ads
ads

نساجات النور: الرموز الأنثوية المقدسة وفلسفة الوجود في مصر القديمة

نهال جمال عمران
نهال جمال عمران

على مدار أكثر من عشرين عاماً من الغوص في أروقة الحضارة المصرية القديمة، لم تكن رحلتي مجرد بحث في التاريخ، بل كانت محاولة لاستعادة "روح" مفقودة ونبشاً في جذور الهوية التي تعرضت لطبقات من التغيب. عندما نتحدث عن مصر القديمة، نحن لا نتحدث عن حضارة بائدة، بل عن عقيدة حية، ضخمة ومركبة، بُنيت على الإيمان العميق والارتباط الوثيق بقوى الكون.

الرمز لا الصنم: كيف نصحح المفهوم المخل ؟

من المؤسف أن يُختصر إرثنا العظيم في مصطلح "عبادة الأصنام". هذا التبسيط المخل يغفل حقيقة أن المصري القديم كان يستخدم الرمز ليختزل خلفه مفاهيم معقدة لا تستطيع الكلمات وحدها حملها. المصريون لم يسموا هذه القوى "آلهة" بالمعنى اليوناني، بل سموها "نترو" (Neteru)، وهي تعني القوى الكونية أو القدرات الإلهية.

الفرق بين الكلمة والرمز كالفرق بين الوصف والجوهر؛ فكلمة "الرحمة" بسيطة، لكن رمز "حتحور" هو كينونة تجمع بين الرحمة، الفن، الحب، والشفاء و معاني اخري في آن واحد. إنها لغة تتجاوز المنطق الصوري لتخاطب الوجدان والروح.

حتحور: ربة الجمال والبيت السعيد

نبدأ بـ "حتحور" لأنها مدخلنا لفهم الأنوثة بمفهومها الشامل. حتحور ليست مجرد وجه جميل، بل هي رمز مركب يشمل:

* الموسيقى والرقص: في معبدها بـ "دندرة"، كانت الكاهنات متخصصات في الفنون الرفيعة كالانشاد والعزف.

* التمريض والشفاء: المعبد كان بمثابة مدرسة طبية وتأهيلية للرعاية النفسية والبدنية بالاضافه للتوليد و التمريض.

* العطور والزيوت: سر الأنوثة والعناية بالذات، حيث برعت الكاهنات في استخلاص الزيوت العلاجية والجمالية

بالاضافة للفلك .

اسمها "حت-حور" يعني "بيت حورس". هي السكن، هي الاحتواء للراجل الحامي. وفي الموروث الشعبي، عندما نقول "هقلبها

لك دندرة"، نحن نشير لا شعورياً إلى صخب الفرح والموسيقى الذي كان يملأ معبدها. تظهر حتحور غالباً بأذني بقرة أو بقرنين يحيطان بقرص الشمس، لأن البقرة عند المصري القديم كانت رمزاً للعطاء المطلق والسكينة الإيقاعية.

إيزيس (إيست): "الست" المصرية وسر الشرعية

إذا انتقلنا إلى أسوان، نجد "إيزيس" (أو "إيست" باللغة المصرية القديمة). إيزيس هي "الست" بكل ما تحمله الكلمة من ثقل في الوجدان المصري. لقب "الست" الذي نطلقه اليوم هو امتداد مباشر لاسم إيزيس التي كانت تمثل السيادة والأنوثة الكاملة.

إيزيس هي الأم التي تربي الرجال، هي التي تمنح "الشرعية" وتصنع الملوك. طاقة

إيزيس هي التي تجعل من الابن محارباً أو رئيساً قوياً. لكن هناك فرقاً جوهرياً؛ فإيزيس المقدسة هي التي تتحرك من دافع "الحب" والوصل الإلهي. الأم التي تسيطر بدافع الخوف والانانية هي طاقة مشوهة، بينما إيزيس هي الأمومة الواعية التي تمنح القوة والكرامة.

ماعت: ريشة الاستقامة وميزان الكون

في مرتبة عليا فوق الرموز الشخصية، نجد "ماعت". وهي الست التي تضع ريشة فوق رأسها، وتمثل "قانون الانسجام الكوني".

* الصراط المستقيم: ماعت هي المسار الذي يمنع الكون من الانهيار في الفوضى.

* العدالة والنية: في محاكمة الآخرة، يوضع قلب المتوفى في كفة وريشة "ماعت" في كفة أخرى. هذا المفهوم يعلمنا

أن القلب السليم هو المقياس؛ فالفعل لا قيمة له إذا لم يكن نابعاً من نية صادقة ومنسجمة مع قوانين الحق.

الطب والكهنوت: ريادة الكاهنات في

"بيوت الحياة"

البربا خي بيت الروح ،لم يكن الطب في مصر القديمة مجرد ممارسة عقلانية بل كان مزيجاً عبقرياً من العلم المادي والروحانية. لعبت المرأة دوراً محورياً كطبيبة جراحة وكاهنة متخصصة.

1. البرديات الطبية والتوثيق النسوي

كشفت البرديات مثل "إيبرس" و**"إدوین سميث"** عن تشخيصات دقيقة لأمراض النساء والجراحة. وتشير السجلات إلى طبيبات عظيمات مثل "بسيشيت" (Peseshet) التي حملت لقب "كبيرة

الطبيبات"، مما يؤكد أن المرأة كانت تُدرّس العلوم الطبية وتدير مؤسسات طبية كبرى تُعرف بـ "بيوت الحياة بر عنخ".

2. إيزيس والتمريض السحري

في حين تخصصت كاهنات حتحور في العطور والعلاجات النفسية، كانت كاهنات إيزيس هن "القابلات" الرسميات، يعتمدن على معرفة عميقة بفيزيولوجيا المرأة. استخدموا ما يسمى "الطب السحري" وهو في حقيقته استخدام "الكلمة" والذبذبات لتهدئة روع المريض وتحفيز طاقته للشفاء.

نوت وسخمت وساشات: تعدد الأدوار الأنثوية

الحضارة المصرية لم تحصر المرأة في قالب واحد:

نوت (السماء): هي الأنثى الكونية التي

تحوي الكون في رحمها. نجومها هم "الأولياء" الذين ينيرون عتمة الليل، و تولد الحياة و يولد الامل كل صباح.

سخمت (النار): ربة القوة والنار المقدسة التي تفني الشر لتنقي الأرض وتطهرها.

ساشات (الكتابة): رمز الكتابة و التوثيق للعلوم و التقويم ، تلبس جلد النمر وتؤكد أن الثقافة والتدوين و التوثيق شأن أنثوي بامتياز.

باستت (القطة): تمثل العناية بالذات (Self-care)، السكينة، والحدس.

الاغتراب الثقافي: لماذا فقدنا الاتصال؟

لماذا يعرف أبناؤنا "فينوس" ولا يعرفون "حتحور"؟ الإجابة تكمن في طبقات الاحتلال الفكري. من اليونان والرومان إلى الغزو الثقافي الحديث، كل وافد حاول

تغطية الثقافة المصرية بطبقة من ثقافته.

لقد تحولنا بمرور الوقت إلى "متسولين ثقافيين"؛ نستورد المفاهيم من الخارج بينما الأصول لدينا. فن "الآرت ديكو" (Art Deco) الذي غزا العالم في القرن العشرين كنتيجة للهوس بمصر عند اكتشاف مقبرة توت عنخ امون، هو في جوهره مستوحى من الخطوط والمفاهيم المصرية القديمة، ومع ذلك نتلقاه اليوم كمنتج غربي و ننبهر به للاسف!

الشخصية المصرية: ثراء بزيادة أم ضعف؟

يعتقد البعض أن تراجعنا هو ضعف، لكني أراه نتيجة لثراء زائد. المصري القديم كان يعيش في "جنة" طبيعية آمنة، مما جعلنا مرتاحين "مرحرحين " وواثقين بزيادة. نحن لا نملك طبيعة عدوانية

(Aggressive Nature)؛ فالطبيعة في أوروبا قاسية تجبر الإنسان على الحرب للبقاء، بينما في مصر، الشمس والنيل يمنحان رغد العيش، مما أدى إلى نوع من الاسترخاء الحضاري.

الخاتمة: العودة إلى الجوهر

كل المحاولات التي تدعي أننا لسنا أحفاد المصريين القدماء هي محاولات لتجريدنا من قوتنا. نحن نتنفس مصر القديمة في كل كلمة ننطقها، وفي كل طقس نمارسه.

إن استعادة الرموز الأنثوية ليست دعوة للماضي، بل هي استرداد لما نملكه بالفعل لتقدير الذات. عندما تدرك المرأة المصرية مصادر الالهام في المعني و الرمز "إيزيس" و"حتحور" و"ماعت"، حفيدة عالمات و طبيبات و مبدعات لن ترضى بأن تكون

نسخة مشوهة، بل ستعود لتكون "الأصل" الذي يمنح العالم النور، الجمال، والشفاء.

نهال عمران (باحثة في قضايا المرأة والثقافة المصرية)

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
ترامب: قدمت الكثير لإسرائيل وسأظل صديقًا ومدافعًا عن الشعب اليهودي