مشهد لا يمكن لأي قارئ للصحف، فضلا عنالعاملين في هذا المجال أن يتجاهلوا دلالته، وهو أن أرصفة بيع الصحف التقليديةالتي كان يجلس عليها باعة الصحف وأمامهم الآلاف من النسخ والمئات من المجلاتيبدأون البيع فيها من قبل منتصف الليل إلى صباح اليوم التالي لم يعد موجودا،والحقيقة أني بسبب غيابي عن مصر لسنوات كانت هذه الملاحظة أكثر إثارة للدهشةبالنسبة لي شخصيا، بالنظر لأني تعودت على رؤية الصحف تباع في محال البقالة فيالخليج والأردن ودول أخرى، لكن المشهد المحبب لي والذي استرعى انتباه كثير ممنقابلتهم في صحف خليجية وأردنية ، وحتى في المغرب هو مشهد باعة الصحف في الميادينوفي الشوارع وأمام كل منهم أكوام من آلاف الصحف و يتحلق حولهم الجمهور يشتري مايستطيع شراءه بالمال، ويتصفح عناوين المنتصف الأعلى من الصفحات الأولى من باقيالصحف بلا مقابل، بخلاف شراء مجلات كان لها صيتها خارج مصر قبل شهرتها في مصر .
باعة الصحف مثقفون عضويون حملوا الثقافة والمعرفة لكل ركن من حواري مصر
لقد صدمني مشهد رؤية ثلاثة نسخ فقط من صحيفةشهيرة على الرصيف أمام بائع الصحف، وقد حصل عليها البائع ( أحمد ) في منتصف الليللتظل عنده معروضة للبيع في يوم صدورها التالي، كما أسر لي صديق على دراية بمطابعمؤسسة صحفية حكومية شهيرة أن أشهر مجلة سياسية في مصر وأعرق مجلة على الإطلاق فيكل العالم العربي تطبع في المؤسسة التي على دراية بأوامر الطباعة التجارية بها مالا يزيد عن 300 نسخة أسبوعيا فقط، بل أن تعطلت مطابع نفس هذه المؤسسة عن العملبسبب العجز عن توفير اعتمادات مالية لصيانة ماكينات الطباعة . الحقيقة أني شخصيا، ولعل كل جيلي، وهو يرىهذا التغير المدهش في أوضاع الصحافة المصرية يشعر بالحنين إلى دولة 'الجورنجالية ' العتيدة التي تربينا في بلاطها، وهى دولة حقيقية وليست مجازية،دولة يعمل في دولابها عشرات الآلاف من بائعي الصحف والمئات من كبار المتعهدين وعددلا يحصى من فتيات وفتيات يحملون الصحف وينادون عليها النداء الذي يطرب الآذان (أخبار أهرام جمهورية روز اليوسف أكتوبر المصور ) انقطع هذا النداء المحبب الذي كنانسمعه في الميادين والشوارع الفرعية، وغاب عم سيد الذي كان يخرج من بيته بعد مغربكل يوم ويتوجه لمكتب المتعهد ويحمل على دراجته الهوائية الاف النسخ يدور بها علينايبيعها لها في المقاهي التي نجلس عليها، ولا يمانع أن يسمح لنا باستبدال النسخةالتي قرأتها بنسخة أخرى من جريدة مختلفة مقابل قروش زيادة فوق سعر نسخة الجريدةالأولي، طالما أنه سوف يضمن إعادة كل النسخ المقروءة مع مرتجعات الصحيفة .
باعة صحف
حكاية أم سيد بائعة الصحف في ميدان الحسين وحرس الرئيس مبارك
اذكر أن من الموضوعات المبكرة التي حررتها ، وكنت طالبا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، تحقيقا عن أم سيد بائعة الصحف الشهيرة التي كانت تجلس في ميدان المشهد الحسيني، كانت تبدأ عملها بداية من منتصف الليل وحتي عصر اليوم التالي، وتستريح بين العصر والعشاء لتستعد لتوزيع صحف اليوم الجديد في الصباح القادم، ويساعدها أفراد اسرتها وكلهم من فتيات وشباب يحملون من كميات الصحف الهائلة التي أمامها مئات النسخ وينطلقون بها في كل اتجاه لبيعها لرواد مقاهي الأزهر والحسين وعددهم بعشرات الالاف في هذه الايام التي لم يكن يزيد ثمن الصحفية فيها عن 25قرش وثمن كوب شاى المقهى مثل هذا المبلغ، والحقيقة أيضا أنه على الباحثين في علم الاجتماع أن يبحثوا في الأثر العميق الذي تركه باعة الصحف على الحركة الثقافية المصرية، لقد حمل هؤلاء البسطاء الثقافة والفكر في أيديهم الخالية من كل شئ ونقلوا أفكار عشرات المثقفين والكتاب والسياسيين لكل ركن من أركان مصر في القاهرة والأقاليم، وحتى المادة الإخبارية غير الخفيفة في هذه الصحف كانت مادة محببة، كنا نكتب ونقرأ بنهم، وأنا أرى مكان أم سيد خاليا في ميدان الحسين استرجعت الشكوى الوحيدة التي كانت تشكوا لي بها، وهى أنه في كل مرة كان الرئيس الراحل مبارك يأتي لصلاة العيد كان حرس الرئيس يمنعونها من فرش الصحف أيام قبل زيارة الرئيس ويوم كامل بعد الزيارة، يومها كتبت شكوى أم سيد في صحيفة حزبية كانت مسموعة الكلمة تحت عنوان (عندما يأتي الرئيس ) .. ماتت أم سيد، عليها رحمة الله، وماتت معها دولة الجورنالجية ! ليرحم الله أم سيد ويرحم دولة الجورنالجية !