ads

المال لا يصنع دولاً ولا حضارة .. مصر باقية والحفاة العراة زائلون

محمد مختار
محمد مختار

في ظل تقلبات سياسة واقتصادية تعصف بالإقليم ، حيث تتسارع وتيرة التطور وتتراكم الثروات، يبرز سؤال جوهري: هل المال هو حقًا صانع الحضارات وراسم ملامحها؟ هل يمكن للمليارات المتدفقة أن تشتري تاريخًا، أو تبني إرثًا، أو تخلد ذكرى؟ الإجابة، وبكل وضوح، هي لا. فالحضارة، في جوهرها، ليست كومة من الذهب أو مجموعة من ناطحات السحاب. إنها الروح المتأصلة في شعب، والفكر المتوهج في عقول أبنائه، والقيم المتوارثة عبر الأجيال. إنها صمود الأهرامات في وجه الزمن، وبهاء المعابد التي تحدت قرونًا، ونور المعرفة الذي أضاء دروب البشرية. ولعل مصر، بعبق تاريخها الذي يمتد لآلاف السنين، هي خير شاهد على هذه الحقيقة الخالدة: المال لا يصنع حضارة، فمصر باقية، والحفاة العراة زائلون.

أهرامات الفكر لا الثروة

عندما نتأمل الحضارة المصرية القديمة، لا يتبادر إلى أذهاننا الثراء الفاحش للملوك أو وفرة الذهب في مقابرهم. بل نستحضر عظمة الأهرامات، ودقة النقوش الفرعونية، وروعة التماثيل التي أُبدعت بأيدي فنانين ومهندسين لم يكونوا بالضرورة أثرياء. هذه الإنجازات لم تكن وليدة المال وحده، بل كانت نتاجًا ل الفكر المستنير، والتنظيم الدقيق، والإيمان العميق، والرؤية الثاقبة. لقد آمن المصريون القدماء بالحياة الأخرى، وبخلود الروح، فبنوا صروحًا خالدة تعبر عن هذا الإيمان. لم يبنوا الأهرامات ليتفاخروا بثرواتهم، بل ليؤمنوا طريق ملوكهم إلى الخلود، وليتركوا بصمة إنسانية تدل على قدراتهم الفائقة. هذا هو جوهر الحضارة: الإبداع المتأصل في الروح الإنسانية، الذي يتجاوز حدود المادة.

لقد كانت الحضارة المصرية مبنية على ركائز معرفية وعلمية عميقة. فالمصريون القدماء أتقنوا علوم الفلك والهندسة والطب، وابتكروا نظامًا كتابيًا فريدًا هو الهيروغليفية، وطوروا نظامًا زراعيًا يعتمد على فيضان النيل. كل هذه الإنجازات لم تكن لتتحقق بمجرد ضخ الأموال، بل تطلبت عقولًا مفكرة، وأيادي عاملة، وروحًا جماعية مفعمة بالهدف. لقد كانت الحضارة المصرية ثمرة عمل دؤوب وتراكم معرفي على مدى آلاف السنين، وليس وليدة طفرة مالية عابرة.

الحفاة العراة: الثروة العابرة والزوال الحتمي

في المقابل، شهد التاريخ صعود وسقوط العديد من الأمم والدول التي امتلكت ثروات هائلة، لكنها لم تترك إرثًا حضاريًا يُذكر. هذه الأمم، التي يمكن أن نطلق عليها مجازًا 'الحفاة العراة' بمعناها الحضاري، ربما كانت تتمتع بترف مؤقت، وبذخ مادي، لكنها افتقرت إلى الجوهر الحقيقي للحضارة. لقد بنوا قصورًا فاخرة، وجمعوا كنوزًا لا تُحصى، لكنهم لم يبنوا إنسانًا، ولم يغرسوا قيمًا، ولم يتركوا فكرًا يُحتذى به.

هؤلاء 'الحفاة العراة' هم من يظنون أن المال يمكن أن يشتري لهم المجد، أو أن يغطي على فراغهم الروحي، أو أن يمحو ضحالة فكرهم. إنهم يبنون على الرمال، ويزينون الواجهة دون أساس متين. وعندما تتغير الظروف الاقتصادية، أو تتبدل موازين القوى، تنهار قلاعهم المصطنعة، وتتلاشى ثرواتهم الزائفة، ويزول ذكرهم كما يزول السراب. إنهم يختفون من ذاكرة التاريخ لأنهم لم يضيفوا إليها شيئًا ذا قيمة حقيقية تتجاوز مجرد الاستهلاك والتفاخر.

فالحضارة لا تُقاس بكمية النفط المستخرجة، أو بحجم الصادرات، أو بعدد الحسابات المصرفية. إنها تُقاس بمدى مساهمة الأمة في رقي البشرية، وإثرائها للفكر الإنساني، وتركها بصمة إيجابية في سجل التقدم البشري.

مصر باقية: الجوهر الثابت في وجه المتغيرات

لماذا صمدت مصر، بينما زالت ممالك أخرى؟ لماذا بقيت أهراماتها شامخة، ونقوشها محفورة، بينما تلاشت آثار أقوام كانوا أكثر ثراءً منها في فترات معينة؟ الإجابة تكمن في الجوهر الثابت للحضارة المصرية. لقد كانت مصر قوية ب وحدة شعبها، وتماسك نسيجها الاجتماعي، وعمق إيمانها، وقدرتها على التكيف والتجديد. النيل، شريان الحياة، لم يكن مجرد مصدر للماء، بل كان رمزًا للوحدة والتعاون والتنظيم. الزراعة، أساس الاقتصاد، علمت المصريين الصبر والمثابرة والعمل الجماعي. الفن، تعبير عن الروح، عكس عمق الإيمان وجمال الحس.

حتى في أوقات الشدة والاحتلال، حافظت مصر على هويتها الثقافية والحضارية. استوعبت الغزاة، وتأثرت بهم، لكنها لم تذب فيهم. بل استطاعت أن تحافظ على جوهرها، وأن تستمر في العطاء الحضاري. هذا الصمود لم يكن بفضل وفرة الذهب، بل بفضل غنى الروح، وعمق الجذور، وقوة الهوية.

اليوم، ومع التحديات التي يواجهها العالم، يتوجب على الأمم أن تعي هذه الحقيقة. لا يمكن للمال وحده أن يبني مستقبلًا مستدامًا، أو أن يضمن أمنًا حقيقيًا، أو أن يخلق مجتمعًا مزدهرًا. بل يتطلب ذلك الاستثمار في الإنسان، في التعليم، في البحث العلمي، في القيم الأخلاقية، وفي الفنون والآداب. هذه هي الأسس الحقيقية للحضارة التي تصمد في وجه عواصف الزمن.

بناء المستقبل: بعيدًا عن وهم الثروة الزائفة

إذا أردنا أن نبني حضارة حقيقية لمصر في العصر الحديث، فعلينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من مجرد المؤشرات الاقتصادية. علينا أن نركز على بناء الإنسان المصري، وتنمية قدراته، وتعميق انتمائه لوطنه وتاريخه. يجب أن نستثمر في التعليم الجيد الذي يفتح العقول، وفي البحث العلمي الذي يدفع عجلة التقدم، وفي الثقافة والفنون التي تغذي الروح وتصقل الوعي.

المال يمكن أن يكون أداة مساعدة، محفزًا للتنمية، لكنه ليس الغاية في حد ذاته. إذا أصبح المال هو الهدف الأسمى، ووسيلة للتفاخر والفساد، فإنه سيصبح معول هدم لا بناء. أما إذا وُظف المال بحكمة لخدمة الإنسان، ولتحقيق التنمية المستدامة، ولإرساء قواعد العدل والمساواة، فإنه حينئذ يمكن أن يسهم في بناء حضارة مزدهرة.

فمصر، بتاريخها العريق، تقدم لنا درسًا خالدًا. لقد عاشت آلاف السنين بفضل عبقرية أبنائها، وعمق فكرها، وصمودها في وجه التحديات. لم تبن حضارتها على أكوام الذهب، بل على روح الإبداع والعمل الجماعي والإيمان العميق. وهذا ما يجعلها باقية، بينما يزول كل من يظن أن الثراء المادي يمكن أن يعوض عن الفراغ الروحي والفكري. الحفاة العراة، وإن امتلكوا المال، فهم بلا جوهر، وبلا إرث، ومصيرهم إلى الزوال. أما مصر، بعبق تاريخها وشموخ حضارتها، فهي باقية، وستبقى منارة تضيء دروب الإنسانية.

WhatsApp
Telegram