الإمام المراغي والشيخ عبد المنعم..!

عبد المنعم عاشور
عبد المنعم عاشور

في سياق المسلسل التلفزيونى الشهير "الإمام المراغي"، الذي يحكي سيرة واحد من علماء الأمة والمجددين، وهو الشيخ محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر من 1928 إلى عام 1930، ومن عام 1935 إلى وفاته عام 1945، وإنجازاته كثيرة لسنا في مقام سردها، ولكن الذي أريد التحدث عنه هنا سياق درامي أورده المسلسل وهو شخصية الشيخ عبد المنعم الذي كان صديقا قريبا من الشيخ المراغي سواء في الدراسة بالأزهر الشريف أو حتى خارج الدراسة في حياة المراغي الخاصة.

كان المراغي والشيخ عبد المنعم متناقضان لا يجتمعان أبدا، فالأول أفكاره نابعة من تعليمه الأزهري وعلاقته بالشيخ محمد عبده الذى كان أستاذا للمراغي، بينما الآخر كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بشيخ يسمى "دهموش" ويبدو أن اسمه فيه تشدد مثل فكره، حتى نقل كل أفكاره إلى تلميذه عبد المنعم التي كانت في غالبيتها متعلقة بفهم النصوص على ظاهرها فقط، رافضا أي فرصة للاجتهاد لتفسير النصوص إذ كان يرى أن عصر الاجتهاد قد أغلق بعد الأئمة الأربعة، وبالتالي كان يرى أن ما قاله المتقدمين يصلح لكل زمان ومكان دون البحث أو العناء، بينما كان يرى المراغى أن الاجتهاد واجب وأنه حيث تكون مصلحة الناس فثم شرع الله.

ومن عجائب الشيخ عبد المنعم التي سردها المسلسل، أنه كان يرى كل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسل بدعة وبالتالي لا يجب فعلها، فكان يذهب إلى بلده في الأرياف من القاهرة بـ"الحمار" لأن السيارات لم تكن موجودة في عهد النبي، وكان لا يأكل بالملعقة لأنها لم تكن موجودة أيضا في عهد النبوة، وغير ذلك من الطرائف.

لكن الأمر الذي كان أكثر غرابة وطرافة أن الشيخ عبد المنعم طلّق امرأته بسبب أنها كانت طريحة الفراش وكانت بين الحياة والموت وهو كان رافضا علاجها بحجة أن الأعشاب هي الطب النبوي وغير ذلك لا يجوز التداوي به، إلى جانب أنه كان يرفض أن تنكشف على طبيب وكان مصرا على طبيبة، لدرجة أنها كان ستموت فذهبت إلى المستشفى وأدخلوها غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية لأن حالتها كانت حرجة، فلما عرف الشيخ عبد المنعم أن من أجرى لها العملية طبيب طلقها.

على النقيض تماما، كان الإمام المراغي يرى الدين بنظرة أوسع فهو أول من صاغ قانونا للأحوال الشخصية قائم على الدمج بين المذاهب الأربعة تيسيرا على الناس ومعيشتهم بعد كان المذهب الحنفي هو المعتمد في مصر داخل أروقة القضاء، ووقتها عارضه كثيرون، وغير ذلك من الإنجازات التنويرية التي تمت إبان مشيخته للأزهر الشريف.

ما أحكيه ربما يقرأه القارئ ويرى فيه مبالغة، ولكن أؤكد لك أن أمثال الشيخ عبد المنعم كُثر في مجتمع فيه الأزهر الشريف رمز الوسطية، لك أن تتخيل أن هؤلاء يظهرون برؤوسهم ليصدروا أحكامهم الدينية بناء على قراءتهم للنصوص بسطحية ودون دراسة متأنية، غير مراعين لظروف البشر وأحوالهم، يستعلون بالدين ويرون أنهم الحامين لله المحافظين عليه، معظم العوام بالنسبة لديهم عاصيين لا يعرفون كيفية الصلاة ولا أركان الإسلام، نصبوا أنفسهم حاكمين على المجتمع وعلى أفعال البشر، لا يتركون فرصة إلا وتحدثوا عن صلاحهم وفساد المجتمع من حولهم.

هؤلاء الذين يبثون سمومهم وأفكارهم الخاطئة في عقول الذين يستهوون السماع لهم، يصدرون أحكامهم دون معرفة بالعلوم وأصولها، يرون الدين من زاوية ضيقة، ويحصرونه في العبادات دون المعاملات، كل مستحدث بدعة بالنسبة لديهم، "السبحة" لا يجوز التسبيح بها لأنها بدعة، قراءة القرآن من الهاتف أقل أجرا من المصحف، وغير ذلك من المسائل التي يختلفون فيها عن عقيدة العوام التي نشأنا عليها وتربينا عليها وفشلوا أن يغيروها أو يطمسوها.. عقيدة العوام التي لا يتخللها رياء ولا نفاق ولا واسطة بينه وبين الله ولا حكم على أفعال بشر، عقيدة العوام التي يهتم فيها الإنسان بعلاقته بربه دون النظر إلى غيره من الناس.

الذي أريد تأكيده، أن من يتصدى للحديث في الدين يجب أن يكون ملما بالواقع وتحدياته ومتغيراته، يقرأ كل العلوم ويطلع على كل الكتب، يجتهد، يبحث، يفكر، باب الاجتهاد مفتوح ولن يغلقه أحد، قبل أن تصدر فتوى يجب عليك أن تكون مفتيا وليس داعية فقط، فظروف الفتوى غير ظروف الدعوة.

ديننا دين الوسطية والتفقه والتدبر والعلم والثقافة، لا تسيئوا إلى الدين بعدم فهمكم، وبحكمك على البشر، دعوا الخلق للخالق وإذ نصحت فاجعل نصيحتك عن وعي وفهم وإدراك.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
إعلام إسرائيلي: تل أبيب تدرس الاستئناف على قرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو