بين عام 1988 والتحاقي بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، وتاريخ كتابة هذا المقال، حدث ما لا يمكن، من وجهة نظر علم الاجتماع، تجاهله. وفي كلية الإعلام، كنا ندرس مادة اسمها 'علم الاجتماع الإعلامي'. كان هذا هو اسم المادة، ولكن المحتوى الذي كان يدرس لنا لا علاقة له بالإعلام، بل كان محتوى علميًّا جادًّا جدًّا قدمه لنا العالم الكبير المرموق الدكتور محمد الجوهري. ولكن إذا طُلب مني أن أقترح محتوىً جيدًا يدرسه طلاب علم الاجتماع في مادة 'علم الاجتماع الإعلامي'، فسأقترح دراسة الظروف والمدخلات التقنية والاقتصادية التي أدت إلى اختفاء باعة الصحف من شوارع مصر تدريجيًّا. لقد كانت أكشاك الصحف الشهيرة مراكز للتغيير الثقافي بحكم ما تبعيه يوميًّا من عشرات الآلاف من النسخ المطبوعة من كل الصحف والمجلات. وكان باعة الصحف بصوتهم المميز وهم ينادون 'أخبار - أهرام - جمهورية - روزاليوسف - آخر ساعة - المصور'. لقد اختفى هذا الصوت الجميل وتحولت 'فرش وأكشاك' بيع الصحف إلى بيع السجائر والحلويات. ومع الأسف، تحول بعض من تبقوا على قيد الحياة من باعة متجولين للصحف إلى الوقوف على إشارات المرور لبيع الصحف للسيارات المارة، في مشهد يقترب من التسول!'
ظاهرة أهل مصر والخلطة النسائية في صالات التحرير
'هذا ما حدث مع الأسف، وما حدث هو أن مهنة الصحافة التي نعرفها ماتت، وماتت معها الصحافة الورقية، وحلت محلها صحافة جديدة في وسيط جديد، وسيط أنا اعترف أني لا احبه ولا اظن اني سوف احبه لكن له من يحبه ومن يبرع فيه، لكن كما ظهرت روزاليوسف في وقت كانت المجلات السياسية فيها تحتاج إلى لمسة نسائية تميزها عن مجلات محمد التابعي وأخوانه، ظهرت الاستاذة داليا عماد لتقوم بعملية صحفية مدهشة جدا، فتحت لافتة صحفية تحمل اسما عبقريا هو (أهل مصر ) خلطت الاستاذة داليا عماد المواد الصحفية المحررة للويب بخلطة غريبة جدا لا أظن أنها يمكن أن تصدر إلا عن صحفية امرأة، والأغرب أنها خلطت مناخ العمل في أهل مصر بخلطة نسائية تشبه الخلطة التي جمعت بها فاطمة اليوسف صالة التحرير في روزاليوسف بخلطة ميزة صالة تحريرها التي جمعت الموهوبين في هذا العصر، وقد لا أكون غير قادر على امتلاك أدوات الكتابة عن ( ظاهرة أهل مصر ) في المجتمع الصحفي في الوقت الحالي بالنظر إلى ان الظاهرة مستمرة ولم تنتهي على الأقل حتي الان، ولكن قد تكون القصة التالية كاشفة عن بعض ملامح هذه الظاهرة والسيدة القائمة على هذه التجربة والرجل الصامت الذي يقف خلفها .'
اتصال دون سابق معرفة وبدون ميعاد
في عام 2018، عدت من سفرة، والحقيقة أنني سافرت في ظروف صعبة للغاية مرت بها مصر، ولم أكن قادرًا على تحمل ما حدث فيها قبل سفري. كان الجميع يعلم أن ما حدث في تلك الفترة الحرجة له تداعيات خطيرة، وأن أول من سيدفع ثمن هذه التداعيات هم الصحفيون. بالفعل، تم إغلاق مئات المواقع الإلكترونية، بالإضافة إلى جميع الصحف التي كانت تطبع بطريقة غير قانونية في قبرص، وحتى الصحف التي كانت تطبع دون ترخيص. كل هذا كان ضمن اتفاقيات معروفة الأطراف. نتيجة لذلك، أصبح جميع العاملين في هذه المجالات عاطلين عن العمل. أما من تبقى له وظيفة في صحيفة، فقد فقد معظم دخله من الصحف والمواقع التي أُغلقت. أنا عدت إلى مصر وكنت قد اتخذت قرارًا بعدم العمل في الصحافة داخل مصر أبدًا إلا إذا تغيرت الظروف، ولكن صديقًا نصحني بالعودة ومحاولة العمل. اتصلت بالأستاذة داليا عماد دون سابق معرفة وطلبت منها وظيفة. قد لا تتذكر الأستاذة داليا عماد هذه المكالمة، لكنني أتذكر كل تفاصيلها. وفي اليوم التالي، جلست في صالة التحرير وبدأت في التعرف على الزملاء.'
خلاف في كل الملفات حديث باللغة الصينية والرد بالسريانية
وفي ذلك اليوم التقيت بالأستاذة داليا وفي غضون أسبوعين التقينا حوالي ثلاث مرات. ناقشتها في كل ما أردت معرفة رأيها فيه، ولكن للأسف، كان هناك اختلاف كبير في وجهات نظرنا حول كل القضايا. بدا الأمر وكأننا نتحدث بلغات مختلفة تمامًا؛ أنا أتحدث السريانية والأستاذة داليا تتحدث الصينية! لم نتفق على أي شيء، وكان الاختلاف بين آرائنا كليًا ولم تظهر أي نقطة اتفاق لا في العمل الصحفي ولا في الشأن العام. ومرت الأيام، وهاتفتني الأستاذة داليا وطلبت مني الحضور سريعًا ومعي شهادة الميلاد وشهادة التخرج وباقي أوراق التعيين. كررت الاتصال بي مرتين لتؤكد على ضرورة حضوري لتوقيع عقد العمل. وافقت على الرغم من وجود اختلافات كبيرة في وجهات نظرنا حول كل القضايا. عندما وصلت إلى مكتب الأستاذة داليا، وجدت مجموعة من الشباب والشابات لا أعرف أسماءهم، بعضهم كان واقفًا والبعض الآخر كان يجلس على الكراسي في مجموعات صغيرة.
العيال فرحانة .. فاطمة اليوسف تظهر في شارع شامبليون
الكل فرحان وهم يمضون العقود وفي ذلك الوقت رن هاتف الأستاذة داليا، وكان المتحدث رئيس مجلس الإدارة الأستاذ محمد الشامي، لكن الحوار لم يكن بين رئيس مجلس إدارة وبين مشرف تحرير، الحوار كان بين أب وأم. طبعاً لم أكن ممكنًا أن أتجاهل جملة لافتة عفوية لسه فاكرها من 2018، وهي جملة مؤسسة لها ما بعدها، وأكرر بين قوسين (جملة مؤسسة لها ما بعدها)، قالت لرئيس مجلس الإدارة بخطاب بين زوجة (أم) وزوجها (أب) مش خطاب رسمي خاص بالعمل، لكن خطاب لا يفهم دلالاته إلا ذو العيال. مضت العقود والعيال فرحنين وشهم منور، هذه الجملة (العيال مضوا العقود وفراحنين وشهم منور) مش جملة تقال في دواليب عمل، ولا جملة تقال حتى في مكالمة ودية، هي جملة تقال على لسان سيدة تشعر أنها أم للعيال وتعتبر أن العاملين معها في الجورنال (عيالها). ولمن لا يعف ب( العيال) هو النداء الذي كانت تستعمله فاطمة اليوسف مع كل الصحفيين العاملين معها مثلهم مثل ابنها الصحفي والكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس، وهؤلاء (العيال ) أصبح كلهم نجوما في الأدب والصحافة والسياسة بعد ذلك وحدث المتوقع أزمات تفرز الزملاء، زملاء مشوا وزملاء بقوا، وزملاء مشوا بهدوء وزملاء مشوا بشوشرة، عادي جدًا، ورجعت اختلف تاني مع الأستاذة داليا عندما غضبت من الزملاء اللي غادروا أهل مصر. كنت أقول لها إن من حقهم يمشوا حتى لو انطبق عليهم مثال الهاربون من السفينة لكن الأستاذة داليا، وكالعادة، اعتبرتي لا أبه بمصالح الإدارة، استمرت في طريقها، ومرت بعد هذا العام أعوام، وفي 2024 دخلت أول دفعة من أهل مصر نقابة الصحفيين، ويومها قابلت الأستاذة داليا عماد، وكان على وجهها نفس الفرحة لقبول كل من تقدم من أهل مصر حتى وإن لم تكن هي بينهم، لأنها ببساطة تعتعتبر كل من في أهل مصر (العيال) و(العيال) ليس تقليلًا من شأنهم، لكنها وصف الأم لأبناءها. من لم يشكر الناس لن يشكر الله، والشكر هنا ليس للأستاذة داليا فقط، بل للأستاذ محمد الشامي رئيس مجلس الإدارة الرجل الصامت والصامد وراء أهل مصر.