في يوم من شتاء تسعينيات مبارك، ظهرت لافتة مكتوب عليها 'حزب مصر الفتاة'. وكان قد صدر من جريدة الحزب لأول مرة أعداد توحي بأن ورائها صحفيين موهوبين، وهم نفسهم الذين سوف يصبحون من أشهر وأكبر الكتاب بعد ذلك في قادم الأيام. كانت اللافتة مكتوبة بطريقة بدائية والمبنى الذي يشغله مقر الحزب والجريدة مبنى شبه متهدم قرب سفارة تشيكوسلوفاكيا القديمة قبل أن تنفصل إلى دولتين. فوجدت نفسي بدون شعور وعلى خلاف خجلي الطبيعي أصعد على سلم المبنى وأدخل لأجد أمامي أشخاصًا يجلسون حول 'طاولة' اجتماعات، وفي ركن يجلس على مكتب متواضع من عرفت بعد ذلك أنه الصحفي الكبير الأستاذ طلعت إسماعيل. قدمت له نفسي بفخر كنا نشعر به كطلبة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وتفهم الرجل غرضي من أول جملة نطقت بها، لكنه استمع مني بسعة صدر. وفي نهاية كلامي قال لي جملة هي أول درس تعلمته في المهنة، كانت الجملة واضحة تمامًا: 'لا تشغل نفسك بالقصص والأدب، أهم ما يجب أن تتعلمه الآن هو أن تتعلم كيف تكتب الأخبار وباقي الأشكال الصحفية'.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
ولأول وهلة، كان ظهور لافتة 'مصر الفتاة' على لافتة تعلو مبنى قرب ميدان الدقي له أكثر من دلالة سياسية. أهمها أن هناك خطة لخلق كيان موازٍ لحزب العمل الاشتراكي بعد أن تنازل عن اشتراكيته وتحالف مع جماعات دينية. لكن في كل الأحوال، بدت التجربة من الخارج بالنسبة لنا فرصة لنتدرب في صحيفة تحمل اسمًا له شرعية تاريخية مثل حزب مصر الفتاة، وليس صحيفة تنتحل اسمًا لإصدار دولي يصدر عن جمعية وهمية أو كيان لا وجود له. كانت صحيفة الحزب تصدر وعلى لافتة الترويسة صورة لمؤسس حزب مصر الفتاة أحمد حسين على اليمين وعلى اليسار صورة جمال عبد الناصر. وهي توليفة سياسية غريبة لا يمكن أن تصمد أمام أي تدقيق حزبي، وحتى في هذا الوقت المبكر ومع قلة خبرتنا السياسية، عرفنا أن أهم ما في الكيان الجديد 'مصر الفتاة' هو جريدة الحزب وليس الحزب نفسه، وأن الحزب لن يكون في جميع الأحوال إلا محاولة لدجل سياسي باستغلال للشرعية التاريخية لحزب مصر الفتاة القديم.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
ظهر اسم مصر الفتاة عام 1929 لأول مرة، ثم بدأت تتكون ملامح تلك الجمعية الوطنية إبان 'مشروع القرش'. وفي جمادى الآخرة 1352 هـ / أكتوبر 1933م، تشكلت جمعية 'مصر الفتاة' وأعلنت رسميًا تحت رئاسة 'أحمد حسين'، واتخذت من جريدة 'الصرخة' لسانًا لها. وكانت جمعية ذات أهداف وطنية قد تصل إلى حد الحماسة المفرطة، ولعل ذلك يرجع إلى حالة الاحتلال التي كانت تعيشها مصر. فكان من مبادئها أن على كل مصري أن يؤمن بأن مصر فوق الجميع، وأن يشعل القومية المصرية، وأن تصبح الكلمة المصرية هي العليا وما عداها لغوًا. وكان من متطلباتها: 'لا تتحدث إلا بالعربية'، و'لا تشتر إلا من مصري'، و'لا تلبس إلا ما صنع في مصر'، و'احتقر كل ما هو أجنبي، وتعصب لقوميتك إلى حد الجنون'.
كان أحمد حسين يجمع بين الحماس الثوري والفكر المنظم. ففي الجامعة، قاد حركة وطنية واسعة، وأطلق 'مشروع القرش' الذي كان يهدف إلى بناء صناعة وطنية قوية، مستخدمًا في ذلك أساليب تنظيمية مبتكرة في هذه الفترة. في خضم الصراع المحتدم حول الهوية الوطنية المصرية، تبنى أحمد حسين وفتحي رضوان 'مشروع القرش' كرمز للمقاومة الثقافية. فقد كان الطربوش، في تلك الفترة، أكثر من مجرد غطاء للرأس، بل كان تجسيدًا للهوية المصرية الأصيلة في مواجهة المد الغربي المتزايد.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
وفي هذه الفترة، استغل إسماعيل رئيس الوزراء صدقي باشا مشروع القرش كأداة في صراعه السياسي مع حزب الوفد، راجيًا كسب تأييد الشعب وتحويل اهتمام الشباب عن القضايا الوطنية الكبرى، مثل الاستقلال. كما شارك الشاعر أحمد شوقي في دعم المشروع بأشعاره، وكان مما قاله:
'علم الآباء واهتف قائلا
أيها الشعب تعاون واقتصد
إجمع القرش إلى القرش يكن
لك من جمعهما مال لبد
أطلب القطن وزاول غيره
واتخذ سوقا إذا السوق كسد'
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
لم يكن مشروع القرش مجرد مبادرة طلابية، بل تحول إلى حركة وطنية شاملة، حيث شارك فيه آلاف المصريين من مختلف الطبقات. وبفضل التبرعات السخية والحماس الشعبي، تمكن المشروع من جمع حوالي 13 ألف جنيه وهو مبلغ ضخم في هذا الوقت، سمح بإنشاء مصنع حديث للطرابيش في العباسية، ليصبح هذا المصنع رمزًا للاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات. في أواخر 1933، بدأ الطربوش المصري يطرح في الأسواق، غير أن بعض الوفديين قاموا بمظاهرات تنادي بسقوط أحمد حسين، وتقول: 'يسقط حرامي القرش'، واتهموه باختلاس أموال المشروع، وكانت حملة تشهير قاسية ضده تغذيها روح السياسة، فاضطرته إلى الاستقالة من سكرتارية جمعية القرش.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
وفي نطاق تخبطه السياسي، تخلى أحمد حسين عن أفكاره القومية، وفي تحول مفاجئ، تبنى حزب مصر الفتاة خطابًا دينيًا متشددًا، داعيًا إلى إحياء الخلافة الإسلامية على يد الملك فاروق، وحمل الحضارة الغربية مسؤولية تدهور المجتمع المصري، متخليًا بذلك عن خطابه القومي السابق. وفي عام 1940، تحول حزب مصر الفتاة إلى حزب وطني قومي إسلامي، وذلك في سياق المنافسة الشديدة مع جماعة الإخوان المسلمين وبروز القضية الفلسطينية. وقد دفع هذا التحول أحمد حسين إلى تبني خطاب ديني قومي يجمع بين الدعوة إلى الوحدة العربية والتمسك بالهوية المصرية، سعياً لكسب تأييد أكبر للشباب.
ثم أظهر برنامج حزب مصر الفتاة لعام 1948 ازدواجية في الرؤية، فبينما تبنى بعض الأفكار الاشتراكية التي كانت سائدة في الحركة الوطنية، إلا أنه بقي متمسكًا بروح محافظة، حيث أبقى على شعارات تقليدية كـ'الملكية الدستورية' ولم يتطرق إلى قضية الصراع الطبقي. ثم شهد حزب مصر الفتاة تحولًا جذريًا في مرجعيته الرمزية، حيث تخلى عن شعار 'الله.. الوطن.. الملك' وتبنى شعار 'الله.. الشعب'، مما يعكس رغبته في الانفصال عن النظام الملكي والتحول نحو نظام أكثر ديمقراطية.
كانت صحيفته 'الاشتراكية' توزع ما يقرب من 80 إلى 100 ألف نسخة. ورغم أن صحيفة الحزب انتشرت في أماكن كثيرة في مصر، فإن الحزب لم يستطع أن ينشئ قواعد ثورية له، فارتكز نشاط الحزب في الأساس على الإثارة السياسية أكثر من الإعداد المنظم للعمل الثوري. ويرى المؤرخ طارق البشري أن أحمد حسين كان يتأثر بالشعور الشعبي العام؛ بل إنه في بعض استجاباته كان يخضع للجماهير. في 24 يناير 1952، عقد مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه أنه قرر الانسحاب من الحياة العامة، متوقعًا تردي البلاد في الكوارث. وكان ذلك قبل حريق القاهرة بيومين، وقد وجه له البعض أنه يقف هو وحزبه وراء حريق القاهرة الشهير، وقدم إلى المحاكمة، وطالبت الحكومة بإعدامه، وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
أُفرج عن أحمد حسين بعد قيام حركة يوليو 1952م وإسقاط النظام الملكي، وعاد لنشاطه، لكن حل الأحزاب شمل حزبه في 1373 هـ / 1953م، ثم ما لبث أن تعرض للسجن والتعذيب الوحشي في السجن الحربي إبان 'أزمة مارس' الشهيرة عام 1954م، والتي دار خلالها صراع على السلطة بين الرئيس محمد نجيب وجمال عبد الناصر الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء، وذلك بسبب برقية أرسلها إلى الطرفين قال فيها: 'إن مصر ليست ضيعة أو عزبة تتداولونها'.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
عندما أفرج عنه، انتقل أحمد حسين إلى منفاه الاختياري في سوريا، ثم لبنان، ثم لندن، ثم السودان، ولم يكف خلال هذا التجوال عن إرسال البرقيات إلى الرئيس جمال عبد الناصر -الذي كان عضوا سابقًا في حزب مصر الفتاة- يطالبه فيها بالديمقراطية ويحذره من الاستبداد والديكتاتورية. في عام 1376 هـ / 1956م، طلب أحمد حسين العودة إلى مصر على أن يعتزل العمل السياسي، واستجيب لطلبه، فعمل بالمحاماة فترة، ثم اعتزلها عام 1380 هـ / 1960م، ثم توفي أحمد حسين في 17 ذو الحجة 1403هـ الموافق 26 سبتمبر 1982 في عصر مبارك، وظني أنه مات ولم يشعر به أحد.
كان السرد التاريخي السابق عن حزب مصر الفتاة ضروريًا لنفهم التناقض الكبير الذي عبرت عنه صحيفة مصر الفتاة في إصدارها الجديد في فترة جمهورية مبارك التي اشتهرت باصطناع الأحزاب بين وقت وآخر. وهو حزب نشأ من فكرة فاشستية بالأساس ثم تأرجح بين الاشتراكية والإسلام ولم يجد مؤسسه أحمد حسين حرجا من أن يراسل هتلر ويضع نفسه وحزبه في دائرة شبهة التخابر مع ألمانيا النازية. والحقيقة كان تناقضًا في كل شيء. فالصفحة الأولى للصحيفة تحمل على اليمين وبين تكوين لافتة الصحيفة صورة أحمد حسين، وعلى اليسار صورة جمال عبد الناصر، والأخير هو الذي سجن أحمد حسين وطارده في سوريا ولبنان ولم يسمح له أبدًا بالعمل السياسي ولا حتى بالعمل العام أو الكتابة في الصحف. أما كوادر الحزب أو قيادته فكانوا خليطًا مضحكًا في الحقيقة. رئيس الحزب يملك مصنعًا مجهولًا لصناعة الرنجة، وبعض السماسرة والتجار، وطيف واسع من طريدي حزب العمل الناصريين الذين تركوا حزب العمل بعد خسارتهم معركة سياسية مع الوافدين الجدد على الحزب بعد أن قرر عادل حسين، الأمين العام للحزب وشقيق أحمد حسين نفسه مؤسس مصر الفتاة، أن يسير على درب أخيه فتحول بحزب العمل من الاشتراكية لتبني الأفكار السياسية، وطاوعه في ذلك الراحل إبراهيم شكري ثعلب السياسة المصرية العجوز الذي كان يحظي باحترام كبير طوال عصر الرئيس الراحل حسني مبارك لأسباب مختلفة. أما أمين الشباب في حزب مصر الفتاة فهو شخص طيب القلب وإن كان لا يخفي، بل يجاهر، بأنه يتعاون مع 'أمن الدولة' وهو اسم جهاز الأمن السياسي في عهد مبارك. أما صفحات الرأي في الصحيفة فهي خليط بين المحتوى القومي وبين محتوى إسلامي، لكن مع ذلك فقد كان المحتوى الخبري والأشكال الصحفية التي تنشرها الصحيفة هو المحتوى المتجانس الوحيد في الحزب وفي الصحيفة، على الرغم من أن الصحفيين العاملين في تحريرها كانوا خليطًا بين ناصريين وبعد القادمين من الجماعة الإسلامية وماركسي وحيد هو قديس اليسار والمناضل الذي لا يتوقف عن نشر الأمل، الصحفي الكبير الأستاذ هشام فؤاد عبد الحليم.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
حضرنا اجتماع التحرير الأول الذي خصص لقسم الأخبار، وقرر الأستاذ والصحفي الكبير، طلعت إسماعيل، أن يلحقنا بالعمل في قسم الأخبار. وكانت وجهة نظره، وهي صحيحة مئة بالمائة، أن قسم الأخبار هو الذي يساعد على تكوين الصحفي في بدايته، خاصة إذا كان صحفيًا على عتبة العمل الصحفي وشابًا صغيرًا ليس لديه ما يمنعه أدبيًا، على الأقل، من أن 'يطرق أبواب' المصادر ويعرفها بنفسه ويبني معهم الثقة. وكانت من القواعد المعمول بها في صحف هذه الفترة أن من يلتحق متدربًا بالصحف لا يحصل على أي بطاقة صحفية تؤكد انتسابه للصحيفة قبل مرور شهور من عمله وإثبات جدارته. وكانت مشكلة بالنسبة لنا أن نطرق أبواب المصادر بدون هوية تعريف.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
كانت فكرة 'طرق الأبواب' هي الوسيلة الوحيدة في هذا الوقت من أجل الحصول على مصادر صحفية. لم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت، ولا مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات التي تساعد على التواصل بين الصحفيين والمصادر. ولم يكن متاحًا إلا الهاتف الثابت. فكان على الصحفي في هذا الوقت أن يجمع أرقام هواتف مصادره الثابتة في مكاتبهم، أو في منازلهم إذا نجح الصحفي بعد ذلك في بناء حبل من الثقة المتين مع المصدر.
وفي ظروف جريدة مصر الفتاة التي كانت تفتقد كل إمكانيات صالات التحرير ولم يكن لها من اسم 'صالة تحرير' أي نصيب، كان علينا أن نستعين بهواتف أكشاك السجائر، لأن حتى بطاقات الاتصال المدفوعة التي كانت متاحة للاتصال من بعض الكبائن لم تكن متوفرة في كل الأوقات، لأننا ببساطة في هذا الوقت لم يكن لدينا رفاهية شراء بطاقة اتصال بأي مبلغ مجمع. ولم يكن حزب مصر الفتاة يصرف للمحررين فيه، بمن فيهم المعينين في الصحيفة الذين ينتظرون عضوية نقابة الصحفيين، وهي عضوية لن تتحقق أبدًا لهم من خلال حزب مصر الفتاة. ولكن المفارقة السعيدة أن هذه صالة تحرير جريدة حزب مصر الفتاة هي التي سوف يخرج منها أشهر الصحفيين في مصر بعد ذلك.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
وأذكر أول يوم لاجتماع التحرير كان يوم الاثنين. وكان اختيار يوم اجتماع التحرير هو الدرس الثاني الهام الذي تعلمناه في أول تجربة التحقت بها، وهي أن اجتماع التحرير يجب أن يكون في نفس يوم صدور الجريدة إن كانت أسبوعية، وفي صباح اليوم التالي للصدور إن كانت يومية. أما الدرس الثالث فهو أن اجتماع التحرير هو الوقت والمكان الذي يجب أن نتحمل فيه أقسى النقد لما نشرناه في العدد الماضي، وأن نعرض فيه أفكارنا للعدد القادم. وفي المقر المتهدم في حزب مصر الفتاة، كان حظي أن ألتقي بأساتذة كبار، كانوا شبابًا في هذه الفترة يعملون مقابل مبالغ زهيدة على أمل أن تلحقهم صحيفة الحزب بعضوية نقابة الصحفيين. وهنا عرفت لأول مرة معاناة الصحفيين في مصر من أجل الالتحاق بنقابة الصحفيين. كانت عقود الصحفيين في ذلك الوقت لا يزيد راتبها عن 65 جنيهًا، وكان كل صحفي يقبل بعقد إذعان من أجل عضوية النقابة، ومع الأسف استمرت هذه الظاهرة حتى الآن في معظم الصحف.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
كانت تقاليد الصحف الأسبوعية أن يكون يوم صدور العدد الأسبوعي هو
نفس يوم اجتماع التحرير للنقاش حول العدد الصادر. لم يكن الحضور في اجتماع التحرير خيارًا يمكن لأي محرر أن يتجاهله، بل كان إجباريًا إلا في حالات استثنائية يقدرها رئيس القسم الذي يتبعه المحرر. وغالباً ما كانت هذه الظروف ترفض إلا إذا كانت لا ترتبط بظروف العمل. وكان من المفترض أن يخضع العدد الصادر لنقد بناء لتدارك أي نقص أو نقاط ضعف فيه، وأن يعرض كل محرر أفكاره وما لديه من توقعات بشأن ما سيقدمه في العدد الجديد. ولحسن الحظ في هذا الوقت لم يكن في مصر إلا كلية وحيدة للإعلام يلتحق بها عدد قليل من الطلاب، وهو ما أعطانا لندمج بين ما نتلقاه من معارف في الكلية وبين ما نتلقاه من خبرات مهنية في صالات التحرير، بل وكان عددنا الصغير يعطينا فرصة للتواصل المباشر مع الأساتذة في الكلية وزيارة بعضهم بصورة شخصية للحصول على المزيد من الخبرة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
كانت المعرفة الأساسية التي حصلنا عليها في كلية الإعلام، ثم تأكدت من خلال صالات التحرير، هي أن العمل الصحفي يصبح أكثر صعوبة كلما طالت فترة الإصدار. فالعمل في الإصدار الأسبوعي أصعب من العمل في الإصدار اليومي، والعمل في الإصدار الشهري أصعب من العمل في الإصدار الأسبوعي، وهكذا. وعلى الرغم من أننا درسنا هذه القاعدة في قاعات المحاضرات، إلا أنها لم تتضح لنا تمامًا إلا بعد أن أصبحنا على المحك، مطالبين بتقديم أعمال صالحة للنشر في صحف أسبوعية. كانت هذه خبرة عملية مدهشة بالنسبة لشباب لا يملكون الحد الأدنى من الخبرة في ذلك الوقت. كنا نفكر مثل الهواة، ولم يكن هناك أفضل من خبرة اجتماعات صالات التحرير لنتعرف على صعوبة الكتابة للصحف الأسبوعية. ذلك لأن الفكرة التي يجب طرحها في اجتماع صحيفة أسبوعية يجب أن تكون قوية بما يكفي لتصمد لمدة أسبوع في ظل صدور الصحف اليومية الأخرى التي تحرق مئات الأفكار يوميًا وتحرم الإصدارات الأسبوعية منها.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
في نفس الوقت، كانت الصعوبة مضاعفة بالنسبة لقسم الأخبار. فمحرر الأخبار يجب أن يطرح في اجتماع القسم ما يتوقعه من أخبار سوف ينفرد بها، ويواجه صحفي قسم الأخبار مخاطرة مزدوجة: أنه سوف يكشف عن خبر قد يكون حصل عليه بشكل انفرادي من مصدر، وبمجرد كشف الخبر أو جانب منه، سوف يخرج الخبر من دائرة الخصوصية التي يتكتم عليها الصحفي لدائرة أوسع. وحتى مع افتراض أن جميع من يسمع هذه التفاصيل سوف يتكتمون عليه، فإن المخاطرة الأخرى هي أن صحفي قسم الأخبار يخاطر بعلاقته مع المصدر نفسه إذا ما شاع الانفراد الذي قد يكون المصدر قد خصه به. وهي إشكالية لا حل لها إلا أن يتكتم صحفي الأخبار على ما لديه من انفرادات ولا يفصح عنها في صالات التحرير ولا في اجتماع التحرير، وأن يدلي بأفكار عن أخبار غير مؤكدة وحتى في بعض الحالات زائفة. وهي حيلة لم تكن رئيس القسم، إن كان خبيرًا، يمانع في تمريرها بشرط أن يقدم له صحفي الأخبار في وقت مناسب قبل الطباعة ما يبرر تمرير الأفكار الزائفة في الاجتماع الأسبوعي لقسم الأخبار. وهي حيلة تجعل من العمل في قسم الأخبار مخاطرة مستمرة، خاصة إذا كان المحرر متدربًا بدون مصدر مخصص له. ولكن لحسن الحظ، فإن القائمين على العمل الصحفي في جريدة مصر الفتاة في ذلك الوقت كانوا يتمتعون بخبرة مهنية جعلتهم متفهمين لذلك.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
مرت أيام مصر الفتاة بحلوها وأيضًا 'مرها'. فلم تكن هذه الفترة في حياتنا إلا مثل مغامرة جميلة بالرغم من بعض المتاعب. وكعادة أحزاب المعارضة في جمهورية مبارك، بدأت المشاكل والانشقاقات ولكن في حزب الفتاة بدأت مبكرًا بعد أن صدر من الصحيفة (الجورنال) أو بلهجة العامية المصرية 'الجورنال' أعداد ناجحة بفضل صحفيين على قدر هائل من المهنية نجحوا في أن يخرجوا للمجتمع الصحفي صحيفة من أقوى صحف المعارضة لمبارك في هذا الوقت، ومثلت المعادل 'القومي' لصحيفة الشعب التي غلب على محتواها الخطاب الديني. وبعد أن نجحت الصحيفة وحققت أرقامًا للتوزيع أثبتت هذا النجاح، دب الخلاف بدون سبب منطقي بين رئيس التحرير ورئيس الحزب، وحاول من طرف استمالة الصحفيين لصالحه، وحدثت مهازل على مستوى الخطاب بين الطرفين.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
وسار حزب مصر الفتاة على درب كل الأحزاب السياسية التي ظهرت في عصر مبارك كانت أحزابًا زائفة تضم بين جدرانها القليل من الوطنيين المخلصين لمبادئهم وكثير من مدعي الوطنية ومحترفي العمل السياسي الذين يحولون مراكزهم في الأحزاب لمواقع يتكسبون منها ، ولن نخوض فيما حدث من خلافات ومهازل في الأيام الأخيرة لنا في مصر الفتاة، ولكن من المفيد الإشارة لشخصية رئيس الحزب في هذا الوقت، وكان رجلُا يعمل بالمحاماة وببعض الأعمال الخاصة ، وقد يكون الرجل حسن النية في سعيه لإحياء تراث مصر الفتاة، ولكنه لسوء الحظ لم يدير العمل الحزب والسياسي بالحرفية المفترضة في رجل بمثل عمره وخبرته بالحياة، وتورط في خلافات شخصية تخص رئيس تحرير الصحيفة مع رئيس تحرير أحد المؤسسات الصحفية الحكومية، وكان رئيس تحرير الصحيفة الحكومية مقربًا من الرئيس مبارك، وبدأ رئيس تحرير مصر الفتاة في تخصيص مساحة من الصحيفة لنشر ملاسنات لا تليق في حقيقة الأمر بمستوى الخطاب الإعلامي المفترض في حزب بمثل عراقة حزب مصر الفتاة، ولم يكن هناك أى فائدة على المستوى السياسي أو حتى الصحفي من مثل هذه الملاسنات، وعندما حدث الشرخ في العلاقة بين رئيس حزب مصر الفتاة ورئيس تحرير صحيفة الحزب، لم يكن من الممكن إصلاح سفينة الحزب التي وضعها رئيس التحرير في مرمى صراع شخصي مع رجل مقرب من السلطة، ولا أعلم ما هى الرؤية السياسية التي تجعل حزبا عائدًا للساحة السياسية أن يتورط في مثل هذه الملاسنات، وكانت النتيجة الطبيعية أن أغلق الحزب أبوابه وتوقفت الصحيفة عن الصدور، وضاعت أحلام العاملين في الصحيفة الذين كانوا على مرمى حجر من التعيين وعضوية نقابة الصحفيين بسبب رعونة أشخاص لم يأخذوا في الحسبان المستقبل المهني للشباب الذين كانوا يعملون معهم .
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن مصر الفتاة .. الجريدة والحزب ومصنع الرنجة !
وكانت امتحانات نهاية العام في كلية الإعلام على الأبواب، فتركنا الصراع الممتد بين مقر الحزب في الدقي ومكتب إذاعة أجنبية يديره رئيس التحرير في عمارات معروف بوسط القاهرة، وعدنا للدور الرابع بكلة الاقتصاد والعلوم السياسية لنحتمي بالدور الذي كان مخصصا في ذلك الوقت لطلبة كلية الإعلام من سهام السياسة الطائشة طائشة، وننهي العام الدراسي ويقدم كل منا ما نشره للمعدين المشرفين على سكاشكن التدريب العملي لنحصل على أعمال درجات السنة، على أمل أن نبحث بعد أن ننتهي من الدراسة عن صالة تحرير جديدة نتدرب فيها، ومغامرة صحفية جديدة ننخرط فيها وشغف العمل الصحفي يحركنا وليس الرغبة في الحصول على راتب أو التعيين في مؤسسة صحفية.