أيامنا الحلوة.. أصلها بتفرق

محمود خليل
محمود خليل

هل أنت مُحايد أم وَسطى؟ هلتُعلن موقفك المُحدَد الواضح من كلِحَدث وكل قَضية أم أن غاية أملك أن تُرضى الجميع وإنك (متزعلش حد) ؟ هل الحياد الدائم مُستحَب؟ هل يَصلُح أن يكون أسلوب حياه؟ ما هو الحياد الإيجابى؟ متى يذهب الحياد بالشخصية والمروءة ومتى يكون فضيلة ؟ ماذا عن الوَسَطية؟هل الوَسَطية هى الحياد أم أنهما شيئين مُختلفين وما الفرق بينهما؟

لُغوياً كلمة (حِياد) هى كلمة مُشتقة من الفعل (حايد) ومن معانيه عدم الإنحياز لطَرَف من أطراف الخُصومة أو الصراع، إذن فلا بُد من وجود خصومة لكى يوجد حياد،أى أن الحياد هو مُجرد مَبدأ نستدعيه فقط متى حضرت الصِراعات.

أما كلمة وَسَطية فهى كلمة مُشتقة من الفعل (وَسَط) ومعانيه كثيرة ومن أهمها التواجد فى وَسَط الأشياء، أى أن الشخص يُقرِر بمحض إرادته التواجد فى موقع الوَسَط من بعض أوكُل الأمور والأحداث، أى أن الوَسَطية حياه يعيشها ويختارها الإنسان!

لا يُمكن ولا يَجِب ولا يُتصوَر أن يكون الحِياد أسلوب حياه يُطبقها الإنسان فى كُل حياته و(عمَّال على بطَّال) ، ولا يكون الحِياد فضيلة أو مُستَحَباً إلا إن كان حياداً إيجابياً، وللحِياد الإيجابى شروط، فالحياد واجِب ومُستَحَب في كل ما لا تَعرفه وما لا تَفهمه، إذ لا يُفترض أن يُكوّن الإنسان موقفاً حول ما يجهله وما لا يفهمه، ويكون الحِياد هنا إختياراً مؤقتاً حتى يزول الجَهل وعدم الفَهم، فالُمتهم برئ حتى تثبُت إدانته على سبيل المِثال، وتظل المَحكمة فى حالة حياد حتى تعَلم وتفهم قبل أن تُصدِر الحُكْم!

ويجدُر بك أن تكون مُحايداً فيما لا يَخُصك ولا يَخُص وَطَنَك أودينَك أوعائلتك أومِهنَتك أوهواياتك أو أياً من أمورك،بإختصار فى كل ما هو خارج حدود مملكتَك، ويدخل إهتمامك بما لا يؤثر عليك وعلى أشيائك تحت بند تدخلك فيما لا يُعنيك! ولذلك فالحياد هنا -عندما لا يتعلق الأمر بِك- أولى وأوجب وأوفر لوقتِك ومجهودك.

شخصياً لا أرى أى مُبرر للحياد خارج هذين الشرطين، ويُزعجنى هؤلاء الذين إتخذوا الحياد كطريقة حياه، فيضحَكون للجميع ومع الجميع وعلى الجميع، ويُصفقون للجميع، وينتقدون الجميع، وهم فى ذلك غاية أملهِم وهدفهِم الأسمى هوالوصول إلى سلام نفسى مُزيف أو (راحة الدِماغ)كما أنهم لا يُحبون أن يُغضبوا أحداً ولو بمُخالفة الرأى.

و الحقيقة أننا نُصادف فى حياتنا الكثيرين من هؤلاء ( المُحايدون دائماً أو أصحاب مبدأ (خُلقنا لنحايد)) ، هؤلاء الذين لا يُغضبِون أحداً ولا يتخذون موقفاً واضحاً، وهُم موجودون دائماً فى كل مكان، فى كُل التجمعات و كل الكَيانات،يتعاملون فيها مثلُهم مِثل أبناء تلك الكَيانات والتَجمُعات، ومهما حاولت تِلك الكيانات أن تحتويهم وتُشعرهم بالإنتماء وأنهم جزء أصيل منها، فإن أبناء تلك الفِئة يحرُصون على إخفاء إنتمائهم ويستمتعون بكونهم غيرُمحسوبين على أحد ولا مُنتمين لأحد، وتصفهم العامية المصرية بكلمة (بِراويين) أى أن تطلعاتهم دائماً لخارج حدود التَجمعات والكيانات، وهكذا يُخرحهم إصرارهم الدائم على الحياد من الإنتماء الحقيقى لأى كيان وأى مجموعة.

وكرَد فِعل طبيعى لأخلاق تلك الطائفة المُحايدة دائماً، فإن ذاكرة الناس لا تستدعيهم ولا تُفكر فيهم إلا فى توافه الأمور،فهُم أصدقاء اللحظة وجلسات السَمَر و (القعدات الحلوة)، لكنهم ليسوا أهل النجدة والمروءة والدَعْم ، فقد ذهب الحياد الدائم بمروئتهم وشرفهم!

ومن المُصطلحات التى راجَت مؤخراً مُصطلح (الحياد خيانة)، وهو مُصطلح مُرتبط بالوطنية والوقوف خلف الوَطَن وقيادته وَقْت الأزمات ، فلا مجال للسكوت والتراجع عن التأييد الكامل للوطن وقياداته عندما يتعَرَض الأخير للخَطَر، ولا مجال لإنتقاد الوطَن وما يتعلق به عندما يستهدفه الأعداء، والحِياد فى حق الوطن هو أكبر الكبائر التى يرتكبها أبناء (خُلقنا لنحايد)، غير أن قُبح الحياد الدائم يتعدى معنى الخيانة، فالحياد الدائم يُشبه الموت إذ لا قيمة للإنسان ولا حياه فيه إلا إذا إتخذ موقفاً واضحاً من كل شئ.

أما الوسطية فهىعلى النقيض تماماً، فالوسطية حياه! والشخص الوَسَطى المُعتدِل له موقف من كل شئ ويترك أثراً فى كل شئ وكُل إنسان صادفه، لكنه لا يتطَرَف ولا يُبالغ ولا يُعطى الأمور أكبر من حجمها كما أنه لا يستهين بها، هو يَهتم لأمر الناس فيَنصُر المظلوم ويُعين الضعيف، لكنه يفعل كل ذلك بوسطية وبلا تطرف، والإنسان الوَسَطى هو إنسان إيجابى، يفرح ويحزن ويُعادى ويُسالم، مواقفه متجددة تتفاعل مع تغييرات الأحداث ويُقابل كل فعل بما يُناسبه من رد فعل، لا يخشى من مُخالفة أحد طالما أنه يقول ما يؤمن به وبطريقة مُحترمة لا غُلو فيها.

وقد حثنا الدين على الإيجابية ووضوح المواقف والتفاعُل معها بلا خوف إلا من الله، ويأمرنا الدين بأن نغَضَب لما يُغضب الله، وفى الحديث الشريف (إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، وتكون نُصرة الظالم بمنعه من الإسترسال فى الظُلم، وهو ما يُحتّم على الإنسان أن يأخذ موقفاً صريحاً واضحاً من كُل شئ وكل إنسان.

وفى الإنجيل نجد معنى مُشابهاً لهذا المَعنى ( إذا خَطى أَخوك، فَاذهَب إِليهِ وَانفَرِد بِه ووَبِّخْه. فإِذا سَمِع لَك، فقَد رَبِحتَ أَخاك، وإن لم يَسمَعْ لَك فخُذْ معَك رجُلاً أَو رجُلين، لِكَي يُحكَم في كُلِّ قضِيّة بِناءًا على كَلامِ شاهِدَين أَو ثَلاثة. إنجيل مَتّى (15-17)

و قد حثنا الدين على الوسطية وفى الحديث الشريف يُرشدنا رسول الله إلى الوسطية حتى فى العبادة والزُهد وذلك عندما ردَ رسولُ الله على الرجال الذين بالغوا فى العبادة والزهد مُطالباً إياهم بالوَسَطية قائلاً (أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني)

والمُحايد دائماً بخيل، وهو يبخَل عليك بوقتِهإذيبخل عليك بلحظاتٍ يشاركك فيها إهتماماتك وأمورك، ويبخَل بمشاعره أن يحزن لحُزنك ويفرح لفرحك، ويبخل بعلاقاتِه فلا يستخدم نفوذه ولا أهميته عند أحد لنُصرة حق أو خُذلانِ باطل، ويبخل بمالِه فلا يستمع أصلاً لشكوى رُبما أدت به بعد ذلك لإنفاق المال حلاً لمُشكلة أو رفعاًلكَربٍ أو ضيق، ويبخل عليك بصحته أن يسمتمع لمشاكل الناس ومتاعبهم حماية لراحته و راحة(دماغه)، وأنت وكُل حكاياتك ومشاكلك وهمومك أقل من أن يُنفق عليك شيئاً من ذلك!

والمُحايد دائماً جبان يخاف من المواجهات ويخاف من فقدان الشعبية ومن ردود فِعل الناس لما قد يقوله أو يُعلنه، ويقضى حياته كلها فى حسابات تنتهى به إلى منطقة لا حياه فيها، فيعيش كالببغاوات يسمع ما يقوله الناس ثم يُعيده إليهم بلا تغيير أو تعديل، وما الجُبن إلا موت فقد فاز باللذات كل مغامر!

أماالإنسان الوسَطى فهو إنسان عادى يتفاعل ويفرح ويحزن ويجود بمالِه ووقتِه وعلاقاتِه ما إستطاع وما دام ذلك مَقبولاً.

وتستطيع أن تحكى مشاكلك لإنسان وسَطى وتطلب النصيحة والدعم وسيُعطيك ما تُريد، سيسمعك وينصحك ويُحذرك، وسيعيش معك حياه كاملة فى لحظات نقاشك معه، ولن ينفعك فى ذلك شخص مُحايد يَنشُد (راحة الدماغ) وفقط ، لن يسمَعَك بإهتمام ولن ينفعل معك، وسيسمع ما قلته أنت فى حديثك معه ثم يعيده إليك ثانية خوفاً من أن يُغضبك وطلباً لراحة عقله و(دماغه).

وتستطيع أن تُناقش إنسان وسطى فى عقيدتِه مثلًا وسيَسمعك وسيرد على أسئلتك بما يعلم وسيعترف بجهله فيما لا يعلم، وسيُدون النقاط وسيذهب ويسأل فيما لا يعرفه وسيعود إليك بالردود ، وسيحرص أن تعرِف و أن تفهَم، سيسمح لك بالنقاش لكن لن يسمح لك بالتجاوز وسيردعك بحزم إن تطاولت، سيدور بينكما حوار حي حقيقى، أما صاحبنا الأخر فسيسمع ويسمع ويسمع ولن يُعلق إلا بحرص، فهو لا يُريد أن يُغضبك ولا يُريد أن يخسر راحة باله وراحة (دماغه)!

ولن تخرج من أبناء (خُلقنا لنحايد) برأى فى عَمَل فنى وإنما ستسمع منه صدى ما تقوله أنت، وسيقول لك ما يُرضيك فقطليتجنب المُناقشات، ولن يعُلِن هؤلاء عن إنتمائهم الرياضى إلا فى وسطٍأمِن خوفاً من حدة النقاش والمواجهات، فهم الأحياء الأموات حقاً!

ويُقِدّم المُحايدون دائماً أنفسهم للناس على أنهم وسَطيون، وينتقدون أصحاب المبادئ والمواقف ويطعنون فيهم على إعتبار أن إبداء الرأى فى حد ذاته تطرف، وينجحون بالفعل فى إجتذاب بعض الناس لصداقتهم، لكن حقيقتهم تنكشف عند أول إختبار ولذلك فنصيحتى لك إن قابلك أحدهم وقَدّم لك نفسه على أنه إنسان لطيف ووسطى ومُحايد أن تسأله بوضوح (هو إنت وسطى ولا مُحايد.. أصلها بتفرق!) !

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً