح، وأستوعبُه جيدًا، كما استطعت كتمان خجلي والزلزال الذي يُحدِثه بي.

الفضول

كنت أود - من باب الفضول اللَّحوح - أن أسأله: هل هو من كلمني على الهاتف في المرة الأولى التي كان التواصل فيها صوتيًّا. ولكني قررت ألا ألتفت إلى تفاصيل هامشية.. نعم تفاصيل هامشية.. لا بد أن تظل تفاصيل هامشية.. المفترض أن تكون تفاصيل هامشية.. أعتقد أنها تفاصيل هامشية.. قد تكون....

قطع استغراقي الجدلي بقوله: هل تذكرين المرة التي تكلمنا فيها؟

تملكتني الدهشة، فبدا غير مفاجأ بدهشتي التي توقعها، أو قصدها، وتابع: عمومًا أنا ما زلت أتذكرها جيدًا.

قلت: لا أذكر، لكن بعدها انقطع التواصل 4 أشهر، لكن ليس ذنبي.

رد في نبرة قاطعة: 4 أشهر وخمسة أيام.

ونظر إلى ساعته: وسبع ساعات وعشر دقائق.

وواصل وكأنه حريص على ألا أظهر أمامه "ملخومة"، أو من شدة حرصه أراد ألا يظهر اهتمامه المبالغ والمتخطي حدود اتفاق على إعلان، أو أو. وما أدرك ما "أو"!

: أنا صحفي.. وشغل الصحافة متابعة لحظية، فالوقت عندنا من أساسيات عملنا.

وتنهد، ثم قال بصوت حماسي: الوقت أخذنا، ونسيت أن أسألك: ماذا تشربين؟

: لا شكرًا.

: لم أسألك: هل تشربين، أم لا؟ سألتك: ماذا تشربين؟ الصحافة أدواتها اللغة.

هذه المرة ملأ عينيه مني، وسأل وهو يتفحصني: ألا تريدين أن يكون بيننا عيش وملح كما يقال، أم أن أحدًا قال عنا إننا بخلاء؟

وابتسم، وقال: أعدك ألا تدفعي مليمًا.. المشروبات على حسابي.

فأفلتت مني ضحكة.

قال: هل هذه الضحكة الجميلة يصح أن تأتي وتمشي بدون أن تشرب معي أي شيء؟ يا سيدتي سنخصم وقت الشراب من الاجتماع.

وحسم الأمر: أنا سأختار لك مشروبك الذي ستشربينه معي..

واتصل بعامل البوفيه، وطلب قهوة سبرسو.

كيف عرف أني أحب القهوة سبرسو؟!

متسامحة

بمناسبة الوقت شيء غريب لاحظته في نفسي.. أنا فعلاً الوقت عندي كالسيف، وحياتي حتى خارج نطاق العمل ممنهجة بالدقيقة والثانية، وكثيرًا ما أحرج من يشغل مساحة من وقتي بلا فائدة حقيقية، ولكني لأول مرة أجد نفسي متسامحة في إضاعة وقت يطول ويمتد، وقت مخصص لاجتماع عمل، وحتى الآن لم تأتِ سيرة الاتفاق، ولكي أكون واضحة معكم.. نسيت أمر الاتفاق، ونسيت الدعاية، ونسيت الوقت.

لأول مرة أجد أنني غير جادة في حياتي.. أدرك أن الحياة يمكن أن تكون فيها مساحات غير جادة.. مساحات أهم من الجادة.. مساحات للتعارف والتآلف والاستظراف و.... للإحراج اللذيذ.

ولأنه لمَّاح كما قلت لكم، انتبهَ للموقف، فقال: نتكلم الآن عن منتجكم الجديد.

انتبهت: آه صحيح.

دخل عامل البوفيه، وقدم القهوة الـ سبرسو، وخرج؛ ليبدأ أخيرًا الاجتماع.

وفي الاجتماع لم أدرك أنني أتحدَّث وبسرعة، ولا أعلم لماذا أصبحت ثرثارة وقتها لأول مرة في حياتي؛ فالكلام يشغل حيزًا من الزمن؛ لذا لا أملؤه إلا بما قلَّ ودلَّ وأوجز وأنجزَ، ولكن عندما سألني عن خطة الدعاية، وجدت نفسي أنطلق في استعراض ثقافتي وخبرتي في هذا المجال: كيف أعمل، وكيف أرقى بدعاية شيء، وأرفعه إلى السماء، وماذا يجب عليَّ أن أفعل، وإلى أين أتوجه برسالتي الإعلانية. وبينما أثرثر، قاطعني وقد ملأت الضحكة وجهه فبدا أكثر شبابًا على وقار السنين:

اصبري اصبري.. أعلم أنك تشعين ذكاء وحماسًا.

وأكد صوتيًّا وبصريًّا: وأكثر جرأة.

مواهبي

وتابع دون التفات إليَّ: لكن يجب أن تستغلي ذلك في تنمية مواهبك.

أجبت وقد تحولت إلى شعلة حماس أنوثي: نعم.. وحضرتك سيد العارفين.

فقال: أنت طاقة هائلة في العمل، ولكن هذه الطاقة تحتاج لأن تظهر في أفضل صورة لها.

ثم سألني: ما الذي تحتاجه المرأة لكي تظهر أقصى ماتملك وتفجر طاقتها؟

تلعثمت، فنزع عني الحرج، وقال:

أقصد أن المرأة بطبيعتها وخبرتها تجيد فن التفاصيل.

قلت في نفسي: التفاصيل.. وآه من التفاصيل.

كرر: ما الذي تحتاجه المرأة لكي تظهر أقصى ماتملك وتفجر طاقتها؟

لم أتردد في أن أجيب: الاحتواء والأمان.

قال وكأنه يهمس لي: الاحتواء والأمان.. فعلاً.. إجابتك بمنتهى الدقة والتحديد.

فهز رأسه وهو يكرر: الاحتواء والأمان.

سكتُّ قليلاً، ونظرتُ إليه، ثم قلت: سأخبرك بشيء.. لم أتخيل أنك بهذا الشكل.. عذرًا لجرأتي فعلاً، ولكن عندما حادثتك أول مرة بدا لي من صوتك أنك شاب صغير في مقتبل العمر، فالأصوات قد ترسم مظهرًا في المخيلة غير الواقع.

سألني: وماذا وجدتِ؟

قلت: وجدت رجلاً يجمع بين خبرة السنين ورونق الشباب.. وجدت أعمق وأجمل بكثير مما تخيلتُ.

جرأة

ولما رأيت عينيه تتفحصانني بجرأة، قلت:

عذرًا مرة أخرى على جرأتي.

قال: بالعكس.. هذه أهم ميزة فيكِ.

واستدرك: العمل في الصحافة وفي الدعاية يحتاج إلى جرأة، وأحيانًا، أو غالبًا مخاطرة.

قلت: مغامرة.

أوضح: البعض يسميها مغامرة، والبعض يسميها مخاطرة، لنقل جرأة محمودة.

أعلم أنها فعلة غير محمودة أن أبوح له بما قلت، ولكن ما عساي أن أفعل أمام شخصية فريدة جذبتني بشكل عجيب.. أول مرة تستهويني شخصية وبهذا الشكل.

نطر إليّ نظرة جعلت نظرات عينيَّ تتكسر.. جعلتني أنتبه إلى أني أنثى قبل أن أكون مسئولة دعاية.. لجأت إلى فنجان القهوة.. وبدأت أرتشفه بدلال الأنثى، وأختلق المواضيع،ثم أعبث بهاتفي المحمول، وعيناه تراقبانني رقابة محمودة محبوبة. أول مرة أجدني لا أعرف ماذا أفعل، وماذا ينبغي أن أقول، وكيف أختبئ.

قلت: كلامك أفقدني التركيز.. لكن أنت فعلاً تجمع بين خبرة الكبار وروح الشباب.

أجاب بدهاء: نعم نعم لستِ أول من قال هذا، فالجميع أخبرني بذلك.

وقام من أمامي، وذهب إلى مكتبه، وأخرج أوراقًا، وقع عليها، وعاد للجلوس أمامي، وناولني القلم بشياكة، وقال: تفضلي يا أميرة.. عطري العقد بتوقيعك.

وتابعني بعينيه وأنا أوقع. كان يتأمل إمساك القلم بأصابعي، وحركة يدي أثناء التوقيع.

وبعده كان لا بد أن أحسم الموقف، فنهضت فجأة، وقلت له:

أشكرك على حسن الاستضافة.

توقعتُ منه أن يفاجأ، لكنه على عكس توقعي قال لي بهدوء راسخ: تذكري أنه اللقاء الأول لا الأخير.

التفتُّ إليه، فعقَّبَ بنفس الهدوء: العقد هو بداية تعاون، بعده تنفيذ تفاصيله.

المهم أنني استأذنت أخيرًا في الرحيل.

قلت له وأنا أهمُّ بالقيام:

شكرًا على ضيافتك.

رد هذه المرة بحميمية من يرجوني على حذر أن أبقى : لا شكر على واجب.

وقام هو أيضًا، وسار معي ليوصلني.. كانت نظرات الموظفين وتعليقاتهم والدهشة التي تعتري ملامحهم تبدي أن هذا الشخص لم يسبق له السير مع أحد. وبالفعل قالها لي الأمن حين كنت بانتظار السائق: عفوًا لا تفهمي ما أقوله خطأ، ولكن أنا أعمل هنا من سنين طويلة ولَم أرَ المدير يحتفي أو يمشي مع أحد من قبل. واضح أنه يعزك جدًّا يا ابنتي.

واضح.

لقاء عابر

مر اللقاء الأول ما مر.. لا أدري هل استغرق وقتًا طويلاً، أم عابرًا، وبمعنى أدق لم أشأ أن أدري. ما أحسسته (لا أدركته) أن الوقت حتى لو طويل كان خاطفًا ككل اللحظات الجميلة التي تأتي فجأة، وتختفي فجأة.. نعم مر الوقت، ولكنه ترك في نفسي كل ما دار في ذلك اليوم بتفاصيله.. لم يغب شيء منه عني لحظة.. وكأن الزمن توقف بي عند تلك اللحظة العابرة بخصوبتها ونداها.. هو لقاء عابر من اللقاءات التي أحضرها بطبيعة عملي.. لا لم يكن لقاء عابرًا.. كان لقاء من نوع خاص جدًّا.. لقاء لا يحدث إلا مرة واحدة، وقد لا يحدث.

لم أدرك أنني خرجت من اجتماعك أسيرة عينيك، وبدلاً من أن أكمل ما جئت من أجله من دعاية وإعلان، وجدت أنك روضت نفسي التي عاشت سنين لا يلفت انتباهها رجل كائنًا من كان.. هل جاء اليوم الذي أجد فيه مبتغاي.. الرجل الوحيد في عالم الذكورة؟

فرغم أن الاجتماع كان بالغ الأهمية لعرض منتج جديد.. تلك الأهمية التي لولاها لما اضطررت إلى الذهاب إلى المجلة لحضور الاجتماع.. ذلك الاجتماع الذي أخرجت فيه عيناك نظرات توحي بأن منتجًا بداخلك لم يُطرَح بالأسواق بعد.. ربما لجودته، أو أنه لم يكن هناك زبائن تستحق جودته.. وبدا لي الأمر أن هناك جودةً ومعايير لم تخرج للساحة قط، ويبدو أنني في المقابل وجدت طرحاً وعميلاً ربما ظللت طويلاً أفتش عنه بين آلاف العملاء، ولكن لم أَجده. هل هذا عائد إلى أن معاييري مغايرة لما تطرحه الأسواق في الوقت الراهن، أم أنها تخطت الواقع وتعدت أقطار الخيال، فباتت مستحيلة؟

سأخبرك أن عينيك كانتا مفتاحًا لدخول عالمي وخطوةً لاستمالتي و رهانًا فائزًا لاستهوائي.

الحلم

يبدو أن خيالك قرر أن يلاحقني في صحوي وفي نومي.. استيقظت اليوم على لقاء في عالم الغيب.. رأيتك بمنامي! وكأنني أصف أشيائي وأحبائي وأعددهم!!! لتخرج وتخبرني أنك أنت وكل أهلك وعشيرتك ستكونون من ضمن أحبائي ومفضلاتي.

لا أعلم أهذا رمز لشيء قد يحدث أم تفسير لما حدث بالفعل أمأن عقلي الباطن يتلاعب بي، أم أنك أنت الذي تتلاعب به وبي. رفقًا بي.. لا لا ترفق بي.

أنا الآن مستيقظة وفي كامل وعيي. لا مجال لعقلي الباطن. ولا أثر للنعاس، ولكن بالفعل أشعر بك تجلس بجانبي.. أشم أنفاسك الحارة..أحس بلمساتك.. بأحضانك.. أسند رأسي إلى كتفك اليمنى.. أهز رأسي.. أنفضه. ماهذا الهراء؟! هل بت أتخيل أشياء لم يحدث ولن يحدث؟! وكيف تحدث؟! هل نظرة منك تفعل بي كل هذا؟! أين دفاعاتي؟! أين تعززي؟! كفي عن الهراء.. لا تعيشي وهمًا؛ فإن إفاقة الواقع مؤلمة.

وقررت أن أفيق من حلمي.. وعندما أقرر فهو نافذ.

العودة

نفذت قراري: لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم.

هكذا عدت لنفسي.. ساعدني على العودة انشغالي بالعمل وضجة الحياة.. وصلتني دعوة من صديقة على وجبة غداء.. قبلتها لتكون متنفسًا عن زحام العمل وضجيجه، خاصة أنه مطعم راقٍ.. فهو يطل على البحر، وظروفي تسمح ببعض الوقت.. كان بريق الشمس لامعًا بأرجاء المكان وزقزقات العصافير تعزف سيمفونية رائعة، كأنها تحتفل بقدومي، والموسيقى تنسجم مع العصافير في أوركسترا أخاذة، والزهور تنتشر في كل مكان، وتفرش الأرض.. ما إن جلست على المقعد الذي حددته صديقتي في رسالتي لي على الواتس، حتى جاء النادل، ومعه عصير الليمون والنعناع المفضل لديَّ.. بدأت في تناوله باسترخاء لذيذ، وأنا أمسك قائمة الطعام أتأملها لحين قدوم صديقتي، التي دائمًا ما تفاجئني بأفكارها البديعة.

المفاجأة

فجأة سقط عليَّ ظل حجبَ أشعة الشمس عني، وقبل أن أتطلع، سمعت صوتًا لم يمنع الحرص على خفضه من تشبُّعه بقوة: مرحبًا.

صحت: من؟!!

رأيت بسمة الثقة تنير وجهه: نعم أنا.

سألت بدهشة مملوءة فرحة: هل هذه صدفة؟

قال: هل تنتظرين أحدًا؟

كدت أقول له أنتظرك، لكني تذكرت قراري، فقلت لرئيس التحرير: أنتظر صديقتي دعتني إلى الغداء.. هي في الطريق الآن.

بنظرة ثاقبة قال وهو يسحب كرسيًّا؛ ليجلس: أنا صديقتك التي دعتكِ للغداء.

تاهت الكلمات مني.. ابتلعت ريقي.. جحظت عيناي.. اضطرب جسدي بالجلوس، واهتز قلبي، وارتجفت يدي وتملكني الصمت.

قطعه بقوله: هل ضايقك أني طلبت من صديقتك أن أدعوك إلى الغداء باسمها؟

قلت: لا بالعكس، ولكن...

تابعت: خفت أن ترفضي دعوتي، وأنا حريص عليها جدًّا.

: أنت فاجأتني فعلاً.

: أتمنى ألا تكون مفاجأة سيئة.

: عادي.

: المهم أنها غير سيئة.. هذا يكفيني.

قلت في نفسي: يكفيك؟! طموحك أبعد من القناعة الخادعة.

أمسك بقائمة الطعام، وقال: وأتمنى أن أكون موفقًا في اختيار الطعام الذي تفضلينه.

كان موفقًا تمامًا.. يبدو أنه يعرف كل شيء عني.. كيف عرف؟ لا يهم.. المهم أنه يهتم بكل تفاصيل حياتي وبمنتهى الدقة.

زهور الخجل

تناولنا الغداء في صمت إلا من أصوات الأطباق والملاعق، تتخلله نظرات ذات مغزى.. لغة روحية صافية من مظاهر اللغة المادية إلى لغة أرقى.

بعده جاءت فنجاني المفضل.. القهوة المرة.. مددت يدي لأضع بعض السكر، استوقفني: مهلاً.. يكفي أن تلمسي الفنجان، وأصابعك ستحليه.

جرأته أنبتت زهور الخجل على خديَّ.. فاستمتع بالمشهد. أبعدت يدي؛ حتى لا أوقع الملعقة.

يا لك من ماكر! كل مرة تفعل بي هذا!

استجمعت أنفاسي وأعصابي، وقلت بشدة أنثوية:

شكرًا لذوقك، ولكن مرارة قولك هي من تجعلني أزيد من حلاها؛ لكي أستسيغ حوارك يا سيدي.

نظر إليَّ بابتسامة عريضة.. نظراته تفضح ما بقلبي.. فتتكسر أمامها نظراتي التي تبحث عن ملاذ.

وانتهى اللقاء الثاني كما انتهى أول لقاء.. انتهى ببداية جديدة لها وله.

كيف ظهرتِ لي؟!

ما الذي دهاني؟

قالها وهو واقف أمامها، لم يعبأ بأنه في مكان عام.

تابع وعيناه ملتصقتان بجاذبية عينيها الناعستين: فيكِ شيء لم أجده في غيرك.. ماذا فعلتِ بي؟! جعلتِني أرجع لأيام الشباب.. نبشتِ بأنوثتك الناعمة المستفزة بدواخلي صناديق قديمة، وبعثرتِ بأعماقي صمتًا طال بسنين العمر.. أوقدتِ بعينيك ظلمةً بقلبي انطفأت بخيبات الحياة، و لوَّنتِ ناظري بألوان فكرك الطاغية، وحلَّيْتِ مرارتي بنظرة محياك الفاتنة، وأسرتِ أفكاري بحوارك الهامس.. كسرتِ هيبتي مع نفسي.. أشبعتِ صيامي، وأتممتِ أفطاري.. أثرتِ فضولي، واجتذبتِ اهتمامي.. أبدعتِفي الترويج لمنتجك.. أتقنتِ استدراجي !!؟؟ أكملتِ ناقصًا بلوحتي.. أكملتِها من أين؟ وكيف ظهرت لي؟!!

رهبة الموقف المفاجئ لجمت لسانها الطلق.. بينما وصل كلامه دون انتظار أي رد منها.. كان يريد أن يفرغ ما ملأ قلبه وملك نفسه: لا أعلم هل ساقك القدرلي لأعيش مجددًا مع أحلامي التي باتت مستحيلة مع هذه الحياة، والتي حرمتني منها مشاغل الحياة اللحوحة المتهافتة، أم أنه حلم ماكر يتلاعب بي؟. حلم مَنْبَتُه الخيال وثماره لا تُنال. هل أنتِ خدعة جاءت تبرق لتثيرني وتَشغَلني وتُشعِلني، ثم تخبو وترحل؟

تنهد: حتى لو كنتِ حلمًا، فأنا أطلب منكِ أن تكوني حقيقة يا عزيزتي.

وتابع: أنت حقيقة.. تقفين أمامي.. تصغين لنبضات قلبي.. حقيقة أجمل من ألف حلم.

واقترب منها: سأجثو أمامكِ.. وأهتف: لكِ ماتشائين مني.. أريد الأنثى التي بداخلك أن تظهر على يديَّ..أن تتفجَّر.. سأكون لك ما تريدين.. حبيبًا..صديقًا.. أخًا.. لكِ ما تشائين.. لتحدق عيناي بك، ويفترش القدر أجنحته لي قائلاً: هل ستحلقين بسماء الحب و تعتلين عرش المحبين وتنهلين غزل المتيّمين وتتشبعين بزواد العاشقين؟!

واستطرد وقد اغرورقت عيناه بالدموع: عيناي ترتوي دموعًا، وقلبي طار نبضًا، وعقلي تشتت فكرًا. أما جسدي فمال رجفًا، وشفتاي تمتمت صمتًا.

قائمة الغداء

أخبركم الآن بقائمة الغداء:

١- طبق من الهوى

٢- طبق مقبلات حب، حبيب، أخ، صديق.

٣- سلطة (الصَّبْوة)

٤-مناقيش (الكَلَف)

٥-كوكيز (العشق)

٦- ساندوتش (احتواء)

٧-كراميل (النجوى)

٨-بطاطا (الودّ)

٩-الطبق الرئيسي(الهيام والجنون)

أجد نفسي للمرة الأولى أودّ أن أطلب قائمة كاملة وكأنني صائم يريد كل الأطباق، حتى لو لم أتذوقها.. أريدها تزين قائمة رغباتي، وتفترش مائدة هواي، وتجهز لإشباع قلبي واحتياجه.

نعم أريدك يا سيدي.. أبعث لك ثرثرة إجابتي بعد تلعثم صمتي.

بسمتي

جعلتني أبتسم من الأعماق.. ابتسم قلبي قبل شفتي، وحتى عيناي غارتا بدموع الفرح.. اليوم أدركت أن قلبك يبتسم حين تكون راضيًا بأتمِّ الرضاء عن شعور رسمته بمخيلتك كثيرًا لجمال وصفه، كدت تراه من نسج الخيال، وأن الواقع لا يمت له بصلة.

أن يقول لك القدر هذا ماكنت تطلب وتتمنى دائمًا.. أرى أن الفرصة لم تحن بعدُ، والشخص لم يصل إليّ، وأتيقَّن كثيرًا حينما أرفض من حولي وبشدة؛ فهم لا يشبهونني.. لا يستهوونني؛ لتضارب ما بين من أنتظره بخيالي و من أبصره بواقعي؛ لتأتي أنت، وتكسر كل قوانين الخيال والواقع عندي جملة واحدة بغير ميعاد ولا ميثاق.. لم أتحمل قوة توافُقك بأدق تفاصيل أشجاني، كأنك جئت لتغني أبياتًا بداخلي لم أثق يومًا أن هناك من سيجيد عزفها؛ لصعوبة لحنها وقوة إيقاعها.. ربما كنت أظن أن من جاء سيأتي ليدندن ويطنطن على ليلاه، وأنا أعيد أبياتي على إيقاعه.

أشعلتني كونشيرتو.. بداخلي ألحان وأشجان وآهات وأشواق أنا منى يغنيها، وأنت من يلحنها ويصفق لها؛ لجمال لحظك وقربك؛ أردت أن أحتفظ بها متشوقًا لا مقتربًا.. بريقها أجهزَ على قلبي قبل عيني.. فرحتي بها بين مصدق ومكذب كلما أصبو إليها جعلتني أتفرد بك.

كأني أتمعن نصفي الآخر.. لقد سددت خانات كثيرة، ودفعت رهانات عديدة بين خيالي و واقعي.

لجمال روحك وهمسك وإيقاعك بروحي؛ أرتجي أن تبقى جميلاً كما كنت وإيقاعًا رنانًا كما فعلت، لتكن أنا بروحك، وهذا كل ما يكفيني إن شئت.

وسأخبرك شيئا: من الآن فصاعدًا سأناديك "بسمتي" إن أحببت.

لا تبتلِني بعشقك؛ فأنا لا أطيق الحنين، وأخاف الفقد.

روحك لامستني قبل أن تلمسني.. لامست روحي قبل احتياجي. لعلي أعني أن من لامس الروح فقد سد فراغًا بعينيك، وأسكت ضجيجًا بأفكارك، وأهدأ رجفةً بقلبك، وأذابصقيعًا بجسدك.

اليوم اقتحمت أسواري.. ودخلت إلى عمقي.. لم تطرق الباب لأجيبك.. لم تطرق مرة أخرى لأصدك، أو حتى أن أدخلك لاحقًا.. كفارس ولهان مغامر اقتحمت الأسوار، حينما تملَّكت الكثير مني، عبرت بسلام؛ لتصل كالسهم المتوهّج أضاءته أنوار فؤادي. أما بصيرتي فأنا كنت جملة نصوص غامضة.. أنت من استطاع تفسيرها وترجمتها؛ لتصبح نصوصًا بوضوح الشمس.

عشقك ذنب أخاف أن أقترفه عرفًا وتقليدًا لروعته.. لا أود أن أفقده، ولكن مايجعلني أرغب فيه خوفي لاحقًا ألا يكرره لي القدر.. لا أود خسارتك. دعني أعيشك قدر ما أستطيع أن أرتوي منك حد الاكتفاء.. أقترب منك حتى الجنون.. أحبك بأقصى هيام.. أغنيك بأعذب الألحان.. أختلي بك في أصعب الأوقات.. أحتضنك في أبرد اللحظات.. أستفيقك من كل الغفوات.. أنتشلك من بعض الآهات.. أفرحك كيف ماتشاء وأينما تشاء بقدر ما أشاء.

هذا العالم الذي أخذتني إليه أخذني من عالمي ومن عالم البشر.. أصبحت أحيا داخل عالمك، وأطل بين لحظة وأخرى منه على عالم البشر؛ لأمارس بعض أعمالي التي لا مفر منها، وما ألبث أن أعود هرولة إلى عالمك.. إلى رحابة حضنك.. بريق عينيك.. نضارة قلبك.. إلى كلك.. أخشى أن تفوتني هفوة من تفاصيلك.. فكل تفاصيلك أراها ملكًا لي كما أني ملك لك يا مَلِكي.

رحلة عمل

أصبحت يا سيدي حبيسة سجني اللذيذ.. بين فكري وأشواقي.. ببن صمتي وثرثرتي.. لماذا تركتني معلقة؟ سألتك ولم أتلقَّ جوابًا: أهو كما يقال: الصمت علامة الرضا؟ ولكن ليس في كل الأحوال؛ فصمتك طال، وكأنك لا تزال تقيم شعائر العمل في صمت.. باتت أفكاري تأخذني يمينًا وشمالاً.. ماذا برأسك يا فارس العشق أنت؟

متى تلتقي أنفاسنا؟ نعم لم تفارقني لا في صحوي ولا في نومي منذ تناولنا الغداء معًا بروحك المعانقة لروحي، ولكني أتلهف لعناق أنفاسنا.. لمادية الحب تكمل مع روحانيته منظومة الحياة الحقيقية.

وها هي تتحقق رغبتي.. تتحقق بعد طول انتظار.. تتحقق بعيدًا.. خارج البلاد في رحلة عمل.

وبينما أحضِّر للسفر، تذكرت كم كنت أدعو الله أن أراه، ليس لأسمع تبرير صمته فحسب، بل كانت عيناي تتشوقان لرؤيته وقلبي يعتصر شوقًا للقياه، وأذناي تنتظران إيقاعًا بصداه وجسدي ضياعًا لأحضانه وصعيقًا لدفاه..

هاهو يطل عليَّ.. لم تحتمل الأرض طرب قلبي وهزة جسدي وتسارع نبضي وتتابع مبسمي.. هبتُ حضوره.. أخرست نطقي، واحتويت فرحتي.

أهلاً بك يا سيدي.. رب صدفة خير من ألف ميعاد، ولكن قد تطول الصدف؛ فأنا لا أحب الانتطار. هلا جعلت هناك ميعادًا؟

أجاب بابتسامة زيَّنتها الأشواق، ونظرة ملأها الحنين، وجسد أنهكه الغرام، وقلب أضناه العشق؛ ليزلزلني شوق لا طاقة لي به.

احتوتني نظرته.. أخذتني عن العالم من حولي.. قال لي وهو يهدهد عليَّ:

لم أغب عنكِ كما اعتقدتِ، رغم انشغالي كما ترين الاّن، فأنتِ أخذتِ مني جهدًا أبلغ وأعمق مما قد تتصورين. لم أبعد عنك عنادًا أو تجاهلاً.. إلا لصعوبة أمر عندي، كنتِ على قلبي وفكري أصعب مما تخليتِ وأعمق مما تظنين. يا عزيزتي بحر هواك أخاف العوم فيه.. يا حبيبتي أنتِ كما يقولون:

يا حبيبي يا بحر مالوش أول ولا له شطين ولا له آخر

أنا قلبي معاك من الأول وف حبك دايب ع الآخر

بحرك عميق عميق.. أمواجه عاتية.. مياهه غامرة.. تبتلعني، ورغم أني سباح ماهر وغواص قدير، أجد نفسي مستسلمًا راضيًا قانعًا بقدري.. أجمل قدر.. أن أكون سجين عشقك.. كيف السبيل لشاطئك؟ هل يمكن أن أتمدد على رمالك.. أتنشق نسائمك العليلة؟ ما أعظم أن يكون الإنسان مسيرًا في قدر لا أروع منه! أستخير في أمرك بكل صلاة، وأدعو في جوف الليل ألا يذيقني الله حلاك، ثم يحرمني. هل أنتي تعويضًا لعمر أفنيته في مشغال الحياة، فأفناني، أم أنتِ ابتلاء لا أقدر عليه، أممنحة أتتني متخفية في محنة؟ سواء كان ها أو ذاك أو ذلك، فهو كما قلت قدر جميل، مسير أنا فيه راضيًا كمال الرضا.

هل تعلمين أنك أصبحتِ محور حياتي وفكري الشاغل..الذي لا أجد مفرًّا منه ولا حلاًّله؟ كل يوم أعيد ترتيبه ألف مرة، ثم أعيد ترتيب الترتيب.. أعلم حله، ولكن العلم بالشيء يحجبه القدرة على تنفيذه.. إنها الإرادة التي سلبتِني إياها؛ لتريدي أنتِ، فتفعلي ما شئت كيف شئت. حتى الهروب منك لا أملكه، لا أريده.. ولأكن صريحًا أحبه هذا الأسر.. ولكن أخاف أن أحرم منه.. وأنتظر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

وأنت جاء دورك في الصراحة: لماذا جئتِ إلى هنا؟

جئت للعمل. ألا ترى أننا كلنا جئنا للعمل؟

قاطعني: كاذبة.. جئتِ لتغتاليني بنعومة أنوثتك، وهمس رقتك.

ضحكت: ربما لأصطاد عصفورين بحجر. لا أخفيك.. كنت أتمنى أن أراك وقتها.. قلت أكسب عملي، وأستجم خارج البلاد، وأغتنم لقاك.

ضحك بخبث لذيذ: 3 عصافير!

قلت: سأخبرك شيئًا.. لماذا سآتي لو لم يكن قلبي يريدك؟

وتنهدت: دعنا نركز في العمل، ولا تضيع أجواء السفر بإيماءات الفصل والانقطاع التي تفسد الأجواء الرائعة.. دع الأمور تمشي على سجيتها؛ فهي التي ستحدد مصيرنا يا فارسي.

ونظرت إليه في حسم: اتفقنا؟

رد بهدوء راسخ: اتفقنا.

الهدنة

التزمنا بالاتفاق.. انصب تركيزنا على العمل، وأنجزناه خير إنجاز.. حماستي مع خبرته حققت أعلى نتائج.. وضح لي أننا ثنائي متميز.. في العمل. بهرتني جديته وحنكته، وقبل كل هذا شخصيته القيادية. وانتهت فترة عملنا، وها نحن نعود إلى بلدنا.

ما إن وصلت، وابتعدنا عن بعض، حتى انتابني شوق رهيب.. نعم التزمنا باتفاقنا، لكنه كان معي لا يفارقني؛ لذا لم أشعر بغربة.. ولما عدت، وافترقنا، أدركت الفراغ الذي تركه فيَّ.. وحشة شديدة وشوق لا يقاوم.. حاولت أن أغرق نفسي في دوامة العمل، لكن لا مفر.. لأكرر كلامه الذي حفظته عن ظهر قلب: "حتى الهروب منك لا أملكه، لا أريده.. ولكن صريحًا أحبه هذا الأسر.. ولكن أخاف أن أحرم منه.. وأنتظر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا".

تخيلوا أن أسبوعًا مر بدونه.. أسبوع.. 168 ساعة.. احسبوا كم ثانية تمر بي، وكل ثنية بدهر.. هدنة من ملحمة العشق، لكنها أشد من الحرب وأعنف وأمَرُّ.

دوامة العمل تدور بي؛ لتقلِّبني على نيران الصبابة والهيام، وأنت في جوفها لا تفارقني أبدًا. ولكن هناك أسوار بيننا..

بين عزة النفس والحنين هناك أنا..

أمسك بهاتف.. أكتب لك تارةً.. أحاول مهاتفتك تارة أخرى.. سئمت ذلك الوضع.. لا أتحمل التركيز أكثر.

شهر مر بي على هذه الحال.. أصحو على أشواقي وحنيني.. كم أتمنى أن أراك لتطفئ نار أشواقي التي تحرقني.

التقيت بك..احتضنتك.. أخبرتك كم أضاعني غيابك.. وشتَّتني صمتك.. احضنِّي سيدي.. قلت إنك تغرق في بحر عشقي.. الآن دورك أنت أن تغرقني في هواك.. لا أريد شواطئ.. لا أريد رمالاً، ولا نسائم.. فقط أغرقني في عمق بحرك.. خذني من دنياي إلى عالمك.. أنصِفْني منها.. اروِني من عذب رحيقك.. فبحرك ماؤه عذب فرات..اسقِني من محياك.. متعطشةً له.. سرِّحْ لي شعري الذي بات منكوشًا بكثرة التفكير فيك.. أدفئ جسدًا أنهكه زمهرير غيابك.. أطرب قلبًا يتوق لغزلك.. امسح دموعًا انهمرت شوقًا لأن تكتحل عيناي برؤيتك.

أقدِم حبيبي إقدام فارس ولهان.. لا يحول بينه وبين حبيبته ولا حتى الموت.. كحل هدب عيني بمرآك.. أنعشْ قلبي بغزلك..أطربْ مسمعي بشجن صوتك الرجولي القاهر لكل أنوثة.. كهرب جسدي بما تكنُّه من عشق وهيام. يا سيدي وفارسي وأميري.. دعني أستمتع بشجواك ونجواك؛ ليخبراني بنبض قلبك.. ماذا يخفي عني وعن وصالي؟دعني أنحني تحية لعينك؛ فهي سيدة هواي ولها الولاء فوق جيوش الغرام والحنين تلك بأكملها.. تقول لي إنك أسيري.. يا لك من ماكر لئيم! لو أنصفت لأدركت أنني أنا أسيرتك.. التي تعشق أغلالك.. أغلالك الأمتع من أي حرية يمكن أن نتوهمها.

افعل بي ما تشاء.. إلا أن تضع أي مسافات أو مساحات بيننا.. لا تحبسني في جُبِّ لاءاتك: لا اتصال.. لا لقاء.. لا رسول.

افعل ما شئت.. سأكون معك، وسأفعل ما بوسعي من أجلك.. لا أتحمل أن أراك تائهًا، حتى وإن كان على حساب نفسي.

ما إن تلقى رسالتي، حتى جاءني وعلى غير عادته رده السريع: أعلم أنكِ قوية، وستجتازين الأمر؛ فالله معنا سيعيننا ويهدينا. فلنحاول ونسعَ. كان الله في عوننا.

سأرحل..اهتمي بنفسي؛ فأنا أنتِ.. أراك بخير .. جعلتك في ودائع الله يا عزيزتي وداعًا.

انتصار أحرف وهزيمة بوح

على قدر لهفتي وانتظاري وفرحتي بأن رد عليَّ أخيرًا، على قدر كمدي وحسرتي من قسوة الرد.. "سأرحل"! هكذا؟!! هل صرت مطالبة بتقبُّل الوضع وتجرع مرارة الشوق والبعد، أم أبتلع الحنين؟! "سأرحل".. كلمة فوق طاقتي.حكم بالموت لقلب ما عرف الحياة ولا بهجتها إلا عندما رآك. ماذا حل بي؟! وماذا يمكن أن يحل؟

أصادفه، وليتني لم أصادفه.. صفَّت جيوش الشوق بناظريَّ، وانتصبت خيام الحنين بقلبي، وأشعلت نيران الغرام بقلبي. ماذا بعد؟ هل سأنطق وأبوح أم ألتزم بهدنة بيننا؟ أكان قبولاً مني أم إجبارًا عليَّ؛ ليحتدم عراك بين قلبي وعقلي، وينتهي بانتصار أحرف وهزيمة بوح؟!!

ماذا بك؟ كنت أقضي أغلب الوقت في التفكير بأمرنا، حتى اقتنعت أنها مسلمات بقضاء الله.. لم نملك اختيار الأشخاص ولا اللحظات، فأنت أتممت أغلب مسيرة حياتك لأظهر لك في نهاية المطاف، فهل تفضل العبور، أم تنتظر مع المارة؟ لاحقًا سأعبر، ولكن ليس الآن.. أنت بمحطة العبور الصفراء، لك أن تستريح أو تلحق بخضراء العبور. فمهما طال انتظارنا سنمرُّ بالخضراء، شئنا أم أبينا. سواء كان مرتبًا أو مؤجلاً، مفرحًا أو مفجعًا، سنمضي.. نحن فقط نلتقط أنفاسنا عند الحمراء، ونتأهب للصفراء استعدادًا للخضراء، ولكن هل سنعطي كل ذي حق حقه؟ قد لا نخول على خوض الطريق لاحقًا.

الضوء أحمر

وأنا بينما أكون قد تغلبت على الكثير، واحتجبت عن الأكثر في ريعان الشباب ونضج القرار والعقل، ظهرت بطريقي كعابر يصر أن يمر بغير إذن، فالضوء أحمر وأنت تصطدم بكياني. هل أسعفك لتستعيد العبور والنهوض مجدًا، أم أضمدك وأتروى؛ حتى نستوعب ماحل بنا لننهض سويًا؟ هل سنمضي كما كنا من قبل؟ فالحدث واللحظة وإن طابا وغابا لم يغب شعورهما وأثرهما، كندبة الجرح بالجسد تُجبَر ويبقى أثرها، فمن ذا يجملها؟ أحنين أرواح ملتقى أم أشواق أجساد ملتغى، أم أصداء عشق مبتغى؟

ما نحن فيه عزيزي التقاء أرواح ليس بأجساد فحسب؛ فقد سكنت الأحشاء وأنا أيضًا سكنت، فهل برأيك أن كل الاحتياطات ستلغي تلاقي الأرواح؟ هي من تأسر، فلا الكلام ولا القبلات ولا اللقاءات ستحل من الأمر شيئًا.. سنغيب ونبتعد ونتواصل غيبًا و روحًا.. سنلتقي حلمًا، ونتحادث ظلاًّ ظليلاً.. سأسمع نداءك حين أعلم أنك بحاجتي، وأنت ستجيب عندما أتنهد من تلك الدنيا، ودفؤك سيمسح على رأسي ويخبرني بألا أقلق؛ فأنت معي بقلبك ودعائك.. بصلاتك ستكون حصني كملائكة رحمة تحيط بي في أزماتي. وأنا كبلسم لك عندما تُرهَق روحك من الدنيا ومن حملي عليك، سأكون الدواء قبل الداء.

فلتتركها لله؛ فهو أبصر بنا وأعلم ماكان وما سيكون.. كله مقدر؛ فلنعش بهدوء وروية.

سأترك الجمل بما حمل

لا تزال الأقدار تمدُّ لنا يد العون.. تحنو علينا؛ لتمنحنا أكسيجين الحياة الروحية، تفرش لنا بساطًا مطرزًا من زهور العشق، وتخلق المناسبة التي تربطنا أكثر.. رباطًا لا سبيل ولا مبرر للتملُّص منه، وها هي تقرر ونحن منصاعون لها، أو على الأقل أنا، لقاء جديدًا.. ماذا ترتب له؟ ماذا تريد بنا؟ ظاهريًّا هو عمل جديد يجمع بيننا. كانت فكرة العمل هذه تؤرقني، وربما بالكاد أتجاهلها، أو أصرف النظر عنها، ليس لشيء غير أني أعلم أنه وبمنصبه لا بد وأن تمر عليه تفاصيل التفاصيل.. مرحلة مرحلة.. خطوة بخطوة، ولكني رغم يقيني بهذا، إلا أنني أؤمن أنه لا فكاك من لقائه، الذي يستمد حتميته من جبرية القدر.. لقاؤه قهري، سواء كان مع حشد أو فردًا.. لست أرفض اللقاء، فأنا أتلهف عليه.. ولا أخاف من العمل، فكفاءتي تضع قدمي على أرض الثقة.. راسخة رسوخ الجبال، شامخة شموخ السحب.. أنا لا أرفض اللقاء ولا أخاف من العمل.. أنا أخافه؛ فهو في عمله يكون كالسيف البتار، وعلى قدر انتظاري للقائه على قدر خوفي من أن يعكر أسلوب عمله الجاد الحاد صفو عالمنا الحالم.

ياإلهي..ماذا أفعل؟ عقلي شرد.. تفكيري تشتت.. طريقي صار متاهة.. عونك يا ربي.. تراودني نزوة الانسحاب من عمل الدعاية.. أن أقفل باب رزقي وأصد نفسي عن هوايتي وانسجامي بذلك المجال، إن كان هذا سيشتري راحة بالي ويهدئ أنين قلبي، ويعمي عيني عن مباغتة الصدف، ويلملم شتات فكري، ويضمد جراح روحي، فسأفعل. بالفعل كان قراري أن أترك العمل معهم، ولا ألتحق بإحدى الشركات المماثلة؛ خوفًا من أن يروج لي القدر روءيته في إحدى الشركات المغايرة.. وحسمت أمري "سأترك الجمل بما حمل".

وجهًا لوجه

ما هو آخر شيء قلته لكم؟ أني حسمت أمري "سأترك الجمل بما حمل"؟

لا أعتقد أني يمكن أن أقول مثل هذا الكلام، لكن ما أعرفه تمامًا أني هاتفته كثيرًا، فلم يرد.. بعثت له رسائل، فلم يهتم.. فجر فيَّ بركان غضبي. إنني أتصل به من أجل العمل.. نعم.. وما دام لا يرد، فسأتصل بالسكرتيرة؛ لآخذ موعدًا؛ حتى لا يتعطل العمل. نعم لا يتعطل العمل . فنحن لا نمزح.. الشغل شغل.. أخبرتني السكرتيرة أنه خارج البلاد.. أغلقت الخط من فرحتي.. ياااه ظلمته.. الحمد لله.. لم يكن يرد لأن رقمه المحلي لا يعمل في الخارج. صبرت يومًا، وعاودت الاتصال بالسكرتيرة، فأخبرتني أنه لن يحضر اليوم، وربما غدًا أيضًا. عاودت الاتصال بعد غد؛لأخبر السكرتيرة أنني لا بد أن أراه لسبب طارئ، فأخبرتني أنه جاء للمكتب نصف ساعة، وأخبرها أنه سيسافر مساء اليوم إلى فرنسا.

وتابعت: ألست سيدتي مديرة الدعاية التي زارتنا من قبل؟

تلجلجت في الكلام: أ.. أنا هي..

تابعت بأسلوب السكرتيرة المخضرمة: هل هناك شيء تريدين أن أبلغه له؟

ترددت: لا.. شكرًا.

: هل أعطيكِ رقمه أو إيميله لمراسلته؟

أجبت ضاحكة: لا..أريد أن أقابله وجهًا لوجه أفضل.

: هل أتصل به لأخبره؟

: لالا.. ميرسي جدا.

كفاكما عراكًا

تأكدت الآن أنه لم يلغِ لقاءنا.. وأنا قررت أن أسافر لألقاه.. أسرعت بتجهيز حقيبة سفري، وبالفعل توجهت إلى المطار، وكان الحظ أن أصادف في أول رحلة مقعدًا مُتاحًا..فرحت جدًّا لتيسُّر السفر.. لا أعرف سر فرحي الشديد: هل لأني سأراه بعد طول غيابه عن ناظري، أم لأني أخيرًا سأواجهه، وأنهي الموضوع من جذوره؟ لا أعرف بالضبط، لكن ما أعرفه جيدًا أني ينتابي شعور بسعادة وبهجة عجيب. أهو

عقلي الباطن ينبش عما يحب؛ ليقول انتهزي الفرصة، ربما ذلك التيسير علامة لكي أصبر وأنال مبتغى قلبي. آه يا قلبي.. آه يا عقلي.. كفاكما عراكًا.. سأجن أو سيتوقف نبضي عن الحياة.

وصلت إلى المطار، وكانت لديَّ شحنة طاقة كافية لأن تكون وقودًا لمكوك فضائي وليست طائرة فقط.. لكني للأسف أسافر الآن وحدي.. كم كنت أتمنى لو سافرنا معًا.. حاولت كثيرًا أن يرد عليَّ؛ لنتفق على أن نسافر معًا.. أقصد حسم أموري معه، لكنه لم يردَّ، وكأنه يريد أن نحسمها خارج مصر.. كم كنت أودُّ لو حسمت أموري أولاً بأول معه..

سأحلق كسحاب وأهبط بأمان

كانت هذه الهواجس.. أقصد الأفكار تراودها وهي تصعد سلم الطائرة.. ما إن استقر جسدها على مقعدها، حتى بدأت الأفكار تستقر، حيث إنها قررت أن ترتب أفكارها المشتتة.. ماذا سأقول له عندما ألقاه؟ سأخبره أني لم أكن لأقبل أن تضع إحدى صديقاتي نفسها في هذا الموقف الشائك، وبالأحرى لا أقبله لنفسي.. نعم.. نظر كيف صار حالي بعد ما استجد في حياتي منذ دخولك فيها. كانت حياتي مرتبة ومستقرة. الآن أجد نفسي معلقًا في الهواء، ولا أدري هل ولا متى ولا كيف سأنز ل إلى الأرض؟ ومن يضمن لي أن أنزل سالمة، وليس على "جدور رقبتي"؟!!

ووجهت هذه المرة كلام لنفسها: هل أصبح حلمًا أن أعيش ككل البشر حياة طبيعية؟ لم يكن إذًا رفضي وتجاهلي لما يطلقون عليه الحب طوال تلك السنين من فراغ، وإنما من نضجي ووعيي. وهاهو الذي يسمونه الحب أول شيء يفعله هو أن يسلبني نضجي ووعي، كالمخدرات التي تأتي على الإرادة فتقهرها، ثم تسوق الإنسان كيفما شاءت، وحسبما شاءت، ووقتما شاءت.

لا بد من ثورة لتحطيم تلك الأغلال.. لا بد أن أعالج من داء الحب الذي أصابني متأخرًا رغم كل التطعيمات والتحصينات.

يجب أن أفيق.. هل نسيت نفسي؟؟ أنا التي يضربون بها المثل تصبح اليوم عبرة؟!!!

لا سأعود إلى نفسي؛ لأكون أنا.. لا بد أن أكون أنا، حتى لو كنت أحب ملك جمال الكون. ما قيمة أن أحب فارس الغرام، ولا أجد نفسي، بل أخسرها؟!!

ظلت تحمس نفسها، حتى توقدت حماسًا هائلاً.. لفت انتباهها منظر السحب والطائرة محلقة، فنظرت إليها، وقالت: هذه السحابة هي أنا.. كانت أنا. قبل أن أعرفك كنت في كبد السماء متربعة "محلقة"، وأنت أتيت جعلتني "معلقة" في الهواء.. في الفضاء والخواء.. يتبعه سقوط إلى الهاوية.. ليته حتى انحدار، لكن سقوط بقوة الصدمة التي سأتلقاها منك.

وتنهدت: لا أدرى من الأحمق الذي خدع العالم والأجيال المتعاقبة بأن الحب جميل وممتع؟

إن كان الحب متعة وسعادة، فماذا يكون العذاب والشقاء؟!

ما هذا الشقاء الذي أنا فيه؟! لقد وضعتَني يا عزيزي في عذاب يُمثِّل بروحي قبل جسدي.. لا أنا من وضعت نفسي، فما كان أغناني عن كل هذا! لكن لا.. هي حياتي وأنا صاحبة قرارها.. ولن أترك مصيري في أصابع غيري يعبث به.. سأعفُّ نفسي، وأصونها، وسأسد ذلك الباب الذي أتتني منه الريح. لن أتركك تعقلني في الهواء.. سأهبط إلى أرضي بأمان.

ما إن أنهت هذه الجملة، حتى كانت الطائرة تهبط إلى الأرض بأمان..سارعت بالاتصال به؛ لتبلغه قرارها في سخونته.. بل برودة تجاهله أو انشغاله بعدم الرد أحبطتها.

عاودت مرارًا، ولا رد..كتبت رسالة "رجاء الرد للأهمية". أخيرًا سمعت صوته:

أهلاً..خير؟

: كل خير.

انتظر ان يسمع منها "كل خير". تاهت الكلمات من عقلها.. عبثًا حاولت تستجمعها.. فلم تسعفها اللغة.

لم تجد إلا هذه الكلمات تخرج من فمها بتردد لا يخفي دلالاً:

أنا هنا وبانتظار أن أقابلك.

صعق من الخبر: كيف؟! وأين أنت الآن؟! لم تخبريني من قبل.

: كيف أخبرك وأنت لا ترد على رناتي؟

ببرود غريب: حسنًا..ممكن تكلميني بعد ساعة؟ لأني في اجتماع عام؟

: أنا أتيت من أجل العمل الذي بيننا.

لم ينتظر لسماع هذه الجملة، أغلق الخط؛ ليستكمل اجتماعه.

لم تلحظ أنه أغلق الخط، وربما لم تعبأ، وواصلت كلامها:

جئت لأجلك.. قطعت كل تلك المسافة لكي أراك خارج البلاد؛ لأني أعلم أنك تكون صافي الذهن عما إذا كنت قريبًا من أجواء عائلتك وعملك كما أخبرتني سابقًا يا عزيزي. عمومًا لن يستغرق وصولي إليك ساعة من الزمن. لن أتأخر عليك.

أفاقت نفسها: أغلق الموبايل!!

لا يمكن أن تتخيلوا مدى حرقة الدم التي غشيتها.. نزلت من الطائرة شاردة لا ترى أمامها.. من يراها من بعيد يظنها مريضة بـ ""somnambulismالسير أثناء النوم..

رفعت الموبايل لتكسره، توقفت.. تأملته.. فتحته.. رسالة منه "أنا قدم إليك.. لا تتحركي من المطار حتى آتي إليك".

كادت ترقص طربًا، لكنها تماسكت.. الثواني الآن ساعات طويلة.. لكنها ممتعة. صدق من قال إن عذاب الحب متعة.. حب؟!! لالالا.. أنا قررت الحسم.. لا تراجع.. وهذه طبيعتي.. لا تراجع ولا استسلام. ما إن أراه حتى أصفعه بقراري، وليكن ما يكون حريتي وكرامتي فوق كل اعتبار.

وقضت وقتها في تخيل كيف ستكون أول لقطة من اللقاء.. قامت مسرعة إلى الحمام.. تفحصت نفسها جيدًا.. ملابسها.. ماكياجها.. كل تفصيلة.. فهو حسب رأيها فيه خبير تفاصيل، وهو يدقق في تفاصيل التفاصيل.

لا تقولوا ما شأن مظهرها بقرارها الحاسم؟! هي من قبل أن تعرفه تهتم بمظهرها اهتمامًا بالغًا.. إذًا هذا الاهتمام خاص بها هي لا علاقة له باللقاء.. هكذا أقنعت نفسها، واقتنتعت.

أيضًا تابعت الجوهر.. لملمت لهفتها.. و رتبت منطقها.. نمَّقت حديثها.. شدت من عزمها..أوثقت ربطة عقدة كبريائها.. الآن هي جاهزة للقاء.. وقرارها الصادم سيكون تحية لقائهما بلا هوادة ولا توانٍ ولا تراخٍ ولا تمهل.. هو هو أهملني عندما اغتالني واتخذني أسيرة، بل جارية؟!

نعم جارية.. هذه الكلمة لها مفعول السحر في شحن المرأة والدوس على مشاعرها نقطة ضعفها.. أنا لست جارية.. وظلت تكررها وتكررها.

ها هو يطل من بعيد.. يشير إليها.. انتفضت من مجلسها..لكنها ما لبثت أن تماسكت وهو بروحه النافذة يشير إليها.. لم يغضب لتباطُئها.. أسرع إليها.. شعاع عينيه وهو يقترب يجذبها.. عيناه القناصتان مصوبتان تجاهها.. لا تريان غيرها.. وعيناها مثبتتان.. هل هو تنويم مغناطيسي؟ هو سحر عينيه؟ هل هل هل؟ إنه سحر الحب الذي يستعبد المرأة.. نبضات قلبك تتسارع مع تسارعه للوصول إليها.. ما إن اقترب حتى كاد قلبها يقف من الإرهاق. مارد الجندي المقاتل بداخلها يتضاءل.. يتضاءل يتضاءل.. رفعت الراية البيضاء.

لم تضيع فرصة النهم والارتواء من عذب عينيه. فما أظمأها لذلك الكوثر، الذي لا تظمأ بعده أبدًا! ظلت تحدق بعينيه ترتوي وترتوي من محياه لتسقي جسدًا بات من الفراق متيبسًا، وهو الآن ينتعش ويخصب.. التقطت أنفاسها وهي تلتقي بأنفاسه أخيرًا.. يا لهيبتك! يا لرجولتك! لأول مرة تفرح أنها أنثى.. أن هذه الأنوثة تلك الرجولة.. ما أيسر أن يمنطق عقلها الأمر! أماالقلب فارتاح بعد مشقة عناء.

صافحها.. وصافحته على استحياء مكبوت.. كانت تتمنى أن يحضنها.. لكن لا يصح. على الأقل نحن بين الناس.

ابتسم وهو يقول لها: حمدًا لله على السلامة.

وتابع: لقد فاجئتني بهذا التهور. لم تخبرني أنك ستأتين.

ردت: وهل لا بد أن أخبرك.. نسيت أن بيننا عملاً؟

: لا، ولكن لم تخبريني أنك ستأتين اليوم.

وجدتها فرصة للتعزز، فقررت ألا تخبره أنها جرت وراءه كثيرًا، ولم يرد عليها.

قالت: وماذا كنت ستفعل؟

قال: كنت سأنتظرك، وألغي الاجتماع؟

: تلغي الاجتماع؟! معقول؟!

ضحك: معقول جدًّا. أنا بالفعل ألغيت الاجتماع، وجئت إليك مسرعًا. المهم طمئنيني عليك.

: أنا بخير، ولكني لم أرتب كل شيء للعمل.

: دعك من ترتيب العمل.

: لم أرتب لأني كنت أبغي أن نلتقي بمكتبك، ولكن شاءت الأقدار أن نلتقي هنا ربما أفضل.

: أكيد أفضل..

وحمل الحقائب عنها: هيا بنا أوصلك إلى الفندق.

: فندق؟!!

: ألم تحجزي في فندق؟

: حجزت، ولكن رؤيتك تفقدني تركيزي يا سيدي.

: رؤيتي؟! وماذا أقول عنك وعن رقتك وأنوثتك الخمرية؟

: أنوثتي الخمرية؟!

: نعم. أنوثة تذهب العقل.

: أنوثتي أم كلامك؟

: كلامي هو انعكاس لجمالك ونعومتك.

: لنتكلم في العمل.

: نتكلم في الطريق.

: لا هنا.

رمقها بنظرة استغراب: هنا؟! لماذا؟!!

: لأن هناك كلامًا لا بد أن أقوله الآن.

: حسنًا قولي.

: لم أعد قادرة على التحمل، ولا أستطيع أن أكمل العمل معكم أو مع أقرانكم في هذا المجال. سأترك الجمل بما حمل، ولا أطيق تصرفاتك القاسية معي. حجبت جميع وسائل التواصل عني.. كنت أتابعك بشق الأنفس.. تعبت.. تعبت جدًّا. لقد أوجعني هذا يا سيدي.

وانتفضت وهي تصيح: أنا لست جارية.

هدأ من روعها، وقال: من قال إني حجبت نفسي عنك؟

انفعلت: كل ما فعلته وتقول من لم تحجب نفسك عني؟!!! تريد أن تجنني؟!!! هل تحب أن ترى جنوني؟ لا مانع.

طبطب عليها: اهدئي.. اهدئي.. واسمعيني، ثم احكمي بما شئتِ.

سأسمع كما يسمع القاضي لأقوال من صدر ضده حكم بالإعدام لثبوت الأدلة القطعية.

: موافق على الإعدام.. وسأكون راضيًا تمامًا، ولكن ابنتي كانت مريضة مرضًا شديدًا، لم يحدث لها في حياتها.. مرضًا فاجأنا جميعًا بهجومه وتعجله على قبض روحها.

: مرض؟!! السكرتيرة قالت إنك كنت مسافرًا.

: نعم سافرت بها لعلاجها، ولكن حكم الله كان أقوى من أي علاج.. ومع ذلك أوصيت السكرتيرة ألا تخبرك؛ حتى لا تقلقي. قلت تغضبي أفضل من أن تُفجَعي.

: هذا الكلام غير معقول وتبرير غير مقبول. كان يمكن أن تخبرني.. بل كان يجب..

: الظروف التي كنت فيها لم تكن لتسمح لي بأي مكالمات، وحتى العمل كله أوكلته لمدير التحرير.

وطأطأ رأسه: ما كنت أتمنى أن تعرفي.. لكن ثورتك وشعننتك و أنوثتك المتوهجة.. النارية.. ماذا أقول؟!!

لقي كلامه مردودًا رائعًا وكأنها كانت تنتظر هذه الكلمات، سألته بدهاء الأنثى لتشبع رغبتها:

مالها شعننتي وأنوثتي المتوهجة؟

قال: شعننتك جعلتني أخبرك بما لم أكن أحب أن أصدمك وقلقك به.. وأنوثتك المتوهجة دائمًا ما تفقدني السيطرة.

بعد أن أشبعت أنوثتها، بدهاء آخر قاطعته من باب خجلها: أتعلم؟ أحسست أنك مريض، وكنت أتقطع من داخلى لأصل لشيء يطمئن قلبي. فما رجوت غير الله أن يحميك ويهدئ من روعي. كان قلبي يتفطر كلما انتابني وهم أنك مريض.. أنينك كان بقلبي قبل أذني، وحُمَّى جسدك كادت تحرق صبري عليك.

كنت سأجن.. تمنيت أن يقبض الله روحي ولا يمسَّك سوء.

بدهشة كبيرة: فعلاً أنا تعبت جدًّا وأنا أعالجها.. من أين عرفتِ؟

نظر إليها باستنكار: من أين؟!

مسح على شعرها: أقصد قلبك، أم السكرتيرة؟

قالت: اسأل قلبك أنت يخبرك.. قلبي كان سيتوقف من الرعب عليك.

قاطعها مفزوعًا.. لا ندري هل حقيقي أم مجاراة للحوار: بعد الشر عليكِ. أي ضرر يهون.. إلا أنتِ.. من غيرك كيف سأعيش؟!

والآن برأيكم هل يمكن في مثل هذا الموقف أن يكون لقرارها الذي حسمته أي موقع أو مجال؟ خاصة في هذا الموقف الذي تطور بشكل لم يخطر ببالها؟!

هل تتصورون أنها ستنفذه؟ هل هي تتذكره أصلاً؟

هي لم تنسَ قرارها فقط، بل ستنكر أنها قالته من الأساس.

وإن شئنا الحق هو قرار لا محل له من الإعراب.. مجرد ذِكْرِه يفسد تلك الأجواء التي لا تجدها إلا في الأحلام.. فما بالك وهي تعيشها في الواقع؟!!

لحظة لهثت وراءها كثيرًا، وهي الآن بين يديها.. لحظة انتظرتها سنين طُوالاً.. تعيشها الآن.. وفي يقينها أنها لم تكن تعيش من قبل.

هذا عنها.. فماذا عنه هو؟

طأطأ برأسه، وشرد في تفكير عميق: قد تكون رسالة الله لي أن هذا تكفير لخطيئتي وتحذير من فقد نعمة أنعم عليَّ بها. فمن يتأمل المفقود قد يفقد الموجود !!!

انتبه إلى أن كلام أخذ محملاً آخر، فتابع على نفس الوتيرة موضحًا:

أصبو إليك نعيمًا تاركًا خلفي نعمًا.

رفع رأسه، وملأ عينيه بها، وقال وهو يضع يديه على كتفيها:

أنت نعمة عوضني الله بها عن كل شيء.

ردت عليه:

لا تخلط الأمور.. فالله أعدل وأرحم من أن يأخذ ابنتك بذنبك؛ لذلك هناك مقولة تقول "من على رأسه بطحة يتحسس عليها". وأنت أبعد من يكون عن البطحات. ما أصابها هو قدر الله.. عمرها.. لا علاقة للعمر بالذنب.. قد يكون مجرد توقيت مع محنتك؛ لذا يجب أن تفصل بين الأمور.

تنهدت، وتابعت: ولكن عمومًا هذا شيء جيد.. أن نراقب الله في أنفسنا وذوينا. طمأن الله قلبك عليها.

فاجأها بقراره: أنا سأرحل الآن، وسأكون معك جنبًا إلى جنب في هذا المجال.. فأنتِ متميزة، ولا يزال لديك الكثير.. فلتتماسكي، ولتفصلي بين الأمور كما نصحتني للتو. في أمان الله..

ورحل.

رحل وتركني في تيه.. وقفت محاصرة بالتساؤلات: هل كنت متحاملة وجبارة عند قراري الذي تراجعت عنه؟ هو أيضًا أخذ نفس القرار. فهل توافُقنا على الرحيل يعني أن قرارنا صائب؟ لم أدرِ بنفسي.. رجعت للبلاد، ولم أكن مدركة لما حولي.. شغلت نفسي في العمل بمجرد وصولي؛ لأستفيق من أنين الوجع والألم اللذين يعتصران جسدي.ورغم هذا لم يتركني طيفه. لم أنم ليلتين..وهو لم يفارقني لحظة.. يومان قضيتهما خارج السيطرة.. خارج عن الزمان والمكان.. لا أدري مر اليومان.. وحتى العمل لم يبعده عني، ولم أستطع التركيز في عملي.

رويدًا رويدًا بدأتُ أدرك ما حولي.. أخيرًا استرددتُ عافيتي.. كان هو قد عاد أيضًا من الخارج.. بعثتُ باقة زهور لابنته، ورسالة "حمدًالله على سلامتك"، ودفستُ روحي بين أوراق الزهور؛ لعله حين يقرأ الدعاء يقول "ولكِ بالمثل يا عزيزتي"، ولعله يقبل ابنته عوضًا عني.

ما إن وصلت الرسالة، حتى لمحت زوجته على وجهه تغيرًا لافتًا للانتباه.. سألته باستغراب:ماذا حل بك؟! لقد بدأت تقلقني. من مرسل هذا؟!

أجاب أنه من أحد العاملين بالمجلة.. وقد مرَّرَتْ زوجته الأمر برغبتها، أو لثقتها بزوجها، وعدم تخيُّلها أن يكون قد زاغت عينه؛ لما عرفَتْه عنه من جدية وانشغال

لا يسمحان له بأن ينظر لغيرها.

اليوم سأراه في الاجتماع. على الأغلب سأكون قد تجاوزت الألم، وأعوض الغياب والفقد.. أعتقد أنني الآن على مايرام.. الحمدلله أن الفترة الماضية مرت بسلام.. لم أعد ألقي بالاً لشيء. أتعبتني كثرة الأشغال والالتزامات، التي حاولت أن أتناسى بها آلامي..أضافت إليَّ تعبًا، إلى جانب تعب حنين أرهقني، وشوق أضناني، وذكرى أسرتني، وخطيئة قتلتني، وذنب قيَّدني.

رباه كن معي حين أراه، واربط على قلبي وقلبه، فأنت أملنا.. اجعلنا متوكلين عليك؛ وحياتنا كلنا لرضاك.

الآن سنلتقي وجهًا لوجه.. وصلت إلى مقر المجلة.. وقفت أمام باب قاعة الاجتماعات.. أراقب المكان من بعيد.. تابعت بعيني الحضور.. تفحصتهم بحثًا عنه؛ لتقع عيناي عليه من بين عشرات الأشخاص حوله. ياللهول! أتركيز هذا، أم عيناي متعطشتان متوهمتان؟ قد يكون أحدًا غيره، وتراه عيناي بعدسة أخرى أنه هو.. فعيناي باتتا من دمعهما تريان الدنيا بين بياض وسواد، وكأن طيفه أخذ ألوان الحياة معه حين ودعني في المرة السابقة. فكل مرة يودعني فيها كان يحمل بعضًا مني، وأنا أصبحت الآن مفزوعة.. فلم يتبقَّ غير جسد منحول.. فالروح صار ملكك.. والقلب في قبضة يدك.. والعقل طوع أمرك.. والعيون بألوانها والحياة بنكهاتها معك. أما الجسد هذا فماينقصنا على الأغلب والأرجح أنه مايعرقلنا.

أرى المارة يمينًا وشمالاً كبارًا وصغارًا. آه و أخ.. كم أودّ أن أصرخ لأشتكي منك لتلك الأفواج الغفيرة من الناس. أحدق النظر إليك.. وأطيله، وأراك منهمكًا في الكلام والشرح والترويج.. لم أعد أطيق أن أراك تحادث أحدًا، أقول لك "اخرس. أنت لي أنا". أكاد أعضُّ شفتي قبل أن تخرج كلماتي..آه على وجدك! وآه على طيفك! تحاملت قليلاً، دخلت القاعة أخيرًا.. اقتربت شيئًا فشيئًا، حتى وصلت إليه.. بادرت بالسلام عليه. لم يرد التحية، فقد ردتها عيناه المتلهفتان على حذر شديد من "الصَّبُّ تفضحه عيونه"..ردتها في لمحة.. رأيتنا في عينيه.. هو يحضنني بشوق كبير.. يرفعني، وأنا أطير في الهواء ممسكة بيديه.. أدور كالفراشة، وحولنا الزهور تتناثر وتتناثر؛ لتملأ الأجواء بألوانها وعطورها الأخاذة. ينزلني إلى الأرض المفروشة أيضًا بالزهور.. يغطيني بجفنه؛ لأنام في حلم لا أريد أن أصحو منه أبدًا.

لا أزال تبهرني تلك العينان في كل مرة ألقاها بشيء مختلف ومميز.. احمرَّت وجنتاه، بل وجهه بأكمله رغم كل حرصه، وكأنه الورد بحمرته، وعجزت شفتاه عن الرد؛ من شدةالعشق؛ لأجيب أنا عنه السلام والكلام .

ولاتزال نبضات قلبه المتسارعة تكاد تضج بالمكان طربًا بي، وأنفاسه تتراقص فرحًا برؤيتي.

أتى إليَّ، وأخذني إلى ركن بعيد عن التجمع، سألني وهو يلتقط أنفاسه: كيف حالك؟

: الحمدلله. كيف عرفتني وأنا لم أكشف عن وجهي كاملاً؟

وهل تُنسَى هاتان العينان؟!هل أقدر على تجاهُل صوت المُشبَّع حنينًا؟ لقد رأيتِ كم بعثرني قدومك. فأنا أجيد الابتعاد والانفصال إلا عن عينيك وصوتك؛ فهم من يثبطون عزيمتي ويبعثرون صفوي.. دائمًا ما يفسدون جبروتي وصبري. كل مرة أعتقد أنني تجاوزت، أكتشف أنني لا أزال عالقًا وربما غارقًا.

وبعينيه الحانيتين هدهدني قائلاَ: لِمَ أرى بك كل هذا الإجهاد والهزال؟! ماذا أصابك؟! لم أعهدك هكذا بهذا الانكسار!

فقلت: لاشيء. أنا فعلاً متعبة من ضغوط العمل ومرهقة بعض الشيء..

تنهدتُ وأنا أتأمله بعينيَّ الناعستين: لا عليك.. سأكتفي من الراحة، وسأكون على ما يرام يا عزيزي.

تفحصني: أتمنى ذلك.

وتابع وعيناي تحتويانني: أتعلمين أن حبك أصبح ينخر ويدق برأسي؟ أما جسدي فتولاه الهوى وأضناه، حتى انتهى بعشق أدماه.

اشتقت إليك كثيرًا.

أتمنى أن أخبره بحرارة شوقي له ومرارة فقدي له.. تماسكت، وأخبرته أنني لا أرغب في التحدث؛ فالكلام ما هو إلامتنفس لمن لا متنفس له؛ فلا هو سيحل شيئًا، ولا ينهي الأمر؛ لذلك ألتزم الصمت. فما أقسى الظروف التي لا تعرف الرحمة، وتتلهى بالتحكم فينا وتعذيبنا! وكلامي لن يعدو ثرثرة لن تسمع.

وكأنه قرأ ما بخاطري، فقال: سأخبرك شيئًا يا عزيزتي.. أنا أحبك.. ولا يعنيني أي شيء غيرك. أنت لي، ولو التقينا متأخرين، لكننا التقينا أخيرًا.

صحت في أعماقي: لا فائدة!!

قلت: هيا بنا إلى الاجتماع.. الجميع لاحظوا أننا انفردنا عنهم.

: لا يفرق معي.

: هل نسيت أننا في وقت عمل؟ أين رئيس التحرير الحاسم؟ هذا ما بهرني في شخصيتك.

أفاق وقد انتشى من كلامي: آه صحيح.. أرأيتِ أني معك أنسى الدنيا بما فيها؟!

كنت أكثر نشوة منه، ولكن قطعت نشوتنا ذهابنا إلى الحضور؛ لاستئناف الاجتماع الذي لم أحضره من بدايته.

قرارات مصيرية

كان يوم عمل طويل.. لكنه مر بسرعة البرق.. ما كنت أتمنى أن ينتهي أبدًا.. ليت الزمان توقف عند هذه اللحظة، ولم يتجاوزها.. لكنه مر، وانتهى الاجتماع؛ وجدت نفسي مضطرة لأن أعود إلى بيتي.

نعم هي لحظة من اللحظات النادرة والتي أنتظرها على شوق شديد، ولكني في طريق عودتي عادت لي عزيمتي.. لا أودّ أن أراه مجددًا؛ فأنا بالكاد أخرج من وحشة وعتمة غيابه إلى ضجيج وصخب لقائه؛ لأعود إلى كهف الآلام وعذابات الشوق.

: توقفي إلى أين ذاهبة؟

كان يقف خلفي وأنا أخرج من باب مقر الصحيفة..

بجسم مثقل وعينين أرهقها السهر ولسان أضناه المناجاة قلت له:

متعبة، وسأعود للمنزل. ماذا هناك؟

أجاب: أرجوكِ لن أطيل عليكِ.. سأدعوك إلى العشاء.

: عذرًا لا أشتهي الطعام. قل ما عندك الآن.

بنفس هدوئه ووقاره: سنتناول القهوة التي تحبينها يا عزيزتي، ولن أطيل عليكِ.

: حسنًا سأذهب، ولكن بسرعة؛ فأنا متعبة للغاية.

نصف ساعة قضيناها سويًا.. نتحادث بلغة الجسد عيون تنظر وأخرى تحدق وتجيب بطرفة، ثم تُثقَل بالدموع؛ لتفجر الأرواح بالبوح الممنوع..

ليقول ماذا فعلتِ بي؟! أتردين صمتي بصمتك هذا؟! جعلتِني أهيم بك، وكدت أشك أنني سُحِرْتُ بك وسُحِرْتُ منك. هل فعلتِ شيئًا لي؟

قرأ في نظرات عيني ابتسامة وتحقيرًا لذلك الافتراء..

أدرك أن الرسالة وصلت خطأ.. خانه التعبير: عذرًا لا أقصد، ولكن شُلَّ تفكيري، وضللْتُ الطريق.. أنا حائر بك ومنك.. فيكِ وجدتُ الضدين.. أنتِدائي ودوائي.

فكرت: حالنا واحد..

تابعت: في كل مرة أصلي في أواخر الليل؛ فمنذ أن عرفتكِ والنوم هجرني، وكأنك أخذتِه معك هو وروحي التي سكنت فيك وعقلي الذي فُتن بك. لا أملك سوى هذا الجسد الذي ترينه. دعوت ربي أن يجمعني بكِ في خير وعلى خير؛ لكي تأخذي ما تبقى من هذا الجسد، وأكون كلي لكِ؛ فيستقرَّ حالي.

كلماته أخصبت جدب روحي.. أنبتت حدائق غنَّاء.. وهو لم يمهلني أستوعب الدفقة الشعورية، وواصل بحسم:

أريدك زوجة وحبيبة وعشيقة.. أريدك أن تكوني الشيء الجميل في حياتي.. أريدك لي وحدي.. أنا من يستمتع بجمالك.. سأحجبك عن الدنيا؛ لأشبع حقول الفقد بداخلي وأروي فؤاد العشق بناظريَّ.. أريدك بستانًا، بل بساتين لي.. أنا من سأزرع وأنا من سأحصد، فأنتِ تربة خصبة ليس لها بذور غيري؛ لتثمر حبًّا وهيامًا.

لم أعد أدري بنفسي من كلامه الذي غيَّبني عن وعيي.. فأكمل عليَّ..

: سأخبرك أنني أحببتك أكثر مما تحبينني، وأني تعبت أكثر منك، وفكرت فيكِ أكثر مما فكرتِ فيَّ وأكثر مما فكرتُ في نفسه. وأنا من أفوقُكِ خبرةً وعلمًا وعمرًا وحنكةً، فلعلي أبصر منك ما لا تتخيلين، وهذا الفارق بيننا.

أجبت: إن كنت ذَا خبرة فوجهني، وذا علم فأرشِدْني، وذا حنكة فصوِّبْني.. إن كنت كل هذا، فكن لي هكذا، فلك ماشئت ولي ما أشاء منك.

انظر ماذا فعلتَ بي أنت وهواك.. حدِّقْ بعينَيَّ الغائرتين وجسدي المنهك، واستمع لنبضي المرتجف و أحرفي الهاربة من منطقي. كُفَّ عن هذا، كلٌّ منا يرى أنه الأعمق بحزنه وحبه، والله يرى من الأكثر منا؛ لذا لا داعي للمقارنة.

أرجوك لا تتلف أعصابي أكثر من هذا. أنا أريدك، ولكن أسوار المنطق تعوق بلوغي لك.. وجودي سيهدم عائلتك.. لا أتحمل أن أهدم أفراد عائلتك تبعًا لهوانا. فمن باب أولى من ترك لله شيئًا، عوضه الله عنه.

أجاب: أنا أفكر مثلك، ولكن ما الحل برأيك؟ أنتِ لا تتواصلين، وأنا لا أواصلك، وكلما تباعدنا، وعاندنا، ضاق المسافات والمساحات بيننا.. الأرواح يا حبيبتي الأرواح لها نفوذها.. فكيف لنا أن نصادمها وهي غلابة؟!

: سأذهب للعمرة؛ لعل الله يسمع نداء قلبي وضعفه تلك المرة.

وانتهى اللقاء على هذ العزم.

لقاءات خيالية وفرضيات واقعية

أصبحت أراك بالخيال، وربما وصلت للاستقرار بعالم الخيال.. هناك حيث لا ذنب مقترفًا، ولا نهج متبعًا ولا وقت مهدرًا ولا شيء منتظرًا.

أصبحت أراك في اليوم ألف مرة.. تارة أحتضنك، وتارة أقبلك، وتارة أوبخك على تأخرك عني؛ فأنا لا أطيق النوم حتى أخبرك عن يومي كاملاً.

أخصص لك وقتًا في منتصف يومي؛ لأخبرك عن جديدي.

أستمع للأغاني، وأعزفها على لحن هواك، وأشكرك على إهدائها في نهاية المقام.

أعزف أشجاني وأشواقي على لحن أوتار من خواطري وآلالامي.. أغنيك وأُلحِّنُك، فلا أنا اكتفيت، ولا أنت أجبت.

أنظر للواقع.. كان منافيًا لخيالي، فأجعلهما في عراك دائم، وأكون مع من يهدئ من روعي أولاً.. قد أمزج بينهما؛ حتى لا أبعد عن حائط الأمان.

أنام مجددًا، وربما أختلق النعاس؛ لكي أراك في حلمي، أفعل كل ما تشتهيه نفسي معك؛ فلا ذنبَ يلاحقني، ولا ضميرَ يؤنبني، ولا مصيرَ يحقرني، ولا همَّ يستوليني، ولا نَصَبَ يُضنيني، ولا حزنَ يرهقني، ولا خوفَ يٌرهِبني، ولا فقدَ يستحوذني.

بالكاد أحاول الهروب من شيء نغص واقعي وخيالي.. أعلم أنه حق، ولكن لنفسك عليك حق؛ فمن باب أولى لا يُحمِّل الله نفسًا فوق طاقتها.

زوجتك عصرت قلبي.. غيرتي منها تشعل كل يوم نيرانًا بجسدي، وتظل تتلف أعمارًا من سنيني، وتهدم كومة من أحلامي، وتنهي الكثير من حقوقي. حين أرى الساعة تشير للرابعة عصرًا، أعلم أنك في طريقك للمنزل، وأنها بانتظارك.. ستفتح لك الباب وتُقبِّلك، وتتناولان الغداء سويًّا، في الوقت الذي لا أكاد أن أضع فيه لقمة بفمي؛ فالغيرة تسد نفسي، وتجعل أنفاسي صوتًا يسمعه من حولي، ونبضاتي تتصارع بداخلي، تكاد تقفز من بين أضلعي؛ لتفيض دموعي؛ حتى يربط الله على قلبي؛ ليهدئ من روعي، ولكن ما تلبث أن تعاودني الأزمة ليلاً، حين يعم السكون والنَّاس نيام، يهدأ كبرياء العقل ويسكن؛ ليضج ويئن حنين القلب، ولترتدي الغيرة عدساتها، وتخزني بأسِنَّة الأسئلة: أين هو الآن؟ في حضنها.. يا ويلاته!

ومن باب الصفرة أغار عليك من حمرتها عليك..

فلترحمني يا الله، ولتجعل لي مخرجًا. كان بلائي بواحد، أصبح باثنين، اللهم أجرني في مصابي، واجبر كسر قلبي.

إعراب العشق

أعرب الجُمَل والمواقف لك وعليك أحاول صياغتها مجدداً لعلك تأتي مضافاً إليّ ولو بجر حرفاً منك يا سيدي ...

أو ربما يصفق القدر لي بأنّ وأخواتها (ليت ،لعل) أن تكون لي.

كل من حولي معروفون، ولكن عذرًا؛ فأنا أقصد المجهولين، وإن كانوا غائبين حرفيًّا لهم ليس لمن يسمع وينصت أنه ضمير غائب مستتر وأن عاد لا يعرب ليغير من الأمر شيئا.....

لم أدرك أن اسمك كان به لا النافية، فخدعت بندائه، ولم أعِ إلا لاحقًا أن نفيه ونهيه قد حتما إنهائي، ومنعا أي موقع أو محل من الإعراب.

بوح الأحرف

هواك جعل مني شيئًا لم أكُنْه من قبل، ولم أتوقع أن أصل إليه..

كتبتُ لك، حتى ظننتُ أني قد اختلقت لغة جديدةً لا يعرفها شعوب العالم..

ولا أزال أكتب لك وأنت جمهوري وقرائي وكل متذوقي حرفي.. فأنا كمان يعزف لجمهور أصم أبكم.. هذا هو ما أفعله حين أبعث رسائلي إليك بظهر الغيب.

تمتمات من حنين.. وتنهيدات من شغف.. ودمعات من آلام.. وبوح من آهات.. وأحرف من سكرات..

باح قلمي بما عجزت شفتاي.. بوحه هيات هيات.. وما بكاء الميت سيرجعه لو بكيته دهرًا.. ولن يصله ليؤنسه في قبره..

أصبحت عيناك مغزى قصدي ومغنى حرفي.

فهما من كانتا ملكة اللحظة. وإن حدث الكثير من ورائها، فلا تعلو العين على حاجبها، فلها ولائي أولاً وكل اهتمامي أخيرًا..

وفِي عينيك الكثير مايكفيني عن خوض القيل والقال. مالي وتبريراتك! فما أدخلني عيناك، وما احتواني عيناك، وما احتضنني غير عينيك، أترجم بهما ما عجزت عنه شفتاك، ورفرف له قلبك، ودندن له محياك، وشل به فكرك، وعجزت عنه قواك، وخارت به دنياك.

يا رمشة أصابت مقلتي، وأثقلت خافقي، وأقحمت دنياي، وشلت فكري، وأذهبت عقلي، وأدركت جوارحي، وأدارت مداركي، وأصابت شعوري، واحتضنت كياني، وألمت بخافقي، وأنارت مساري، وهزمت جمودي، وأطاحت بجسدي، وأسرتني، فكيف لك أن تسأل ماذا بعد؟!

لئن أطلقت عيناك أسري، فسأطلق رهانك من شباكي إن أستطعت بأقل الخسائر، ولكن لا أعدك؛ فضربية عينيك قلبي.. سأطلق سراح عينيك، فإن أستطعت أن تنفذ من نبضه، فافعل، وإن أوقفته، فاظفر، وإن أخمدته، فأقْدِمْ.. ستظل حبيسًا بين نبضاته وحائرًا بنظراتي، كالطير حائمًا فوق عشه، يطير لأميال ثم يعاوده؛ لأمانه ودفئه. افعل ماشئت؛ فهذا كل ماعندي لك يا رجفة خافقي..

صيام الهوى

وما أصعبه من صيام حين تروض روحك على غذاء غير غذاء فؤادها! وما أبشعه حين تنتكس من بعد صيامها لتتزود بشراهة و تغترف بشراسة! فهي لا تخلو من حالين، إما علُوُّ بالهوى، وإما دنُوٌّ به؛ فلا تباغتني كعادتك يا سيدي.

طال عطشي وصيامي والماء والزاد حولي.. لا أرغب في أن أشرب وآكل من غير نفس.. فالمائدة طويلة بمد النظر، وليس فيها ما يسد رمقي، ويقوت يومي.

أتعلم ما الخذلان؟ أن أظمأ لذلك الكأس الذي رويتك به..

قد نرتوي من البعض حتى الشبع، ولا نلبث أن نجد أنفسنا متعطشين لبعض الرمق من أحدهم.. قد نقترب ونكتفي بقطرة تبلُّ ريقنا لنمضي صائمين.. لا نزال على عهدنا باقين، لعلنا وإن اكترثت وقائد الإغراء حولنا ألا نلتفت، فما لَفْتَتي إلا ذنبًا مُقترَفًا وقلبًا مُحرَقًا قد اقترب بعد صوم مُطوَّل، تاركًا ماكان سابقًا خلفيًّا، لأرتوي من حلو جديد مزيف.. قد تراني لعقة من زادك حتى يحل الفطر؛ لأرجع إلى زواد مأربي، وأذكر أن العين تأكل قبل الفم.. أقترب لكل مايغريك وتشتهي نفسك.. والله لم تبلغ زاد العين والفم غير من زوادي.. فمن لاح لك لونًا لم يكن به طعم ولا حتى طعم لم يكن به ذوق..اغترف ماشئت أينما تشَأْ وكيفما تكُنْ.. فسيبقى مذاقي غموضًا بين صومك وإفطارك.. بين حنايا جائع.. ولكن ماذا سآكل؟ فأنا أعرف جيدًا ماذا سيشبعني، ولكنه على الأرجح هو ماينقصني.

تمهل...

مهلاً ماذا تريد؟ حرفي قد تلعثم، ونبضي توقف، وأشواقي احترقت، وهاهي رماد، فانفخ فيها ماشئتَ. و أذا أردت فجر خيبتي بك فلنجرها سوياٌ يا عزيزي.

مهلاً لا ضجيج لك بي إن لم تكن إيقاعًا رنانًا بدواخلي؟! فماذا بعد ألم يزعجك كل هذا الصخب الذي خلفته بي؟! فلتتقِ الله فيَّ.

ومن باب الصفرة لقد حلت بجسدي ولونت عينَيَّ.. لا تكاد تميزها أهي نقص في حديد حبك، أم غيرة في حبك؟! فلتتمهل في الحكم عليَّ.

أصبحت طُرقًا لا نهاية لها.. أتمهل إلى أين ذاهبة.. إنني ذاهبة إلى وجهات على الأغلب أعلم ماهي، ولكن الأرجح أنني أضل عنها بإرادتي؛ لعلي يوماً أصل إليها بقناعتي.

الغرق

لعلي لا أزال أغرق بداخلي، ولا أجرأ في بعض الأحيان على الغوص؛ فأنا أخاف الغرق وإن تدربت على العوم كثيرًا؛ فللقدر لحظات تأتي لا تُعرَف بها خبرات سابقةٌ ولا تحذيرات واجبةٌ. حاولْ أن تطفو على الماء؛ فأنت بين الماء والهواء.. تستطع الخروج أيَّان شئتَ.. لا تغرَّك لحظة الهمم بأن تغوص إلى الأعماق؛ لكي ترى شيئًا ربما تظنه يدهشك، بينما أنت بكامل غرورك لم تدرك الثانية لالتقاط أنفاسك مجددًا؛ فقد ثقل جسدك، وقد تَخلَّى الماء في عمقه عن حمله؛ لعل الأعماق التي تسعى جاهدًا لبلوغها تبلغ منك علوها؛ لتسمو بك؛ فقد أحطتُ بك قبل أن تحيط بك.. لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسُؤْكم.. اتركوا الأمور برؤيتها الظاهرة، وإن كنتم تعلمون أنها ليست هكذا. أتطمعون أيضًا أن تبحروا أكثر؟ اكتفوا منها بمد وجزر؛ فخسائرهما وإن كانت كبيرة لم تكن كثيرة، كمن غرق في الأعماق.. موته واقع لا محالة..ارسوا على شواطئ الأمان مع أنفسكم ثم لغيركم، حتى لو لم تقتربوا.. اكتبوا على الرمل ماثقلت ألسنتكم عن نطقه وما زهقت أرواحكم عن نقله؛ حتمًا سيمحوه الموج، ويُرجِعه لأعماق البحار.. هي فنون لكل مجنون.

ختامًا

تمرُّد العشاق جريمة تُعاقَب عليها قبل أن تشرع فيها....

أخيراً وليس آخرًا

علوةٌ في عشقك حتى غلوةٌ

التمرد في حبك غلُوٌّ في الشعور وإلحاد بوسطية العشاق.. في عشقك لا سلم يُنتهَج ولا باب يُطرَق، كأمْة ضائعه لا حاكم منصف ولا شعب مُتبع...

بعد أن أستودعكم الله، سأَودع وأٌوَدِّع روحي بك.. فلترفقْ بي يا سيد الهوى.

وقبل أن أستودعكم الله، سأفتح لكم صندوقي الأسود؛ لتشاركوني معاناتي.. لا يعنيني حكمكم عليَّ بقدر بوحي لكم.. فما عاد عندي شيء أخاف عليه أو أخاف منه.. سأحكي بلا مقص رقيب؛ حتى ألقى الله وقد أفرغت كل ما في نفسي من أثقال لا تتحملها الجبال. وبالمناسبة نسيت أن أخبركم باسمي واسمي حبيبي.. مسك وعمار.

أرجو أن تتحملوني فيما سأقوله، حتى لو أطلت عليكم.. فالحمل كما سترون ثقيل ثقيل ثقيل.

سأبدأ من اللقطة التي تنتهي بها عادة أفلامنا العربية، والتي تحلم بها كل فتاة.. وأستسمحكم أن تتركوني على سجيتي، وأن يتسع صدركم للسماع، واجعلوا حكمكم في النهاية.... فحادثتان وقعتا كانتا سبب تدميري وتدمير حبيبي الذي لم أعشق غيره.

أفراح وأتراح

بين كومة من خيوط مبعثرة لملابس بمختلف المقاسات والأطوال والتصميمات والألوان والمناسبات الشتوية والصيفية الربيعية والخريفية التي ازدحمت بها غرفتي، وتناثرت حولها بطاقات حضور وفواتير خدمات متطايرة ودعوات لمطاعم ومأكولات وحلوى، كلها احتفظت بها.. كل ورقة لها ذكرى خاصة جميلة لا يمكن أن أنساها، ولاأنسى علب المكياج المنتشرة بكل زواية وأصابع الروج التي لها أيضًا ذكريات، فلكل إصبع روج مناسبة مع فتى أحلامي نادر. وسأخبركم أني لم أكرر استخدام أي منها، فبعدد لقاءاتي بنادر لن تجد أصابع روجي التي استخدمتها.

كما أنه في كل مرة يسجل بالروج تاريخ لقائنا في قلب كبير يحتضن اسمي ونادر على منديل أحتفظ به. أما عن عطوري فهي فراشاتي التي تحلق بحبيبة قلبي كلما التقينا.. وكأصابع الروج لكل عطر أيضًا ذكرى وتاريخ مع أميري، ولكني للأسف بالغت في العطور،حتى إني أصبت بحساسية شديدة نتيجة ذلك.

شغلني الحديث عن مستلزماتي الأنوثية، ونسيت أن أحدثكم عن طقوس الفرح؛ فقد اكتسى المكان بمظاهر تلك الطقوس، وأقصد بالمكان شارعنا والشوارع المجاورة، وزينت الأنوار كل ما يحيط بنا وحولنا، حتى إني شعرت بجدران البيوت وهي تشاركني سعادتي، ورأيت في عيون المارة الذين لا يعرفوننا انبهارًا مخلوطًا بفرحة، ورأيت منزلنا يزهو بين المباني التي حوله بأنه مسكن صاحبة تلك البهجة، وكان أهلي يبالغون في الحفاوة، ظاهريًّا من باب الكرم والأجر، وباطنيًّا لدفع البلاء وكسر عين الحُسَّاد.

نادر.. ماذايمكن أن أقول؟! وماذاينبغي أن أفعل؟! وقد غمرْتَني بحب وفرح ونشوة لم أتخيلها..نجحت في أن تسحبني شيئًا فشيئًا، رغم احترازي ألا أقع في شباك الحب مرة أخرى بعد ما أصابني بسهام مسمومة كادت تقضي على حياتي، لكني في غمرات الموت كنت دائمًا ما أقنع نفسي بأنها مسألة وقت؛ من باب فرحة الروح وغريزة التشبث بالحياة، وإن كان في قلبي يقين أني حتى لو عدت إلى الحياة، فسأعودإليهاوحيدة شريدة..

لا أبالغ حين أقول إنني (تقريبًا) لم أجهز شيئًا للزواج.. نادر هو من جهز.. حتى المكياج والملابس والفستان الأبيض جميعها أرسلها إلى غرفتي وكأنني سلطانة متوجة على عرشها.. هذا- كما أخبرتكم من قبل - كان وضع الغرفة.

صدق من سماه نادر.. نادر في كل شيء.. في مشاعره.. في اهتمامه.. في حرصه عليَّ.. لا يحب أن أعتذر بأي شيء ولأي شيء، ولا يريدني أن أخرج من المنزل، وأرهق نفسي بالبحث في الأسواق.. فقد كساني م نرأسي إلى أخمص قدمي.. واتصالاته فاقت حبيبًا لحبيبته.. وكنت أنتظرها دائمًا أبدًا، ولا أشبع من كلامه.

لأول مرة أتلقي اتصاله برد بارد مني: أنامُجْهَدة.

ورغم ذلك لم أغلق الخط إلا بعد ساعتين، عندما رن جرس الباب، فقلت لنفسي: الوضع لايحتمل، ولن أقابل أحدًا.

وأخبرت أمي أنني مُتعَبة ولا أريد استقبال أحد؛ لأن كثرة التهاني شيء لا يطاق.

لكنها أخبرتني أن فتاة أتت لعمل مساج لي.

قلت لها: لم أطلب أحدًا يا أمي.

: لكنها جاءت باسمك.

قلت لأمي: أدخليها.

دخلت، وقالت لي: أهلاً أستاذة ماريا. أناجئت بناءعلى طلب الأستاذ نادر.

قلت في نفسي:

آه منك يانادر! ما تعودت على هذا الدلال. لاأستحق قلبك واهتمامك.

وسارعت بإرسال رسالة إليه، أشكره على إسرافه في تدليلي.

وطار نادر بالرسالة فرحًا.

أسبوع قضيته كل يوم في فرح.. وكل أهالي المنطقة شاركوني فرحتي.. وكل يوم يعدُّ لي نادر مفاجأة جديدة.. وكان أهلي، خاصة أمي، وسط احتفالاتهم التي لا تخفى يحاولون إخفاء وضعي خشية انقلابي، بمنطق "داري على شمعتك"، رغم أن شموعي تكاد تملأ الحي كله.

كانت فرحة أهلي تسلبهم النوم، والتجهيزات ترهقهم، والبهجة تطوق قلوبهم التي يراها كل من يقابلهم، وربما خوفهم وخيبتهم القديمة بي خلَّف اما هم فيه الآن من قلق، فما وقع بي في الماضي ليس بقليل؛ فقد مررت بحادث شنيع، ونجوت بأعجوبة.. الإصابات كانت بالغة؛ مما اضطرني إلى الخضوع لعديد من العمليات العلاجية والتجميلة، غير الجلسات النفسية. فما أنا فيه الآن- كما ينظر إليه أهلي ومنحولي- أن القدر فتح لي ذراعيه أخيرًا، وربما مصباح علاءالدين.

نادر العملة النادرة

من حق أهلي أن يهللوا فرحًا بنادر.. هيبة ووقار.. جاه ومنصب ومال.. بل أموال لاتأكلها النيران، ولم يسبق له الزواج، فتَشبَّثَ به أهلي، خاصة أن عمري شارف على الأربعين؛ مما يفقدني تلك الفرصة التي هي أشبه بالخيال أن يصيبها القدر.

بين تلك الأجواء أجد نفسي راغبة في أن أعيشها، وأتلذذ بنكهاتها كأي فتاة تحلم بذلك القفص الذهبي بما فيه من اهتمام وعشق وهيام أنغمس فيه، حتى كدت أنسى نفسي من روعة الحدث والأحداث الجميلة التي كنت أتمناها في الماضي، واليوم وقد واتتني الفرصة لأقولها لنفسي: عيشي لحظتك، وأقدِمي على حياة وردية؛ فالإنسان بطبيعته يحب الاحتواء والحب، ويفضل الاهتمام.

ليهتف شيطاني: هل نسيتِ غايتك من إدخال حياة نادر؟! أن تثأري من عمار؟!

تعبت وأنا بين أصداء الحاضر وروعته وجمال لحظته، والماضي وقسوته وقباحة لحظاته.

كاد فكري يُشَلُّ.. شتان مابين المنطق والمأرب.. العفو والانتقام.. الحب والحاجة.. الحاضر والماضي.. نعم ولا.. أريد ولا أرغب.

أصابني فتور جعلني حبيسة غرفتي، خاصة أن عدَّاد الأيام والساعات ما زال يمضي، ولم يتبقَّ سوى يومين على عُرْسي. بدأ الوضع يؤرقني، والخوف يتملكني، والقلق يحاوطني. لم أعد أجد رغبة في الأكل.. انتابني الصوم، واعتراني الصمت؛فراود أمي الشك في أمري، واليقين بأن هناك موجة انقلاب ستحدث؛ لذا كانت تود أن يتم الزواج في أسرع وقت ممكن.

ليقطع حبل أفكاري كعادته نادر بقلقه الدائم واهتمامه المتواصل.. ترددت كثيرًا في أن أرد عليه.. أخيرًا أجبتُ وقد جُنَّ من قلقه عليَّ.

قال: أين أنتِ؟ تعلمين أنني مسافر، ولولا هذالجئت لأعرف مابك.

فقلت: لاشيء. إرهاق وانشغال بترتيبات الزفاف. تعلم أن العروسة لابد أن تمر بتلك المرحلة.

لتنسيه فرحته كل ذلك العتب، ويقول: أتعلمين ماذا فعل عمار؟ لقد قام بتأثيث منزل العمر وترتيب سفر شهر العسل. فرحته وحبه وولاؤه لي تجعلني مدينًا له بعمري.

وتابع: لوتعلمين ما عمار وماهو في قلبي.

لم أتحمل هذاالكلام، وحاولت إنهاء مكالمته؛ بحجة أن أمي تناديني:

سأعاود الاتصال بك.

سهم غُرِس بقلبي، ونيران أشعلت كياني.. حمل كبير فوق طاقتي وتحمُّلي.. حين أغلقت الهاتف، باغتتني نوبة الصمت، وكبلتني حبال الأفكار، واحتجزتني قضبان الضمير، ولكن دموعي لاذت بالفرار من عيني، وانهمرت كالسيول على خدي، حتى أغرقتني وأحرقتني بلهيبها؛ ليتفجر صمتي بصرخة رجت أرجاء المكان، فيهرع الجميع عندي، وكأنه انفجار حل بالمنزل.

تحولت من مسك إلى ماريا

لتقترب أمي وإخوتي مفجوعين من هول الحدث، وتأمر أمي الجميع بالانصراف وإغلاق الباب.

تقترب مني، وتسألني بحنان الأمومة: ماذا بكِ؟! كنت أخاف انقلابك، وأترقب تلك اللحظة على قلق، وكنت أدعو الله كثيرًا أن يتمم الأمر لك.

: أمي، لا أريد أن أتزوج. لست بقادرة. أحاول ولكن لاجدوى. أنا لست بأهل لهذا النعيم ولاكفئًا لهدية القدر تلك...

تقاطعني أمي: أعلم أن كِ مازلتِ بشباك عمار وطيف عمار، ولكن نحن أبناء اليوم.. واليوم عوَّضك الله بنادر رغم يأسك ويأسنا، بعد أن أنجاكِ الله من موت محقق، نجاكِ الله من إعاقة دائمة، ولا تنسي عمرك الذي لا يرضى به شاب يريد أن ينجب طفلاً، فكان نادر فارسك الذي على كل ما حل بكِ قديمًا رزقك الله به، فلا تتبطري على النعمة، ويهزمك الماضي، وينسيكِ فرحة الواقع.

وهدهدت عليَّ:

تَنحَّيْ عن أفكارك السوداوية وميولك التشاؤمية.. صلي وعودي إلى الله، واطردي الشيطان الذي يرافق وحدتك، ويملأ أفكارك.

ماذا يجب أن أقول لأمي؟ ومن سيسمع لي؟ هل صديقات مزيفات اقتربن مني لمكانتي وربما لأنني سأتزوج منأكثر الرجال وسامة وشهرة ومالاً؟ يصطنعون الفرح لي، ويغمرن نيب فرحهن واهتمامهن اللذي نكدتُ أن أصدقهما.

لاشيء جديد.. أنا من رأسي إلى أخمص قدمي مزيفة بعد الحادث الذي ألمَّ بي تحولت من مسك إلى ماريا ومن جمال وجاذبية من صنع الرحمن إلى جسد جديد وكأنه رسمة من دقة جراحي التجميل. وأما لوني فقد صُبِغ لكثرة الأدوية والرقود الطويل على سرير المستشفيات، ولكن ما لم أستطع تغيير هندوب الإبر وآثار الخيوط التي غرست بكل معلم بأجزاء جسدي المتفرقة. كما تحولت من رشيقة القوام إلى ممتلئة القوام، ولكن شعري الذي كان يكسوني وكان ملتفًّا بيتَ ساقطَ بين غرف العمليات وممرات الجلسات النفسية؛ لأستعيض عنه بباروكة مماثلة له. فكم كان شعري وجديلتي الطويلة سر حب عمار لي؛فقد كان يهتم به، ويدللـِّه أكثر مني وحتى الزوج واللحظة مزيفان في حد ذاتهما.

يومالزفاف

اقترب الوعد.. اليوم الزفاف.. هل سيمر مرور الكرام، أم ستأخذنا اللطام؟

أغمض عيني نأضنا هما السهر، وأستلقي بجسد أضعفه الهم تحت يد خبيرة التجميل والمكياج؛لتبدأ وتخطب ألوانها، وتعيد مرارًا وتكرارًا، لا يضبط معها؛لشحوب وجهي وانطفائه. وما أغضبها مني أنني صامتة ولا أعيرها اهتمامًا وتجاوبًا، وتضجرت من ضجة ضربات قلبي التي أرعشت يدها أثناء رسم المكياج، فسبَّت ولم أرَ غير عبوسها، فرددت عليها بتمتمة شفتيَّ التي لم تفهم منها شيئًا وطأطأة رأسي.

أخيرًا حل موعد حفل الزفاف.. سيأتي نادر، ويأخذني وأمي إلى موقع الاحتفال.. إلى المكان الذي تحلم به كل فتاة.. ليلة زفافها.. الليلة التي تكون فيها الملكة المتوجة على عرش الكوشة..

المنزل كله يتأهب لمجيء العريس.. الفارس الذي سيخطف أميرته على صهوة جواده من بين أهلها المرحبين والسعداء بهذا الخطف، والمحرضين عليه.. نعم المحرضين.. ففي تلك الليلة تجتمع داخل الفتاة الأضداد، وتتَّحدُ المتناقضات.. الفرح بليلة عمرها، والقلق، بل الخوف من عالم جديد بعيد عن أهلها، مع شخص مهما كان حبيبًا، فهو غريب عنها، وحياة مجهولة بالنسبة لها.

هذا ما كان يعترك بداخلي.. لذا عندما حضر فارسي نادر والفرحة تعم وجهه، فُجِعَل ذبولي، وقال بقلق: ما لك؟! ما بال لونك مخطوفًا؟ هل الهم من صنع بكِ كلهذا؟!

ثم نظر إليَّ نظرة حانية، وقال لي كلمات حانية تهدهدني: هوِّني عليك حبيبتي.

هنا تدخلت أمي لتصلح الموقف: لاعليك. الفتيات يقلقن في تلك الأيام، وهي لم تنم وتأكل جيدًا.

فاطمأن قليلاً.. وقال: لا تقلقي حبيبتي.. العالم كله فرحان بك. أنت سيدة الحفل، فاستمتعي بليلتك.

وفرد يده بطريقة إتيكيتية أعجبتني، وقال:

هيا بنا إلى ليلتك يا أميرتي.

توجهنا إلى القاعة، ولكن قلبي ما زال يرتعد، وصوتي يرتجف، وجسمي ينتفض، رغم أن الفرحة تعمُّني من رأسي إلى قدميَّ. يبدو حقًّا أنه إجهاد لا شيء آخر. نعم إجهاد؛ فأنا عروسة وعريسي يذوب فيَّ.. لا سبب حتى لمجرد القلق.. مُجْهَدة فعلاً.

وصلنا إلى قاعة عرسي، وقدماي لاتكادان تحملانني، ولكني حرصت ألا أظهر شيئًا من هذا أمام إنسان برقي نادر.. تحاملت على نفسي، وهو لاحظ هذا، فانحنى ليحملني، ولما وجدني رافضة، قال لي:

عروستي وأحملها.. ماذا فيها؟ كل عريس يحمل عروسه، الفرق أني سأحملك قبل مراسم الزواج.

وتابع: لا تخافي لن ينقصم ظهري.. زوجك قوي يا حبيبتي.

وأمام إصراري انصاع لكلامي.

بدأت مراسم زواج من ألف ليلة وليلة.. حلم لا أريده أن ينتهي.. كم تمنيت أن يتوقف الزمن عند هذه اللقطة.. عندما يراقص بهجة الأضواء رنين الأصداء في حضور غفير ومكان فخيم تتوِّجها روعة التنظيم، وتسجلها الكاميرات بالتقاط الصور والفيديوهات التي من تهافتها تظن أنها بروق غيمت فوق سماء العرس.

بدأنا في السير نحو الكوشة.. تعثرتُ مرارًا، ونادر يمسك بي بقوة، ويقول ممازحًا:تحاملي..لم أتوقع أنكِ خوَّافة هكذا. هانت.. دقائق وستنسين إرهاقك.

أكملت الزفة ونحن الآن وقوف على الكوشة؛ لالتقاط الصور من مصورين وإعلاميين، ومن بين جموع الغفور والحضور كانت عيناي تقوم بعمل مسح ضوئي؛ فطلب مني المصور أن أثبت لضبط الصورة. ولكن ما لمحته عيناي جعلني أفقد كل ثباتي واتزاني.. الخائن واقف يصافح الحضوربحرارة شديدة.. أقصد ببرود شديد.. عمار يتعامل أمام الحضور بمبالغة، لا أدري هل يقصد إنكار أي شبهة تجاهه، أم إخفاء أنه مصدوم، أم يتعمد كيدي، أم له مآرب أخرى.

ثوانٍ والتفت عمار ناحيتي بعينيه القناصتين، نظرة ثقبت قلبي قبل أن تصل إلى عيني؛ ليصاب جسدي بخمول.. فأجلس على أثرها، لا أستطيع التماسك، وبينمايخطو هو نحونا، حتى اقترب، أغرق نادر بالأحضان وهو في حالة ذهول.. وبينما هو في أحضان نادر كان عيناه مصوبتين في عينيَّ.

بدأ عمار يتمتم: ماذايحصل؟ وكيف لم يفهم نادر وظن أن عمار يستظرف كعادته؟!

دقائق وسقط عمار على الأرض؛ ليصرخ نادر صرخة أفقتُ من أثرها، ولكن ذهول المفاجأة أخرسَني، جمَّدَ جسمي.

وواصل نادر صراخه: أتتركني وحيدًا في هذه اللحظة؟! أتسرق فرحي برعبي عليك؟! أرجوك قم..لا أتحمل.

وزاد ذهولي اقتراب زوجة عمار وأبنائه والبكاء يسيطر عليهم جميعًا؛ ليفاجؤوني بما لا يمكن أن أتخيله.. مفاجأة قلبت كل كياني، بل قلبت نظام الكون:

إنه مريضب القلب منذ وقت طويل. هل سينجو؟! يارب اه استودعتك إياه.

أحاط أبناؤه.. أغرقوه بالقبلات المخلوطة بالنداء اتوال دموع والأدعية.

الحضور تزاحموا لرؤية الحدث، وبعضهم غادر المشهد التراجيدي، وأنا متسمرة في مكاني، وقد طار عقلي مني، وطار معه إدراكي ووعيي.

لم ينتشلني من غيبوبتي إلا صوت أمي حين سمعتها تقول:

حسبي الله على ما صنعتِ الآن. فهمتُ لماذا كنتِ تودِّين أن تتركي نادر. لِمَ لم تخبريني؟ كنت لن أسمح بأن أشارك في تلك الجريمة.

وتبعت كلامها بصفعة زلزلت كل جسدي.

وقالت: ستر الله على عمار.

فجأة انطفأت الأضواء، وتوحدت في لون قاتم كئيب يكتم على نفسي؛ ليظلم كل شيء. وصلت سيارة الإسعاف، وانفضَّ الجميع. كنت أود أن أقترب من عمار وأسعفه، وأخبره أنني لا أحب أن أرى به سوءًا؛ خوفًاعليه.. أخبرَني حينها أني ما زلت في قلبه ومتغلغلة بالجسد.

ذهبت كماأنا. ولثقل الفستان لم أحس به مع قلقي على عمار. وصلنا والجميع بحالة نواح وبكاء إلا أنا، فكان نواحي وبكائي بداخلي.. تمنيت وقتها أن أكون ممرضة لأباشر رعايته.

حاولت أن أهدئ من روع نادر، ولكن لفاجعتي الداخلية اقترب مني، وهمس: أعتذر لأنني تركتك، وحصل ذلك بزفافنا، ولكن أعدك أن أعوضك.

فقلت: لاتقلق.. أهم شيء أن يقوم عمار بالسلامة.

وجاءت زوجة عمار لتخبرني بامتنناها لوقوفي معهم؛ لتقف بجانبها فتاة جميلة بعمر ١٣ سنة، وتقول لهازوجة عمار: اذهبي يا مسك، وأحضِري الماء لخالتك.

فقلت:حفظهاالله، هل هي ابنتك؟

قالت:نعم هي الكبرى الأحبُّ إلى قلب أبيها. ولديَّ أخرى ميار ونادر الأصغر.

مصعوقة عاد بي ذلك الخبر للوراء. عمرها من عمر انفصالنا! أي ولاء ياعمار حين تسمي ابنتك الأولى باسمي! والأدهي والأمَرُّ كما قالت زوجتك أنها الأحبُّ إلى قلبك. أهو شغف بي لتلقيه بروح ابنتك؟

ما أكثر الشعور! وماأقل الكلام! الصمت كسا ملامحي.

لم أعد قادرة على التركيز معها.

انصب انتباهي على الممرضة وهي تخبرنا أنه ممنوع الزيارة والمرافقة؛ لأن عمار غائب عن الوعي وتحت الملاحظة المشددة.

عدنا للمنزل أنا ونادر، وفي طريقنا عاد في الاعتذار لي والامتنان، وأخبرني أنني أثبتُّ له أنني أصيلة؛فالموقف يشهدلي، وأيقن أن الله رزقه بي.

فقلت: لاعليك.الآن أريد أن تغير المسار إلى منزلي.

: أي منزل؟ منزلنا تقصدين؟

قلت: لا أريد أن أذهب لأمي؛ فهي قلقة، وأعصابي مجهدة.

فقال: لكِ ما تشائين.

قلت: إذن هيا بنا إلى منزلي ومنزلك الذي هو منزلنا يا زوجي الحبيب.

قال: فرحنا يا حبيبتي لم يتم.

قلت: لا يهم يا حبيبي.. فرحتي بك بكل أفراح العرس.

أدرك أني غير منتبه لكلامه، ولأنه حسن النية؛ أوضح لي:

أقصد لم يتم عقد قراننا.

انتبهت للكلمة: صحيح.

تابع: مرض عمار أنساني كل شيء. وأعدك أن أعوضك.

واستدار بالسيارة. سألته: إلى أين؟

قال: إلى بيت أمك.

مالم يكن في الحسبان

وصلنا إلى منزلي. ما إن دخلنا، حتى وجدت أمي وأختي في الصالة تنتظرانني. دخلت وحاولت تجاهلهما، قامت أختي، وهمست لي بإلحاح أن أتحدث مع أمي. قلت: لا أقدر أن أرفع عيني في وجهها.

ردت أختي بحدة: وهي أيضًا لا تريد أن تضع عينها في عينك.

أحس نادر بالحرج، فتعلل بأنه سيذهب إلى النادي الذي تركناه في ليلة عرسنا؛ ليعتذر إليه، ويدفع له باقي حسابه. وانصرف.

عدت لأنتقم

ما إن خرج نادر، حتى اندفعت أمي نحوي، وشدتني من يدي، وأجلستني، وبدأت في استجوابي. وأمام إصرارها العنيف على أن تعرف ما الذي خططتُ له، قلت لها:

أنا عدت لعمار؛ لأنتقم مما فعله بي. لأنه تركني في منتصف الطريق؛ بحجة أنه لا يريد أن يخرب بيته، ولا أن يظلمني، وكأنه انتبه إلى هذا، أو فوجئ بأنه متزوج مؤخرًا، بعد أن جعلني أحبه، وأتعلق به.

صاحت أمي: الانتقام.. تريدين أن تنتقمي، وتبحثين عن حجج واهية.

وشخطت فيَّ: حججك ليس أعذارًا.. حججك إدانة أكبر لكِ.

قلت: لماذا يا أمي تصرين على النبش في الماضي؟ أريد أن أنساه.

قالت: أنت التي لا تريد أن تنساه.. وقد رأيت بنفسك النبش وفي ليلة عرسك.. ربنا يستر على نادر.. لو مات، ستتحملين ذنبه. تخيلي عندما تتحملين ذنب من تحبينه.

فزعت: يموت؟!!

قالت: طبعًا. ألم تري بنفسك الصدمة كيف كانت عنيفة؟! وأسرته التي ستموت كمدًا عليه؟

: ولكن يا أمي، هو من جنى عليَّ.. أنا أحببته بك كياني، وهو من تخلى عني. أليس كذلك؟

نزل السؤال على أمي كالسهم.. تراجعت، بعد أن كانت تحاصرني.

انسحاب غريب جدًّا.

سألتها: ما الذي تخفيه عني؟

هذه المرة السؤال أعادها إلى انفعالها، فصحت وهي ترجرجني:

أكملي ولا تسألي ما الذي أخفيتِه أنت عنا؟ تعرفتِ على نادر وهو خلص أصدقاء عمار؟

وشددت عليَّ: عودي بذاكرتك، وإياك أن تخفي شيئًا.

أخذت صديقه لأحرق قلبه

قلت: بعد الحادث الذي وقع، لم أتحمل وجعه للمرة الثانية. ذهبت إليه، ولم يكن يعلم أنني مسك، فقلت له: أنا ماريا، ودخلت له بمدخل مسك القديمة.. قلت أضرب عصفورين بحجر: أقترب منه، وفي نفس الوقت أنتقم منه، ولكن حين اقتربت منه، كنت سأفصح له أنني مسك حبه الأول كي أبقى، ويغفر لي، ولكن زين الشيطان الانتقام بعيني، فأخذت صديقه لأحرق قلبه، ولكن نادر تشبث بي إلى حد الجنون، الذي جعلني في منتصف الطريق.. لا أستطيع المضي قدمًا ولا التراجع للوراء. فلو تركته، لن أصل إلى ثأري مع عمار، وإن بقيت، فسيقع هو ضحية ثانية.

ولكن يا أمي أتعلمين أن عمار صُعِقَ؛ لأن ماريا التي ادعيت أنني هي وجد بها رائحة مسك حبيبته القديمة. أنا أيضًا القديمة أطعنه من الخلف مع أعز أصحابه؛ ولكن كيف علم أنني مسك؟

صرخت أمي: لا بد أن تختفي، ولا يعلم أنكِ مسك. اتَّقِ الله يا ابنتي في نفسك وفي عمار وعائلته ونادر الذي راح ضحيتكما.

: أمي هناك شيء لا تعلمينه.. عمار لديه ابنة وهي الأكبر والأحب إلى قلبه كما روت لي زوجته، واسمها مسك.

لم تصدق أمي، فقلت في تأكيد: نعم يا أمي. لكِ أن تذهلي وتصعقي كما حل بي. ولكن الأرجح لن تكون كصعقي. والشيء الأعجب أنها من عمر انفصالنا منذ ١٣ عامًا.

تفحصت أمي عيني، وقالت:

ابنتي استحلفتكِ بالله أن تقولي الحق.

: واللهِ هو الحق يا أمي، واللهُ على ما أقول شهيد. وهل تعتقدين أن هناك مجالاً للمزاح والكذب ونحن في هذا الوضع؟!

وضعت يدي على كتفي أمي، وقلت وأنا ألهث:

أتعلمين يا أمي أنني حين اقتربت من عمار، وكنت أدعي أنني ماريا، ذهلت من قوته وصيته.. لا يلين لأحد. ولأن بداخلي مسك استطعت أن ألمس روحه، حتى إنه قالها لي: أنت تأخذين شيئًا من عبق الماضي، ربما هو من مكَّنك مني، ولكنه رفض أن يبوح لي بشيء عن حياته الماضية. كنت أود أن يخبرني كيف كان يفتقدني، وكيف كان يقضي يومه منشغلاً بالتفكير بي، وماذا حل به حين أصبتُ في الحادث، وما الذي جعله يتركني؟؟ استفهامات عصرت قلبي، ولم تلقَ بصيصًا من نور.. إجابات ظلت حائرة بين الماضي وذهني. ليت عمار أطلق منطق حرفه، وأجاب، وأطلق سراحي، وفك باب الحيرة.

هذه المرة كانت أمي ساكتة تستمع بلا تعليق، وكأن لسانها أصابه الخرس.. ربما لأنها لا تجد ردًّا لكلامي، أو أن مشاعر الأمومة حوَّلتها من إفاقتي إلى الإشفاق على ما آل إليه حالي.

تابعت: أتعلمين يا أمي، والله لو أنه قال إنه خانني أو كرهني أو أي شيء، لكان أهون عليَّ من غموض تَمكَّن من فؤادي إلى تلك اللحظة، وزاد عتمتي حين اقتربت من عمار في الآونة الأخيرة. فقد هيَّض الجراح، وأيقظ السبات. هل لحنين راكد، أم لأشواق صامدة، أم عشق زائد، أم لهفة خانقة، أو كل هذا؟ فحين رأيته تلعثمت أفكاري ونطقي وسمعي وبصري وكل أشيائي.

أخيرًا التقطت أمي أنفاسها، وسألتني: وكيف وصلت إلى عمار، وقد فترق عنك من سنين طويلة؟

قلت: بفضل سائقه الخاص، الذي بَقِيَ معه منذ زمن طويل؛ فقد اختصر عليَّ الطريق.

تفحصتني أمي بنظرة واضح منها تمامًا أنها فاهماني "كويس" ومشفقة عليَّ.. ولا بد من الصراحة مهما كانت.. مهما كانت، وسألتني وهي تخترق عيني ودواخلي بنظرتها التي لا أجرؤ على مقاومتها أو إخفاء شيء عنها:

أي طريق اختصرَه؟ منتظرة منك إجابة واضحة ودقيقة ومحددة حالاً.. أي تأخير معناه أنك تفكرين؛ لذا لن أصدقك.

قلت وأنا أحني رأسي أمام لهيب نظراتها، وخزيًا مما فعلته:

أنا.. للأسف.. أغريته.

لم تفاجأ أمي.. كانت تتوقع، فعادت تسأل بنبرة بتَّارة:

وكيف طاوعك؟!

: قلت لك اختصرَ الطريق.

: أكملي.. أغريته لأمسك عليه شيئًا يرغمه على سماع كلامي. وقد فعل.

: ماذا فعل؟ سمع كلامك، أم فعل معك الـ...؟

: الاثنين.

وبما أن الأمر انكشف وانفضح، تابعت دون التفات لرد فعل أمي:

أفقدته أمانه، وهددته بأن أوقع به مصيبة يقضي بقية عمره بها مسجونًا، وربما يتم إعدامه؛ فاضطر للاجتهاد معي؛ اتقاءً لشري، وكان كل مرة يقابلني ويخبرني فيها أو أطلب منه شيئًا، يبكي وأنا أفقد أعصابي عليه. ولكن حين علم أني تركت عمار، قال لي: عليَّ أنا أن أترك عمار، ولا أتحمل أذاه أكثر. وأنتِ ما تفعلينه ليس بأسوأ مما يحل بي؛ جراء ضميري وأفعالي تجاه عمار.

قالت أمي: عنده ضمير.. عنده دم. أكمِلي.

قلت: بالفعل يا أمي ذهب، وأعطيته مالاً، فرفضه، وقال: وكيف أشتري راحة بالي يا مدام؟! حسيبك الله.

تعرفين يا أمي أنه لم يكن يعلم أنني مسك؛ فهو يعرفني جيدًا، ولو نطقت لفضح الأمر ولو على قطع رأسه؛ فهو مع عمار منذ صغره، ويعلم جميع مراحله.

وتنهدت:

أمي قلبي يعتصر خوفًا وولهًا على عمار. وقلقي عليه يفوق الجميع.

بصوت ساخر: بعد كل هذا تقولين إنك تحبينه وتقلقين عليه. ولو كنتِ تكرهينه ماذا كنتِ ستفعلين أكثر مما فعلتِ؟

وتابعت: أعمت نار الأشواق عينيك، وطمس ثأر الأهواء سريرتك.

وواصلت: هشم الماضي حاضرك، فهشمْتِ الجميع معك. ليتكِ بقيتِ بغموضك واستفهاماتك؛ فما تعلمينه ليس إلا ظاهرًا، وأن الله قد جعلك بتيهك وضلالك؛ كي لا تظلي حبيسة الأشواق والتأمل في رجوعه. فلله تدبير بصنيع أمورنا، وأنا ربط الله لساني عن قول الحق؛ لأني أريد قفل الماضي رغم سؤالك وتنقيبك الدائم في الماضي، كنت أعلم أنكِ سوف تبحثين، ولن ترضي بقسمتك ونصيبك.

واليوم ليتني قلتُ؛ فكل ما فعلناه في سنوات هدمتِه في أشهر؛ حصيلة حب سنين وثأر شهور عشق ثوانٍ وانتظار ساعات.

ليس كل الإجابات تضميدًا للجراح

صحت:

أمي كفاكِ تأنيبًا، وأخبريني ماذا تقصدين بـ ربط الله لسانك عن قول الحق؟

ردَّتْ: الآن حصحص الحق. عمار لا ذنب له، والحق وإن طال سيظهر. ما أقوله لك ربما يجعلك طريحة بجانب عمار لا إفاقة لكِ.

قلت: أتمنى أن أكون طريحة ولا أبقى في هذا التيه الملغز.

وانهمرت الدموع من عيني، ووضعت وجهي على صدر أمي كطفل رضيع، فغلبها حنان الأم، وهدهدتني، وقالت: عمار ليس إنسانًا.. عمر ملاك.. ولهذا حرمك الله منه؛ لأنك شيطانة.

لم أنطق، وظل دموعي تنهمر، وقلب أمي يضعف ويضعف. تابعت:

عمار يا بنتي لم يخدعك.. لم يظلمك.. لم يخُنْكِ.. لم يبتعد عنك.

رفع رأسي وأنا في ذهول ممزوج بفرحة طبطبت على قلبي.

قالت أمي: هذه هي الحقيقة. وسامحه الله من كان السبب في كل هذا.

: من يا أمي؟ من الذي دمر كل حياتي؟

: لم يكن يقصد أن يدمرها.. كان يريد مصلحتك من وجهة نظره هو.

: من يا أمي القاتل الذي قتل روحي، وأفنى عمري؟

هنا ارتفع صوت أختي وهي تجري ناحيتنا، وتزعق: أمي.. لا.. لا يا أمي. أستحلفك بالله.. ادعي له بالرحمة.

سكتت أمي، واحتضنتني أختي وهي تقول: لو عرفتِ سيتضاعف ألمك.. ليس كل الإجابات تضميدًا للجراح، قد يكون بعضها إلهابًا لها.

قالت أمي: سأريح قلبك يا ابنتي.. سأكشف المخبأ عنك، وأجيب كل أسئلتك، وتعدينني ألا تتخذي أي قرار سلبي.. فقد ولى الماضي، وكانت حسنة النية متوفرة فيه.

وأخيرًا رُفِع الغطاء

انهالت عليَّ أمي بتتبع الحدث، والحديث الذي (أقول لكم شيئًا) لم يكن بالحسبان. كان جوابًا بل أجوبة لأسئلة كثيرة بين تعجبات واستفهامات تراكمت لسنوات لتُحَلَّ. ويا ليتها لم تُحَلَّ.

فقد تذكرت قول الله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ". قد نتمنى الشيء، وندعو الله به كثيرًا، ولا نعلم بخبايا القدر وتدبير الله؛ لتخبرني أمي بقولها:

حينما أصبْتِ بالحادث الشنيع، وخرج عمار من حياتك بأن تركك، هو لم يكن في الحقيقة الذي تركك.

سألت: كيف؟!

قالت: هو لم يرد أن يجرحك، بل هو كان المجروح.

: ولكنه اعتذر عن الزواج وبقاء الوصال. كان أهون عليَّ أن يقول أكرهك لا أريدك.

قالت أمي: هل لاحظتِ ملامحه يوم أخبرك بهذا؟

: أكيد.. قال بعينين أغرقتهما الدموع وصوت أنهكته الرجفة ووجه تصبب عرقًا من ضخ الأدرينالين.

: كان مجبرًا لا مخيرًا.

: مجبرًا مِنْ مَنْ؟

: منا.. نحن الذين أجبرناه على أن يتركك؛ لأنه حينها لا يتناسب بمنطور أبيك.

صُعِقْتُ: أبي؟!!!

: نعم، فهو يكبرك بعشر سنوات، ولم يكن بذلك الثراء الذي هو فيه الآن.

: ولكني لم أكن أفكر في المال.

: أبوك الله يرحمه كان يريد مصلحتك.

: ليته كان يعلم أن دوام الحال من المحال؛ فثروة عمار لا نملك ذرة منها.

: أنت تعرفين أن أباك كان متسلطًا؛ فقد خطط وقتها أن يزوِّجك كصفقة؛ ليكمل بها مأربه، فعرقل عمار، وبالفعل عمار أبان الرفض.

: وكيف يستسلم لأبي؟! لماذا لم يقاتل من أجلي؟

: هو تحفظ على الأسباب.

: ذلك التحفظ الذي شل عقلي وقلبي، وأنزف دمعي، وأوقدَ نيراني. يومها ركبت السيارة.. لا أعلم إلى أين أتجه ولمن ألجأ، ولم أفِقْ إلا بعد شهرين من غيبوتي بالمستشفى، وكنت لا أذكر شيئًا حينها؛ فقد فقدتُ الذاكرة جزئيًّا، وكانت الإصابة بحسب تقرير الأطباء بالغة في الرأس والحبل الشوكي، واحتمال النجاح ضعيف، وإن عادت، ستأخذ وقتًا طويلاً وتدريجيًّا بالعودة.

قلت أمي: المفاجأة ليست هنا يا ابنتي، وإنما حين علم عمار بالحادث؛ فلم يُلقِ بالاً لنا، وظل على رأسك وأنت غائبة عن الوعي. كان يمكث طَوالَ الليل؛ لأنه يضمن أننا نكون قد غادرنا، ولن نضايقه، وهو من أسعفك بنقل الدم. ولأن فصيلته الكريمة o+ تمامًا كقلبك تَبرَّعَ لك مرارًا، ولكن لشدة النزف أصِبْتِ بفشل كلوي.

: كان معي طوال هذا الوقت وأنا غائبة عن وعيي، لا أعي شيئًا!

: نعم، وتبرع عمار لك بكليته، وأخبر المستشفى أنه فاعل خير؛ مخافة أن نرفض، وجلب الأطباء لجراحة التجميل، وكان رافضًا أن يتركك.

قلت معترضة:

ولكنكم حتى لم تشكروه أو تقدروا معروفه.

قالت: أبوك الله يرحمه اعتبره تكفيرًا عن الحادث؛ ظنًّا منه أنه بسببه.

: يعني في جسدي جزء منه وأنا لا أعرف!!

: حتى الكلية التي تبرع لك بها اعتبرها أبوك مقابل حبه لك. وأنا لا أقدر أن أتكلم.. فأنت تعرفين كيف كان أبوك جبارًا

صحت: المادة طغت عليه حتى في هذه الأمور. كم أكره والدي على تلك الصنيعة!

وبينما تروي أمي لي مع دموعها وصوتها المتقطع، قلت لها: كفى.

قالت: لا، لقد حملت ذلك السر، وأرهقَني طويلاً، والأمانة هي الحق بأن يظهر موقف عمار لكِ.

فقلت: أي حق؟! تلومينني على ما فعلت؟! أنا ابنتكم، والعرق دساس. فما كان انتقامي من عمار إلا كما يُسمَّى بـ "الوراثة"، ويقال كنا نفعل ما فعل آباؤنا. أرجوك يا أمي لا تلعبي دور الضحية ولا طيبة القلب. لا أريد أن أسمع أي شيء.

قالت أمي: لا يا ابنتي، لا بد أن أحكي كل شيء؛ حتى يرتاح ضميري.

وتابعت حديثها أنها ذهبت لعمار، وطلبت منه أن يخرج من البلاد؛ فلن أكون له. وإن بقي، فأن أبي لن يتركه وشأنه، وقال أبي له: سأؤمن لك بعثتك ومستقبلك؛ شريطة ألا تعود هنا. لا أود أن تفيق مسك وتراك.

وواصل: وبالمناسبة عندما تعود لنا مسك، سنطمس صورتك حتى بخيالها، ونظل نشوهك بعينها، ولن نذكر شيئًا مما فعلت. فاذهب أفضل لك.

قلت: لهذا حينما أفقت، وسألت عن عمار، أخبرتِني يا أمي أنك حاولت إقناعه أن يزورني، ولكنه رفض وتزوج، وسافر للخارج، وأكدتِ بقولك: أنت لا تعنين له شيئًا، وهو يحب زوجته.

آه يا أمي.. هان عليك أن أبقى بخيبة الأمل شهورًا، امتدت لسنوات من الأنين والأسى. كنت بين مبتلعة لحب وغارقة في الهوى ومتيمة بالحنين، ولكن مستفيقة بالوجع ومستبيتة بالفقد وعاركة بالأحزان؛ لأخرج، وليتني ما خرجت من "مسك" إلى "ماريا"، الحية التي سممت ليس شخصًا، بل طال سمها من حول ذلك الشخص.

لست أدري هل أترحم على أبي، وأتصدق له تكفيرًا عن ذنبه، أم أقاطعك يا أمي، وأهاجر بعيدًا؛ لأدفن نفسي بذنبي وذنوب أهلي، وأقضي بقية عمري - إن أمهلني – معتكفة على نفسي؛ فما أعرفه أنه قد أخذ نصف عمري ونصف عافيتي. حكيتِ لي ليرتاح ضميرك، فأتعبتِ ضميري. ليتني أدفن، وأرتاح.

قلت هذا وأنا أدفن وجهي في صدر أمي، وأختي تحضنني والدموع تسيل منا.

الآن حصحص الحق

لو أنكم مكاني، بعد كل ما سمعت، ماذا عساكم أن تفعلوا؟ من أنقذ حياتي هو الآن بين الحياة والموت.

لم تلُمْني أمي، بل دعت لي، وأوصتني أن أنتبه لنفسي وللطريق، وودعتني بقبلة على جبهتي.. تلك القبلة التي كنت آخذها منها في ساعة الرضا.. وتركتني أنزل في تلك الليلة ضائعة مشتتة ومتألمة حتى الموت، وتملكني القلق على عمار؛ لأنني أحبه، وليس لأنني أخاف من فعلتي به، فلا يزال يتربع على عرش قلبي وكينونتي.

راودتني بإلحاح شديد فكرة الذهاب إلى المستشفى، ولكن كيف يُسمَح لي بالدخول في غير وقت الزيارة، خاصة وأنني لست من أهل المريض؟

اتصلت بممرضة صديقة لي، كانت في المستشفى، وأخبرتها بالوضع، فوعدتني أن تتصرف رغم أن القوانين واللوائح تمنع مجيئي في هذا الوقت، ولكن كما تعلمون المعرفة غلبت القوانين.. أدخلتني المستشفى ببساطة.. لم أسمع من الأمن كلمة "ممنوع".. ألبستني معطفًا وحجابًا أبيضين، ووضعت على وجهي كمامة، وناولتني بطاقتها؛ لكي أجول بأريحية. فرحت جدًّا، وقلت: سأعطيك الكثير من المال.

تغير وجهها، وقالت: سامحك الله.. أنا لست مادية لتلك الدرجة؛ فلا يزال الضمير الإنساني موجودًا.

علمت حينها كم أنا ساذجة وأفكاري غير متزنة.

المهم أني دخلت، وكان المكان من حولي باردًا، ولكنه لم يستطع أن يبرد سخونة ذلك اللقاء، أو يخمد نيران الشوق، ولا أن يكتم دخان القلق عليه. اقتربت من باب الغرفة.. فتحته بهدوء شديد.. تسحبت على أطراف أصابعي.. المكان مليء بالأجهزة.. طبيعي لأنها غرفة العناية المركزة.. الصمت يخيم على المكان، فلا تسمع إلا أصواتًا خفيضة للأجهزة، وحتى أنفاسه كانت موصلة بتنفس صناعي، وكانت نبضاتي وأنا أقترب منه تسبق جهاز القلب المشبك به. أمسكت بيديه، وقبلتهما، وبدأت في قراءة الفاتحة وبعض الأذكار كما كان يفعل معي سابقًا. غفوت من شدة التعب ولا تزال يدي بيده. أفقت فجأة على قبضة خفيفة على يدي، كأنه أحسَّ بوجودي. حمدت الله كثيرًا.. لا أريد شيئًا غير أن يقوم بالسلامة.

اخرجي يا ماكرة

وبينما أتأمله وأحادثه، لمحت شيئًا بالساعد الأيمن قرابة الأربع أصابع نزولاً بالكتف وكأنه حرق وآثار لشيء يمثل حرف M. ماذا تريد يا عمار؟! ولاؤك لي سيقتلني بالفعل. ماذا تخبئ بعد ما عادت لي الذاكرة، وتذكرت حين قال لي ذات مرة: والله إني نقشت حرفك، وسترينه مع الأيام، ويكون هدية زواجنا. وعندما أصررت عليه، أقسم ألا أراه حتى يكون ملكًا لي.

عرفت الآن لماذا كان يتعمد لبس الأكمام الطويلة؛ لحذره أن أرى الحرف الذي نقشه. ويشاء القدر أن أراه وفي هذا المشهد. يا إلهي.. لم أعد قادرة على تمالك أعصابي. حتى الأقدار المخبأة انتصرت، وتحالفت مع الأقدار الحالية. كل شيء يسير مخالفًا لي، ويقسو عليَّ.

عدت للمنزل لتغيير ملابسي، ولكي لا تصل زوجته، فتراني معه.

وفي اليوم التالي عدت إلى المستشفى. وعندما دخلت، بدأت بالسلام. فلم يرد عليَّ أحد، وفوجئت بنادر يصيح بي: اخرجي يا ماكرة. لقد انكشف أمرك. العم صالح الذي قمتِ بابتزازه لم يهن عليه عمار، وحكى لنا كل شيء. حسبنا الله ونعم الوكيل.

وتابعت: وأنا الذي أحببتك بصدق. كيف استطعتِ أن تقضي علينا جميعًا، وربما يذهب عمار ضحيتك؟

وبدورها انفعلت زوجته: اخرجي أيتها الشريرة؛ لأن عمار لا يودُّ أن يخرب بيته طعنتِه بنادر؟ ذنب عمار في رقبتك.

وواصلوا السب والتطاول، وارتفعت أصواتهم، حتى تَدخَّلَ الأمن.

وعندما أمسكوا بي، قلت: فلتعلم يا نادر، أتتذكر مسك حبيبة عمار السابقه هي أنا؟ وأنت تعلم كل تفاصيل الحادث، وأمي أخبرتني بظلمهم لعمار. والله البارحة أفصحت لي، وإن كنت أعلم لاختصرت عليَّ عناء كل تلك المأساة.

وأما أنتِ يا أم مسك فتعلمين أن اسم ابنتك على اسمي، وأضيف إليكِ أن عمرها من عمر انفصالنا، وأن الحرف الذي نُقِشَ بساعد عمار أو حروف اسمي.

تصرخ: هراء.. خطيبته كانت مريم.

ضحكت ضحكة مجنونة: وهل تعتقدين أنه سيخبرك بالحقيقة؟ كنت أتمنى ألا أخدش علاقتك بعمار، ولكن لكل شيء وقت ظهور، حتى وإن كان مؤلمًا.

المنومات هي صديقه الوحيد الوفي

لا أدري كم مر عليَّ.. أيام.. شهور.. سنة.. وأنا لا أعلم أين أنا. فقد أصِبْتُ بانهيار عصبي واكتئاب طالت فترة علاجه. أخبروني أنها كانت قرابة الـ ٦ أشهر. ولكني استنفدت سنة حتى تأقلمت، أو على الأرجح صرت أفضل من قبل، ولكن لست بالأفضل حالاً.. فأنا منعزلة عن الناس، ولا ألومهم على أنهم لا يرغبون في التواصل معي لسمعتي، وهو ما أثر على أهلي. لا ألومهم لأني صرت شبه منعزلة عن نفسي أيضًا.. فكلما فكرت فيما حدث وما فعلته، كرهت نفسي.. أعيش الآن سجينة خطيئي التي تحاصرني، وتخنقني وتكتم حتى أنفاسي.. لذا فررتُ إلى النوم؛ لأغيب عن وعيي هذه المرة غيابًا اختياريًّا في ظاهره، وإن كان جبريًّا في حقيقته. أصبحت المنومات هي صديقه الوحيد الوفي والملازم لي.. ميتة أنا، ولكن فيها الروح.. لا لون.. لا طعم.. لا أمل.. ولا حتى يأس.. لا شيء.. فتور وخمور.. جنون وعزوف عن كل شيء.

لا شيء في حياتي سوى ابن أختي المطلقة.. هو من ينسيني لحظاتي لبرهة، وكأن الله جعله رحمة لي وإنقاذًا من مصير لا أدري إلى أين يمكن أن يوصِّلني.. طفل لا يخدش ابتسامته مكر، أو يختفي وراءها حقد دفين.. أدفأ شيء قد يلمس جرحي تلك الابتسامة، وأحن قبلة تلك التي يقبلها لي.

الموت خطفهما في لحظة

قررنا الذهاب للعمرة، ولكن لم نفضل الطائرة لخوف أمي من الطائرات. اتجهنا بطريق البر المعبد، والحمد لله أتممنا مناسكنا.

وفي طريقنا للعودة انقلبت السيارة، وكان حادث راح ضحيته أمي وأختي. وبينما الظلام يدلي ستاره، وكانت الساعة السادسة وأنا بين فاقدة للوعي ومتنبهة، سمعت ابن أختي يبكي ويصرخ: ماما ماما.. لماذا لا تردِّين؟ أنا خائف. ناديته بشق الأنفس: فراس، تعالَ. أنا هنا.

: خالتي، ماما لا ترد.

وكانت آخر كلمة سمعتها، وغبتُ بعدها عن الوعي.

لم أعد أهتم كم مر بي من وقت قضيته في الغيبوبة؛ فقد تعودت عليها، بل وصرت أتمناها؛ لتأخذني لفترات نقاهة عن عالمنا القاسي.. أفقتُ على كسور طفيفة، وعلى حقيقة مفجعة: لم يتبقَ لي غير فراس، ولم يتبقَّ له غيري..

فراس يبلغ من العمر ١٣سنة. وأبوه في حكم الميت، فهو حي منشغل بحياته الخاصة، لا يسأل عنه بعد انفصاله عن أمه.. ولكنه الآن سيسأل عنه، ويطالب بضمه إليه، وسينال هذا بلا جدال.. فزعت من فكرة أن يأخذه أبوه مني.. فراس ابني وأنا أمه.. لم يعد لي في الحياة إلا هو بعد أن خسر كل أهلي، وخسرت حبيبي ومن كان سيصبح زوجي.. سأسافر بعيدًا؛ لكي لا يأخذه والده. سأهبه كل حياتي.. هو من أعاد إليَّ الأمل في الحياة، وأكسبها مذاقًا بعد أن كانت ممجوجة، كما أنه جعل لوجودي هدفًا، وهو رعايته، وعالج بطفولته نفسيتي المدمرة من خطايا الماضي التي لا تُمحَى.

وعدت أفكر: ربما القدر أفشل زواجي وقضى على حبي؛ إشفاقًا بهذا اليتيم. فلو كانت الأمور سارت في مسارها الطبيعي أو المأمول، هل كنت هأقدر على أن أرعى فراس؟ لا أعتقد؛ لذا اعتزلت الدنيا والرجال والحياة بأكملها، وصارت حياتي هي فراس. يكفيني أن أراه سعيدًا.. ضحكته تحيي موات مشاعري، ونظرته تنير الدنيا.

جندت حياتي وعقلي وكل وقتي لفراس، حتى رأيته أخيرًا جراحًا للقلب والأوعية الدموية. وعندما حضرت حفلة تخرجه، كان طعم الفرح شيئًا أعجب من العجب.. شيئًا تعطشت نفسي إليه منذ سنين طويلة.. ياه لو أستطيع أن أصفه لكم، أو أعيطكم شيئًا منه لتتذوقوه.

لا تساوي الدنيا بما فيها ومن فيها تلك اللحظة التي هي بكل عمري. هو فعلاً نعمة من الله؛ لأكفر عن سيئاتي.

صفعة القدر مجددًا

للشوق معطف شديد الانحدار.. يباغتك لحن قديم ورائحة عطر عالقة.. يخونك الوعد القديم، ويهزمك اللقاء الجديد.. فتسقط مرغمًا مغرمًا.. لتعتذر عن عقد رهان آخر ووعد قادم.

ولكن الوعد مع نفسي واللقاء بالخيال. أما الرهان والوعود فأقسمت جاهدة ألا أفعل شيئًا، وأن أترك الأمور على سجيتها. بالماضي كنت أتوعد كثيرًا، وأرهن حتى حياتي مقابل انتصاري. ماذا كانت النتيجة؟ خسرت الدنيا وربما الآخرة.

حياتي أهدرت وآخرتي أسرفت فيها بذنوبي.

باح قلمي عما عجزت شفتاي عن البوح به. هيات هيات. وما بكاء الميت سيرجعه لو بكيته دهرًا.. ولا سيصله ليؤنسه في قبره عمرًا

سؤال أنا من تلقيه وتتلقاه

تسألني: كم صار لنا متفرقين؟ وأنا أسألك: هل توده بعمر الوله أم السنين؟!

عمار، أوجعني فقدك، وغرس ولاؤك لي خنجرًا بمنتصف ظهري. نزفت كثيرًا، هل حرقةً وحسرة ًعليك ولك، أم أنين وحنين لأيام خوالٍ، نزفت حتى فارقت لذة الحياة لا نبض بها؟ حياتي كالجسد المتحرك، ولكن لا تزال كليتك التي زُرِعَتْ بجسدي. من يتحمل ملوحة دمي ودمعي؟ حتى دمك ذاك الذي أسعفتني به على الأجدر هو سر قوتي حتى تلك اللحظة.

يا ليتني أعمل بالدمى المتحركة؛ لأني أصحبت منتمية لها كيانًا بلا روح.

باغتني القدر بك يا عمار. كسر ظهري حبك وفقدك، وهزمني لقاؤك، وأضناني حنيني.

لا حاجة للدنيا بي

مرت بي الأيام سريعًا عندما رأيت فراس يكبر. أما فعليًّا كانت السنين ثقيلة عليَّ.. هكذا حال من فقد الحياة.. لا يتطلع لشيء، ولا يترقب.. كسرتني الحياة، ولم تتوافق معايير القدر معي. لا حاجة للدنيا بي، وأنا لا حاجة لي بها. أترقب أن تعود الأمانة إلى بارئها. والله لولا ذنوب أثقلت كاحلي، لأسرعتُ بالفرار إلى دار القرار، ولكن أنا أسعى جاهدة للغفران ومنع جديده بالنكران والبطلان.

ربما لم أصل إلى حد الصفاء والنقاء كاملة، ولكن لعل الله يرحمني بفراس. سهرت وبكيت واجتهدت وأخلصت ووفيت. لم أجربها قديمًا.. كرستها لفراس. ويا ليتني فعلت من قبل لما كنت على ما أنا فيه الآن.

كنت أضحك كثيرًا حين أسمع بما يقال بالكارما: ما تفعله سيعود لك، شرًّا أم خيرًا.

وأنت تجذب الشيء الذي تريد وتسيطر عليه بعقلك الباطن بعد فوات الأوان.

طبقتها مع فراس؛ لكي أكفر عن قطرة من بحر الأسى والمرار؛ فلم يعد بالعمر أكثر مما مضى، ولكن الأرجح أريد أن أتقاضاه بغفران من رب كريم. فراس هو العين التي أرى بها الحياة والنفس الذي أشهقه.. هو القلب الذي تنبض به الحياة.

أستودعه الله ليل نهار.. كنت أصر على تزويجه؛ لكي أفرح به وهو يملأ البيت صغارًا وأفراحًا. كان عذره أن يكمل ويستقر، والآن لا عذر له.

وراءك الكثير لم تظهريه لي

دخل فراس وأنا أنتظره على الغداء، وكعادتنا كنا سويًّا لنحتسي الشاي. قلت له: يا بني، لم يعد في العمر بقدر ما مضى. أريد أن أزوجك وأفرح بك.. لم يطرق الفرح بابي منذ أعوام، فليكن لك الأجر.

أجاب فراس: أمي، لا تقولي هذا. أنا لا أفكر حاليًّا، وإن فكرت، سأتزوج عن حب، وتكون ذات مواصفات معينة.

فقلت: ما زلت صغيرًا، وتغرك الدنيا. من يكبرك يومًا أعلم منك عمرًا ومنطقًا.. لا تغرك الدنيا ولا الجمال ولا الحب.. كله زائف ووراءه دنيا لا قرار بها، اللهم إلا الفرار والملاذ.

رد فراس: لماذا كل هذا التشاؤم يا أمي؟! وراءك الكثير ولم تظهريه لي. ولكن يومًا ما سأعرف، حتى وإن كنت أصغرك سنًّا، ولكن أعلم أن التجارب من تصنع الإنسان، فلم تختاري ذلك من تلقاء نفسك.

فقلت: يبدو أنك لا تزال متعطشًا لرمق الحياة وزخرفها.

قد نكتفي من البعض حتى الشبع، ولا نلبث إلا ونحن متعطشون لبعض الرمق من أحدهم.. قد نقترب ونكتفي بقطرة تبلُّ ريقنا لنمضي صائمين.. ما زلنا على عهدنا باقين.. لعنا وإن اكترثت وقائد الإغراء حولنا ألا نلتفت. فما لفتتي إلا ذنب مقترف وقلب محرق.. قد اقترب بعد صوم مطول، تاركاً ماكان سابقًا خلفه؛ لأرتوي من حلو جديد مزيف.. قد تراني لعقة من زادك حتى يحل الفطر؛ لأرجع إلى زواد مأربي. وأذكر أن العين تأكل قبل الفم.. اقترب لكل ما يغريك وتشتهي نفسك. والله لم تبلغ زاد العين والفم غير من زوادتي، فمن لاح لك لونًا لم يكن به طعم ولا حتى طعم لم يكن به ذوق.. اغترف ما شئت أين ما تشاء وكيفما كنت.. سيبقى مذاقي غموضًا بين صومك وإفطارك بين حنايا جائع، ولكن ماذا سآكل؟ فأنا أعرف جيدًا ماذا سيشبعني، ولكنه على الأرجح هو ما ينقصني.

أتهرب خيفة أن يخونني البوح

ذهبت لغرفتي للقيلولة، فلحق بي.. كنت أتهرب منه خيفة أن يخونني البوح، فلا مجال للحشو. فاض الجمل بما حمل، ولكن يقويني الله. حينما أتذكر ماذا أقول عار ونار.. لأحشم نفسي. والله لو علم لألقى بي في طريق المارة بلا تردد أو شك. فلتعجل يا الله بالموت. حتى وإن لم تغفر لي. ولكن أنا أثق أن رحمتك أوسع من حماقاتي وذنوبي.

حاولت التظاهر بالنوم، بينما فراس يجول بالغرفة، ويقول بكل زواية بغرفتك غموض وراءه حكاية، وكل ليل يعقبه نهار، وكل ظلام نور؛ لذا سيتبين كل شيء. هناك كان بحائط الغرفة لوحة عبارة عن رسمة قديمة بقلم رصاص.. سألني فراس عنها كثيرًا، فقلت إنها لأبي، وظن المسكين طَوالَ العمر أنه جده.

وحين كان يخنقني كثيرًا بسؤاله المتكرر، قلت له: ما رأيك أن تحضر لي برواز ليجمل الصورة ويحفظها من التلف؟

وبالفعل جاء به في اليوم التالي. وكنت أعامل الصورة كأنها رضيع بين يدي، فقال لي: يا لحنانك يا أمي! ويالجمالك وبرك بجدي! أتمنى أن أكون كذلك.

فقلت: أنت أفضل مني في كل شيء.

قبلني على رأسي، وذهب للمستشفى لدوامه المسائي.

كنت أنظر للصورة.. لم يتبقَّ لي من عمار سواها ربما في بعض الأحيان طوعًا أنحني طلبًا للعفو، وتارة أغفو عليها طلبًا للعشق، وطوقتها بذلك الإطار حين أحسست أن مشاعري بدأت تنتشر وتتوالي شيئًا فشيئًا أحصرها، ربما وإن كان عمار على قيد الحياة لوضع الإطار بنفسه، حتى وإن لم يكن راضيًا عنه.

كنت أسجل صوتي عندما أعلم أن فراس في عمله، وأصطنع أنفاس وكلمات عمار، وأختلق بعضًا من قديم تسلسل أفكاره؛ لكي أبدأ الحوار معه. وحين أسكت أفتح التسجيل ليرد عليَّ.

ولكن ولأنني ماكرة وهو بدمي ولو هدرتني الدنيا كنت أضع ما أصبو إلى سماعه والأرجح ما كان يروق لي منه.

كنت أفتقدك حبيبًا ظالمًا غامضًا

اليوم أشكو فقدك، وأتجرع مرارة ظلمي لك، ولا أسامح أهلي.. لو كانوا أفصحوا لي، لكنت معي بدلاً من تلك الرسوم التي أحركها. سئمْتُ مني كما سئمتُ الحياة. ظللت بداية حياتي أشكو فراقك، وأتفقد سر غيبتك، وعندما علمتُ، بقيت أبكي غيابك وأتندم.

قد يبدو الصمت عليَّ، ويراه الآخرون، بينما يصف البعض ما بي بالاكتئاب وأنني متوحدة. وهل يصاب كبير السن بالتوحد؟

هم لا يعلمون أن بداخلي ثرثرة لو نطقت لأغرق البوح والصمت بطوفانها العالم.

ماذا يا عمار؟ كنت أفتقدك حبيبًا ظالمًا غائبًا غامضًا، واليوم أفتقدك حبيبًا مظلومًا، راح ضحية اندلاع نيران العشق والهوى وانتقام البقاء.

لا تزال تحتل الحاضر والغائب، والصدارة لك

ما أروعك! حتى لطيفك هيبة تعادل حضورك، وإن غبتَ وأجبرني الزمان على فقدك، فلله درك خيالاً وحقيقةً!

علوة في عشقك حتى غلوة.

التمرد في حبك غلو في الشعور وإلحاد بوسطية العشاق في عشقك، لا سلم يُنتهَج ولا باب يُطرَق، كأمة ضائعة لا حاكم منصف ولا شعب متبع.

عمار معك انتهجت العلوم، وانتهلت منها، وقربت من الله لأكفر عن ذنبي. وطرقت أبواب الخير، وبحثت عن وسائل العفو، واتبعت أولي العلم. أما بالإحصاء فأنا أضرب أخماسًا في أسداس.. أضيف حبي الذي لا ينقطع، وأطرح ذنبي، ولكن دون جدوى ولا قانون بتلك المسألة. وأما التعبير فأنا غفوة على حبك بين البوح والحرف.. هناك ملاحم تُدوَّن وقصص تُروَى.. غفوة في حبك وما من صحوة.. يبدو أنه ما من صحوة حتى الممات.

وإذا كان عن لغتنا الفصحى فكل من حولي معروفون، ولكن عذرًا، فأنا أقصد المجهولين، وإن كانوا غائبين، حرفي لهم، ليس من يسمع وينصت معناه أنه ضمير غائب مستتر، وإن عاد لا يعرب؛ ليغير من الأمر شيئًا.

أخاف أن يكون بالوارثة

عامًا تلو العام بانتظار فرحتي بزواج فراس. أكمل الأربع سنوات، فليس له عذر، وسأبحث له عن زوجة.. أخشى أن يقع في شباك الحب؛ فربما لا يحالفه تيار القدر، وقد أخاف أن يكون بالوارثة.. استودعته الله من رأسه إلى أخمص قدميه. يا رب جعلت قلبه بودائعك.. اربط عليه؛ فلا يقع في شباك الحب، حتى أبحث له عن زوجة، ولعلها تكون له كما أراد.

وفي تلك الأيام كنت ألاحظ، بل ويراودني إحساس قوي، أن فراس على مشارف الحب والغرام، ويا خوفي بأن يجر إلى عرش العشق والهوى، حيث لا خلاص ولا مناص.

بخبرة سنين الحلو المر الجاني والمجني عليه الغائب الحاضر أرى بريق عينيه كما كان عمار.. لهفته تكاد تفضحه بملامح وجهه.. تسارُع نبضه يكاد يسمع في هدوء الغرفة كما قد شعرت سابقًا.

قلقي وتجربتي السيئة يمنعانني من التمتع بلحظة أنه سيقترب زفافه.. أقول في نفسي: ربما إن تم الموضوع تزوج. ولكن خيبتي الدفينة تقول ربما يكون مثلك، وهنا عاطفتي وقلبي يتصارعان.

شيئًا فشيئًا أيقنت أن فراس متيم عاشق.. بدا واضحًا عليه أنه متردد لإخباري، ولا أعلم ماذا ينتظر.. حاولت طمأنته وإعطاءه الأمان؛ لكي يُخرِج ما في جعبته.. وبالفعل تمكنت من كسب ثقته واستنزاف بوحه.

حين استرقت السمع ذات ليلة في الوقت الذي هو متأكد فيه من نومي، وكان غارقًا في غرامه..انتهيت من قيام الليل، وحين توجهت نحو غرفته، سمعت صوتًا كأهازيج الموسيقى والأنغام الشعرية والنثرية التي كان يلقيها لحبيته.. لوهلة راقت لي الأجواء، ورجع بي عداد الأحداث إلى دور السينما القديمة لعرض سريع غير مرتب، نسيت نفسي لدقائق، وربما طالت؛ لينتبه فراس إثر تنهيدة خرجت من قلبي؛ ليخرج مفزوعًا مذهولاً: هل أنتِ بخير؟

بينما دمعي تتأرجح بعيني والأحرف لا يسعفها النطق والمنطق.

احتضنته لدرجة أنه اعتقدت أنني سأموت من ليلتها. اغتنمت الفرصة، وأخبرته أن ما يطيب خاطري ويثمن تعب سنيني أن أراه عريسًا، وأحمل أطفاله إن طال بي العمر.

ولأنه حنون، ولا يرفض لي طلبًا؛ هلَّ واستهل، وحكى لي عن حبه وحبيبته.

وبداية الصفعة حين قال: وتعلمين أن اسمها مسك تمامًا كطهر قلبها.

فقلت في نفسي: لعلها لا تكون كمسك القديمة. وحماك الله ألا تكون عمار الجديد.

وظل يسهب في الوصف والحديث، وكنت أرى أنه مبالغ بعض الشيء؛ فكلنا مررنا بعشق، ونعلم ما نزوة العشق.

فقد كانت إحدى نزواتي في عشق عمار أنه إن سألني: يا ملكة عرشي، بماذا تأمرين؟ قلت: والله لو أملك السلطة لما أبقيت امرأة في الوجود غيري؛ حتى لا تقام مجازر؛ لتعلم كم أغار عليك، حتى من أن تتمناك إحداهن في نفسها.

ثم قال: لست بأوفى مني. ولأنني أخاف عليك من الخطئية، فكيف بعموم النساء إن قتلتهن؟! أنا من سيحمل خطيىئتك وخطيئة نفسي. سأقتلك وأقتل نفسي لكي لا يُحزِن أحدنا الآخر، ولا يشكو فقده.

ألم أقل لكم بأننا جناة الحب والمجني عليهم في آن واحد؟

تعلقها بوالدها جعلني أشفق عليها

لا بد في كل موضوع وكل زاوية وكل منحدر لعمار وماضينا وقفة؛ لنعود لعشق فراس وبينما يروي لي عن جمالها وجمال روحها، قاطعته وقلت: كيف بدأت قصتك معها؟ فبدأ يروي لي: أتت إلى المستشفى حالة حرجة.. لا أدري لماذا لأول مرة أجدني مشفقًا على مريض، رغم أن المستشفى يوميًّا يستقبل حالات أصعب وجثثًا، و...

قاطعته:

دعك من الجثث، وأكمل.

لأدبه لم يرمقني بنظرة استغراب، وواصل:

كان أبو مسك شيخًا مسنًّا ومريضًا بالقلب والسكر والضغط وشبه مقعد، ونجا من أزمته القلبية بأعجوبة؛ لتكرُّرها عليه منذ وقت طويل. أما الآن فهي وفي سنه الكبيرة تكاد معجزة.

ولشوقي لأي شيء عن حبيب عمري، وشدة رعبي عليه تركت فراس يكمل:

بقي طويلاً معنا بالعناية القلبية؛ لذا كانت مسك رغم منع الزيارة بالعناية المركزة، إلا أن تعلقها بوالدها كان يجعلني أشفق عليها، وأسمح لها بالدخول. ومضى وقت ليس بقصير وهي تقابلني كل يوم، وتأتي قصدًا إليَّ دون عموم الأطباء.

وبنظرة استحياء مستطلعة؛ نظر إليَّ؛ مخافة أن يكون كلامه قد ضايقني، ولكني أعطيته نظرة التشوق للسماع، فأكم:

بداية الأمر، لا أخفيك، تعاطفت معها، ولكن لروحها التي هي جمال أضعاف جمالها وأنوثتها التي يحلم بها أي شاب، ولا أعلم كيف ومتى وقعت بهذا الشيء، ولكن يا أمي كنت أسمع عن الغرام كثيرًا، وتستهويني قصص الحب، وتأخذني العاطفة، وأحيانًا أتحيز للبعض، ولكن لم يخطر ببالي أني سأقع في هذا الشيء الرائع. وحقًّا من يده في الماء ليس كمن يده في النار.

ووضع يديه على كتفيَّ، وتوسل إليَّ:

لا أريد غير مسك يا أمي.. أرجوكِ لا تغضبي مني. وبما أن أباها تَماثلَ للشفاء، أستأذنك أن نحدد موعدًا لزيارة أهلها.

هذا بأمانة كل شيء يا أمي.. لم أخفِ عنك أي شيء.

بابتسامة دهاء قلت له: سيكتب الله لك الخير أينما كان.

حتى الآن لا أدرك كيف وافقته.. ربما شوقًا لرؤية عمار.. ربما لأن ابنته هي أنا.. ربما ربما.. كلها تخمينات.. لكن الحقيقة أننا في طريقنا الآن إلى بيت عمار؛ لأني لو رفضت، سيتمسك بها أكثر.. لا حل أمامي سوى الذهاب معه، وإفشال ذلك الزواج.

كانت الفرحة تغمر فراس.. فرحة طالما تمنيتها طَوالَ حياتي.. وأعتقد أنها تكفيني، وأنها عوضتني عن كل شيء، وأغنتني عن أي أمنية يمكن أن أتمناها، لكن ليس في هذا الموقف.

اللقاء الأخير

وصلنا للبيت.. استقبلتنا الخادمة.. لم تمر ثوانٍ وأطلت علينا فتاة أجمل من القمر، بضحكة تنير الكون بأكمله.

وشوشت لفراس: أنا أعذرك يا بني.. أعان الله قلبك إن لم تكن لك. لها جمال يفقد من أمامها صوابه، وروحنا أجمل.

ولأن مسك كانت تعيش هي ووالدها وحدهما مع الخادمة؛ حيث توفيت أمها، كما أن أختها متزوجة وأخاها الأصغر في بعثة للخارج، حسبما أخبرني فراس؛ فكان لا بد أن نرى والدها.

بعد أن استقبلتنا مسك، وأكرمتنا، استأذنتنا أن نذهب معها؛ لنرى والدها في الغرفة المجاورة.

ذهبنا، وفي يقيني أن الزمن ما زال يصفعني، ويؤكد لي أن خطيئتي لم تُغتفَر وذنبي لا يزال قائمًا؛ فالبلاء وُضِع فيمن تبقى لي والأحب إلى روحي.. فراس مع ابنة من أحببته بجنون.. عمار.

دخلت وعيناي تسبقانني ودقات قلبي المتهافتة تُدوِّي، فرأيته.. رأيته أخيرًا.. ممدًّا على السرير، لا يقوى على القيام.. ما إن أحس بوجودنا، حتى حاول بشق الأنفس أن يقوم، فوقع على الأرض، فأسنده فراس بمساعدة ابنته، ووضعاه على السرير، وأناماه على ظهره، وقال فراس له: دعك من أني خطيب ابنتك، ولا تنسَ أني طبيبك.. لذا أرجوك ألا تتحرك، وسنجلس من حولك.

كنت أقف بعيدًا عنهم.. تأملته بعيني.. عمار هو عمار.. رغم هرمه، ما زالت له هيبة.. إن كان كبر في السن، إلا أن روحه لم تكبر. فقد عرفته نبضًا قبل الشكل.

ناداني فراس:

تعالي يا أمي.. سلمي على حماي.. تعالي.

وقامت مسك، وأخذتني إلى السرير، وأجلستني بجوار أبيها.

شم رائحة روحي

وكأنه شم رائحة روحي.. التفتَ بصعوبة، فبرقت عيناه.. ثم انتبه إلى أن الأبناء معه، فأخفى بصعوبة أشد من مرضه تعبيرات المفاجأة التي لم تخطر بباله. وحسن حظه أن فراس ومسك كانا في ملكوت آخر، فلم يلاحظا تعبيرات عمار.

عم الصمت لفترة، وبدأت ثرثرة العقول ولغة العيون تملآن المكان، والعريسان بأجواهما فَرِحان.

قلت لمسك: اجلسي مع خطيبك.. ولا تشغلي بالك.. سأجلس مع أبيك، ونتكلم في تفاصيل فرحك أنت وفراس.

خرجا فرحين، وتركانا.

لماذا يا قدري كل هذه المعضلات؟!

غارت دموع، وتزايدت تنهيدات بين فرح اللقاء وعبق الماضي.. بين أنين وحنين.. بين عتاب وعفو.. يكاد يكسوها زفير لا تسعه الأرض. أهو فرحي أنه ما زال حيًّا، أم عطش لجدب سنين طويلة من العذاب الذي لا تخمد ناره، أم طلب سماح منه؟

نسيت ما جاء بي إلى هنا، وكيف أمنعه، وماذا سأقول. هل سيفضح أمري لفراس الذي كان ينتظر ويتيقن أنه سيزاح الستار يومًا ما، أم سأرضى بمصيرهما، وأعتبره قدرًا عابرًا، ولا آخذه بمحمل الجد، ولكن كيف وعمار حين رآني وعلم من يكون فراس؟ هذه المرة ستكون القاضية بالنسبة له.

هل سنجني على فراس ومسك حين نرفض، أم نحميهما مما قد يلمُّ بهما؟ وإن أخفينا ما حل ماضيًا، لا بد أن يظهر لهم يومًا ولو طال.. حينها لا أعرف كيف سيكون موقفي.

لماذا يا قدري كل هذه المعضلات والتعجيزات؟!

ماذا حل بنا؟! هل سنودع الماضي بكل ما فيه، أم نتشبث ببعض الحنين إليه، أم سنطرده كاملاً؟ فالوداع أحسن لنا.

قد نمضي قدمًا، ولكن تظل جراحنا تنزف خلفنا. هل نتمهل لتضميدها ومؤازرتها لنرجع سويًّا؟ هل سنظل ننظر خلفنا؟ فلنعش ما أمامنا، ونفتش عن جديدنا؛ فلربما ندرك ما تركناها وراءنا، إن كان لنا به نصيب أن يعود؛ ليضمد ما أتلفه بنا أو يسقي ظمأ حل بأرواحنا وجفافًا تخطى آمالنا. لا نعلم حينها أنستقبل ونفتح ذراعينا قبل آذاننا، أم ندير منكبينا ونغمض أعيننا عنهم؟ هل مات شغف اللحظة بنا، وربما لم تعُدْ هناك ردة فعل؛ فقد غاص الشعور في بحر الدهور، فمن يمت ألف مرة سينجو في كل مرة، ولكن تأكد أن هناك لحظة ستلفظ الروح فيها أنفاسها بلا رجعة.

لم تكن ساقي تهوى الذل ثانية، ولكن أيَّ ذُلٍّ غيرَ ذُلِّ النفس ليس بذل، وأي حب لم تذق ألمه ليس حبًّا. نحن لسنا إلا كأي بشر بالفطرة نسعى للسلام والعيش مع من تهواه أنفسنا بأمان وحب وسلام. هل ذنبنا الذي اقترفناه أن دقت قلوبنا بغير إذن وبغير أن نعير لها اهتمامًا؟ وإلى متى سنظل في عقاب لا منتهى له؟!

عابرون كلنا

عابرون كلنا.. حتى الأحداث عابرة، والأشخاص مارُّون.. الأحاسيس مارقة.. السنوات ماضية.. الأموات مفقودون، المواليد مستبشرون.. الجبال متبركنة.. الأنهار فائضة.. والبحار جافة. كلٌّ سيعبر جسره، أيًّا كانت محطته. تقبلها إرضاء لا إجبارًا. حتى أنا سأعبر لآخرتي، وكانت الأخيرة، وكنت معك بأحرفي عابرة.

قلت له: أتدري غاية مناي الآن؟

نظر بعينيه المحتفظتين ببريقهما وذكائهما.

قلت: أن يتوقف العمر الآن، وترحل روحانا معًا إلى بارئها.

قال لي بأحرف متقطعة: نادي أولادنا.

حروفه أحيت موتي.. هو ينطق الآن.. حمدًا لك يا الله.. كنت أريد أن أحضنه. فأشار باستعجال.. لم تتغير يا عمار.. كعادتك عند إعطاء أمر واجب النفاذ، فخرجت مسرعة إليهما، وأحضرتهما.

جلسنا حوله على السرير، تأملنا بعينيه.. رأيت فيهما بريقًا ولمعانًا لم أرهما في حياتي.. ابتسم ابتسامة عريضة، وقال بصعوبة عن ابنته: نسخة منك.

وردد: الحمد لله.. حقق إحدى أمنياتي.

لم نفهم ما يقصد.

رأيته يعود لزهو شبابه.

ساد الصمت والذهول في الحجرة.. مدَّ يده، وأمسك يدي.. أحسست بحرارة يده تسري في كل خلايا جسدي.. لاحظَ أنني رأيت الوشم، وفهمْتُ الرسالة.. تركزت عيناه في عينيَّ اللتين لم تتماسكا من دموع حنين وأوجاع السنين.. كان يحاول أن يرفع يده ليمسح دموعي، فلم يقدر. انفرجت أساريره عن ابتسامة مشرقة.. رأيته يعود لزهو شبابه.. لا أدري هل ما رأته عيناي حقيقة، ورأته مسك وفراس؟! ظلت عيناه مركزتين في عيني، والبسمة تنير وجهه.. فجأة مالت رأسه، وبردت يده.

انتفض فراس، وفزعت مسك.. فحصه وهو مضطرب.. لم تستطع قدماه أن تحملاه، فجلس على الأرض منكسرًا انكسار يتيم، وخرجت مني صرخة مدوية: حبيبي.. لا تتركني بعد أن وجدتك أخيرًا.

وكنت آخر كلمة قلتها دون أن أدري، فقد سقطت بجواره جثة هامدة.

الوصية الواجبة

:أين أنا؟! ومن أنتم؟!

: نحن أبناؤك يا أمنا.. حمد الله على سلامتك.. أنت في المستشفى، في غيبوبة منذ فترة طويلة.. المهم أنك بخير.

كان الدكتور فراس يقف وبجواره مسك وفي عينيهما فرحة إفاقتي مخلوطة بحزن دفين عميق.

عدت وسألت:

: وأين عمار؟! أنا لم أمت؟!!

: تموتين حبيبتنا وتتركيننا لمن؟

: ما الذي حدث بالضبط؟! أين عمار؟! أجيبوني.. أين عمار؟! أريد أن أفهم.

جلس فراسي عين يميني، ومسك عن يساري، وأخذا يمسحان على شعري، وقالا: سنفهمك بهدوء يا أمنا الحبيبة.

: أنا سأفهمها.

التفتُّ إلى مصدر الصوت الذي أعرفه جيدًا.. جحظت عيناي:

نادر!! كيف جئت بعدما فعلتُه بك؟!

: أنتِ لم تفعلي شيئًا. أعرف كل شيء.. أعرف أن عمار هو حُبُّ حياتك.. ولكني أيضًا أحبك.. وبالمناسبة الأولاد يعرفون كل شيء.

وكانت في يده ورقة، فتحها، وقال: هذه وصية عمار.. كان يعرف أنه سيموت، وكتب بها أمانيه التي ستقرُّ روحه بها.. أول أمانيه حققها الله له بأن يراك قبل أن يموت، ويموت وهو ممسك يدك بيده التي عليها وشم M.

وتابع:

ثاني الأماني أن تُتِمِّي زواج أبنائكما.. وهو ما سنُتِمُّه الآن، ولن ننتظر لحفل عرس وكوشة.

صحت به:

انتظر...

واصل:

أما ثالث أمانيه...

وسكت.

قلت: أكمِلْ.

لم يتملك نفسه، وقد بدأت الدموع بدأت تنزف من قلبه.

استأذنه، وقرأ:

لا تتركْ مسك حبيبتك، ولا يُفرِّقَنَّ بينكما إلا الموت.

وقال نادر من بين دموعه: على فكرة بعد الحادث الذي وقع له، كلمني، وأكد لي أنه يعرف حبي لك، وأخبرني أن مرضه لا علاج له، وأنه سيموت قريبًا، وألح عليَّ أن أتقدم إليك، وقال إنك رفضتِه، وإنَّ قدرَه أن يقضي حياته كإنسان عادي، يبني أسرة، يرعاها، ويتقي الله فيها، ولا يفرض نفسه عليكِ.

وقال لي: أنتَ أحبُّ الناس إلى قلبي، وهي قلبي، وفرحتي التي ستعوضني كل آلامي أن أحضر حفل عرسكما. أنت على الأقل ستصونها، وتعرف قيمتها، خاصة أنك تحبها. عرفتِ لماذا أحببت عمار أكثر من روحي؟! لأنه فضَّلني على نفسه.

ومدَّ يده، وقال:

هيا قومي، وكفانا ما ضيعناه من عمرنا.. ولا تضيعي أعمار أبنائكما.. ألا تتعلمين من الماضي؟!

وامتد الأيادي، وأقاموني من على السرير، وهم يسألون الدكتور فراس: هل حالة المريضة تسمح بمغادرة المستشفى؟

وكانت أيديهم ويدا فراس أيضًا أسرع من ردِّه..

ابتسم، وقال: وأن تتزوج أيضًا.

قلت وأنا أتسنَّد عليهم:

دعكم من لعب أطفال.. أنا لست صغيرة، ولم أعطِ الموافقة.

فضحكوا جميعهم.

وبينما نخرج من الحجرة، تركني العروسان، فكدت أقع، فحملني نادر، لكني صرخت فيه:

اتركني يا مجنون.

قال: أكون مجنونًا إذا تركْتُكِ.. هذه المرة سأتزوجك رغم أنفك المتكبرة المتجبرة.. والأولاد مرحبون تمامًا، وهم من اتصلوا بي، وحمَّسوني لهذا.

صحت فيه:

أولاد من؟؟ لا بد أن أستأذن عمار أولاً.

تمت

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
بث مباشر مباراة إنجلترا وأيرلندا (0-0) بدوري الأمم الأوروبية (لحظة بلحظة) | انطلاق المباراة