تتغير المُفردات اللُغوية فى اللهجة العامية التى يستخدمها الإنسان فى حياته اليومية من زمن إلى زمن ومن جيل إلى جيل بشكل مُرعب، ويحدث هذا التغيير فى جميع اللُغات وفى جميع المُجتمعات، والذى يتغير دائماً هو اللهجة العامية أما اللُغة الأصلية فلا تتغير وإنما تتطور فقط، وذلك بإضافة بعض الكلمات التى لم تكن موجودة سابقاً والتى غالباً ما تكون ذات علاقة بالإختراعات أو الإحتكاك بثقافات أخرى، فكلمة (تِلفاز) مثلاً لم تكن موجودة قبل إختراع جهاز التليفزيون فى القرن الماضى قبل أن تتم إضافتها لمعاجم اللغة العربية، وفى الانجليزية أضيفت كلمة (Mahalo) لقاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية وهى كلمة بمعنى شكراً، وهى كلمة مُشتقة من اللغة المحلية لجزيرة هاواى.
وتتغير اللهجة العامية بإستمرار وبسرعة، لذلك فالويل لمن لا يُتابع هذا التغيير ويسأل عن المعانى الجديدة (والكلام الجديد اللى نزل) !واللهجة العامية تُكتسب بالتعايش وبالمحبة، فلن تستطيع أن تفهم اللهجة المحلية لأى مُجتمع ما لم تعيش فيه، ولن تكتسب لهجة مُجتمع لم تُحبه أو تحترمه حتى لو كُنت من أبناء البلد نفسه، وكثيراً ما نرى كُبار السن فى بعض المُجتمعات مُنعزلين وغير متابعين للهجة العامية وتطوراتها، فقد كَرِهوا الحياه والعصر ومفرداته.
والمصرى الذى لا يُحب ولا يحترم اللهجة المصرية العامية الشعبية الجديدة ( يا زميلى، يا شقيق) والذى لا يحترم المُفردات الإنجليزية فى اللهجة المصرية الراقية مثل (Hi،basically, actually, never) لن يستطيع التعامل مع قاع المُجتمع أو قمته، وسيجد نفس الصعوبة التى سيجدها أى أجنبى وصل مصر لتوه.
وقد جَلسْت كثيراً على مائدة طعام واحدة مع أصدقاء عمل جزائريين نتحدث ونضحك باللُغة العربية وقد كانوا مُحترَمين ومُجاملين ويُراعون إختلاف اللهجات ويستخدمون من الألفاظ ما أستطيع أن أفهمه وأستخدم أنا ما يستطيعون أن يفهموه، لكن ما إن يبدأوا فى حديثهم الخاص بلغتهم العامية حتى ينقطع الإرسال تماماً ولا أفهم بعدها شيئاُ مما يقولون، هذا كله ونحن نتحدث نفس اللغة العربية، إذ لا تُغنى اللقاءات السريعة عن التعايش.
وحسب العلم والدراسات تتأثر اللهجات بعدد من العوامل وإذا جاز لى أن أوجز هذه العوامل وأُطبقها على اللغة العامية المصرية كمثال فهى كما يلى:
أولاً وراثة بعض الألفاظ عَبر الأجيال: وهو العامل الذى يُساعد على بقاء بعض الكلمات العامية مهما طال الزمن، لم نستغنى ولا أظن أننا فى مصر سنستغنى قريبا عن كلمات مثل ( ماشى –معلش) فهذه الكلمات الرقيقة العبقرية المتعددة المعانى والتى نستطيع فقط بتغيير نبرة الصوت أن نوصل بها عشرات المعانى هى كلمات لم ولن تستغنى عنها الأجيال، فكلمة (ماشى) هى كلمة من الممكن إستخدامها فى السؤال والتهديد والموافقة و السخرية والسير فقط بتغيير نبرة الصوت.
ثانياً: الإختلاط مع اللغات والحضارات الأخرى، وهذا شئ يُمكن ملاحظته فى اللغة العامية المصرية دون أدنى مجهود، فلُغتنا العامية مليئة بالكلمات ذات الأصول التركية والإيطالية والفرنسية
ثالثاً: حالة المجتمع بمتغيراته الإجتماعية والسياسية وها هو حالنا فى سطور فى السنين الأخيرة:
فى الثلاثينات والأربعينات:) كيف كان المُجتمع مُنقسماً بين فئة من الباشوات المُرفهين أصحاب الكلمات الرسمية الأنيقة ( ممنون وعفارم) وبين الفلاحين والصعايدة البُسطاء الذين يتحدثون بلهجتهم البسيطة الفطرية.
فى الخمسينات والستينات: جاءت الثورة وإهتمت بالتعليم وزادت قيمة الوظيفة الحكومية وجاءت الإشتراكية بمفرداتها المُعقدة، ويصبح الحوار فى الشارع المصرى أكثر رقياً وثقافة ويتسع ليشمل الجميع ، إذ يجلس الجميع ليسمع خطاب الرئيس والكل يجتهد ليفهم ما يقوله الزعيم، وتُغنى أم كلثوم ويكتب الحكيم ونجيب محفوظ، ويرتفع مستوى الحوار ويصبح حواراً راقياً مُثقفاً، فتظهر الألفاظ العملية التى تجمع بين العربية الفصحى والعامية (أظن، يبدو، إحتمال، وارد)
فى السبعينات والثمانينات: ظهرت الكلمات المُتعلقة بالأعمال الخاصة والبزنس بعد أن خرجنا من عباءة الإشتراكية،كما أصبحت الألفاظ الشعبية مقبولة وإن كانت تُقال فقط على سبيل الدُعابة والكوميديا.
فى التسعينات والألفية: جاءت الشركات الخاصة والدولية بثقلها خالقة حالة من الإنقسام فى المجتمع وأصبحت نتكلم لهجتين فى مصر، لهجة شعبية ذات مفردات فجة ولهجة هجينة بين العربي والإنجليزى يتكلمها أولاد المدارس والجامعات والدولية وموظفين الشركات الأجنبية بستراتهم الأنيقة
أما ما نراه الأن من كلمات غير مفهومة فهو ربما نتيجة مواقع التواصل، إذ أصبحنا نتكلم حسب (الترند) وأصبح التغيير فى اللهجة أسرع وأسهل، فإذا كان من على قمة (الترند) شعبياً تبعته اللهجة، وإن كان من على القمة راقياً تبعته اللهجة مُباشرة.
رابعاً الجغرافيا: إذ تسود المُفردات العامية للعاصمة والمُدن الكُبرى دائما أنحاء البلاد وتُصبح هى المثل الأعلى والمُمثل الرسمى للهجة العامية فى كل البلاد، كما تتسرب اللهجات العامية للبلاد المجاورة حتى أن لهجات المُدن الحدودية بين دولتين تكون واحدة، فعلى سبيل المثال تتشابة لهجة الفلسطينين مع لهجة أهل شمال سيناء فى أغلب المُفردات.
أما العامل الأهم والذى يختلف دوره بإختلاف موقعه فهو دور الفن والأدب، فهو إما قائد أو تابع ، فإن إختار الفن والأدب أن يُمثل الحِلم الجميل لأى مجتمع فسيكون قائداً مُلهماً، عندما يكون الكِتاب والمسرح والسينما هو مدخل لعالم سحرى ملئ بالجمال والفضائل والنظافة ومكارم الأخلاق فحتماً ستتبعه اللُغة وترتقى، وإما إن إختار الفن أن يكون مُجرد مرأه لحال المُجتمع -كما هو الحال الأن – فلن يُضيف شيئاً بل سيكون تابعاً للمجتمع وستُكتب الكُتب والمسرحيات والأفلام من واقع ما يتكلمه الناس
ولا يستطيع أحد أن يتغافل عن تأثير الجانب الدينى على اللهجة العامية، فالمجتمع المُلتزم المٌحافظ ألفاظه مُهذبة راقية لا إسفاف فيها ولا فجاجة، كما أن الشخص المُلتزم هو دائماً فاكهة المُجتمع فهو إما قُدوة حقيقية يسعى الكُل لتقليدها حتى فى طريقة الكلام كما يتحاشى الناس الكلام المُسف فى حضور شخص مُتدين.
نتمنى أن تعود لُغتنا العامية نظيفة راقية خالية من التلميحات كما كانت دائماً وأن يكون كلامنا دائماً أحلى كلام.